الفتاوى الكبرى/كتاب الصلاة/2
94 - 10 - مسألة: في أقوام يؤخرون صلاة الفجر إلى بعد طلوع الشمس فتكون لهم أشغال كالزرع والحرث والجنابة وغير ذلك ،فهل لهم أن يؤخروا الصلاة إلى غير وقتها ثم يقضوها؟
الجواب: لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل ولا يؤخر صلاة الليل إلى النهار لشغل من الأشغال لا لحصد ولا لحرث ولا لصناعة ولا لغير ذلك ولا لجنابة ولا نجاسة بل المسلمون كلهم متفقون على أن عليه أن يصلي الظهر والعصر في النهار ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس ولا يترك ذلك لصناعة من الصناعات ومن أخرها لصناعة حتى تغيب الشمس وجبت عقوبته بل يجب قتله عند جمهور العلماء بعد أن يستتاب فإن تاب والتزم أن يصلي في الوقت ألزم بذلك وإن قال لا أصلي إلا بعد غروب الشمس فإنه يقتل.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] وفي الصحيحين عنه ﷺ أنه قال: [ من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ] وفي وصية أبي بكر الصديق لعمر بن الخطاب أنه قال: إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار وحقا بالنهار لا يقبله بالليل والنبي ﷺ أخر صلاة العصر يوم الخندق لاشتغاله بجهاد الكفار وصلاها بعد المغرب فأنزل الله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى }.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ: [ أن الصلاة الوسطى صلاة العصر ] فلهذا قال جمهور العلماء أن ذلك التأخير منسوخ بهذه الآية فلا يجوزون تأخير الصلاة حال القتال بل أوجبوا عليه الصلاة في الوقت حال القتال وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه وعن أحمد رواية أخرى انه يخير حال القتال بين الصلاة وبين التأخير ومذهب أبي حنيفة يشتغل بالقتال ويصلي بعد الوقت
وأما تأخير الصلاة لغير الجهاد كصناعة أو زراعة أو صيد أو عمل من الأعمال ونحو ذلك فلا يجوزه أحد من العلماء بل قد قال تعالى: { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } قال طائفة من السلف: هم الذين يؤخرونها عن وقتها وقال بعضهم: هم الذي لا يؤدونها على الوجه المأمور به وإن صلاها في الوقت فتأخيرها عن الوقت حرام باتفاق العلماء فإن العلماء متفقون على أن تأخير صلاة الليل إلى النهار وتأخير صلاة النهار إلى الليل بمنزلة تأخير صيام شهر رمضان إلى شوال فمن قال أصلي الظهر والعصر بالليل فهو باتفاق العلماء بمنزلة من قال أفطر شهر رمضان وأصوم شوال وإنما يعذر بالتأخير النائم والناسي كما قال النبي ﷺ: [ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها لا كفارة لها إلا ذلك ].
ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها لجنابة ولا حدث ولا نجاسة ولا غير ذلك
بل يصلي في الوقت بحسب حاله فإن كان محدثا وقد عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله تيمم وصلى وكذلك الجنب يتيمم ويصلي إذا عدم الماء أو خاف الضرر باستعماله لمرض أو لبرد وكذلك العريان يصلي في الوقت عريانا ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت في ثيابه وكذلك إذا كان عليه نجاسة لا يقدر أن يزيلها فيصلي في الوقت بحسب حاله
وهكذا المريض يصلي على حسب حاله في الوقت كما قال النبي ﷺ لعمران ابن حصين: [ صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب ] فالمريض باتفاق العلماء يصلي في الوقت قاعدا أو على جنب إذا كان القيام يزيد في مرضه ولا يصلي بعد خروج الوقت قائما
وهذا كله لأن فعل الصلاة في وقتها فرض والوقت أوكد فرائض الصلاة كما أن صيام شهر رمضان واجب في وقته ليس لأحد أن يؤخره عن وقته ولكن يجوز الجمع بين الظهر والعصر بعرفة وبين المغرب والعشاء بمزدلفة باتفاق المسلمين وكذلك يجوز الجمع بين صلاة المغرب والعشاء وبين الظهر والعصر عند كثير من العلماء للسفر والمرض ونحو ذلك من الأعذار
وأما تأخير صلاة النهار إلى الليل: وتأخير صلاة الليل إلى النهار فلا يجوز لمرض ولا لسفر ولا لشغل ولا لصناعة باتفاق العلماء بل قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين صلاتين من غير عذر من الكبائر لكن المسافر يصلي ركعتين ليس عليه أن يصلي أربعا بل الركعتان تجزئ المسافر في سفر القصر باتفاق العلماء ومن قال: إنه يجب على كل مسافر أن يصلي أربعا فهو بمنزلة من قال إنه يجب على المسافر أن يصوم شهر رمضان وكلاهما ضلال مخالف لإجماع المسلمين يستتاب قائله فإن تاب وإلا قتل
والمسلمون متفقون على أن المسافر إذا صلى الرباعية ركعتين والفجر ركعتين والمغرب ثلاثا وأفطر شهر رمضان وقضاه أجزأه ذلك
وأما من صام في السفر شهر رمضان أو صلى أربعا ففيه نزاع مشهور بين العلماء منهم من قال لا يجزئه ذلك فالمريض له أن يؤخر الصوم باتفاق المسلمين وليس له أن يؤخر الصلاة باتفاق المسلمين والمسافر له أن يؤخر الصيام باتفاق المسلمين
وهذا مما يبين أن المحافظة على الصلاة في وقتها أوكد من الصوم في وقته قال تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات } وقال طائفة من السلف: إضاعتها تأخيرها عن وقتها ولو تركوها لكانوا كفارا وقال النبي ﷺ: [ سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ]
ولهذا اتفق العلماء على أن الرجل إذا كان عريانا مثل أن تنكسر بهم السفينة أو تسلبه القطاع ثيابه فإنه يصلي في الوقت عريانا والمسافر إذا عدم الماء يصلي بالتيمم في الوقت باتفاق العلماء وإن كان يجد الماء بعد الوقت وكذلك الجنب والمسافر إذا عدم الماء تيمم وصلى ولا إعادة عليه باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم وكذلك إذا كان البرد شديدا فخاف إن اغتسل أن يمرض فإنه يتيمم ويصلي في الوقت ولا يؤخر الصلاة حتى يصلي بعد الوقت باغتسال وقد قال النبي ﷺ: [ الصعيد الطيب طهور المسلم ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فامسسه بشرتك فإن ذلك خير].
وكل ما يباح بالماء يباح بالتيمم فإذا تيمم لصلاة فريضة قرأ القرآن داخل الصلاة وخارجها وإن كان جنبا ومن امتنع عن الصلاة بالتيمم فإنه من جنس اليهود والنصارى فإن التيمم لأمة محمد ﷺ خاصة كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: [ فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لي الأرض مسجدا وجعلت تربتها طهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ] وفي لفظ: [ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره ]
وإذا كان عليه نجاسة وليس عنده ما يزيلها به صلى في الوقت وعليه النجاسة كما صلى عمر بن الخطاب وجرحه يثغب دما ولم يؤخر الصلاة حتى يخرج الوقت ومن لم يجد إلا ثوبا نجسا فقيل يصلي عريانا وقيل: يصلي فيه ويعيد وقيل: يصلي فيه ولا يعيد وهذا أصح أقوال العلماء فإن الله لم يأمر العبد أن يصلي الفرض مرتين إلا إذا لم يفعل الواجب الذي يقدر عليه في المرة الأولى مثل أن يصلي بلا طمأنينة فعله أن يعيد الصلاة كما أمر النبي ﷺ من صلى ولم يطمئن أن يعيد الصلاة وقال: [ ارجع فصل فإنك لم تصل ]
وكذلك من نسي الطهارة وصلى بلا وضوء فعليه أن يعيد كما أمر النبي ﷺ من توضأ وترك لمعة من قدمه لم يمسها الماء أن يعيد الوضوء والصلاة فأما من يفعل ما أمر به بحسب قدرته فقد قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي ﷺ: [ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ] ومن كان مستيقظا في أول الوقت والماء بعيد منه لا يدركه إلا بعد الوقت فإنه يصلي في الوقت بالتيمم باتفاق العلماء وكذلك إذا كان البرد شديدا ويضره الماء البارد ولا يمكنه الذهاب إلى الحمام أو تسخين الماء حتى يخرج الوقت فإنه يصلي في الوقت بالتيمم
والمرأة والرجل في ذلك سواء فإذا كانا جنبين ولم يمكنهما الإغتسال حتى يخرج الوقت فإنهما يصليان في الوقت بالتيمم والمرأة الحائض إذا انقطع دمها في الوقت ولم يمكنها الاغتسال إلا بعد خروج الوقت تيممت وصلت في الوقت ومن ظن أن الصلاة بعد خروج الوقت بالماء خير من الصلاة في الوقت بالتيمم فهو ضال جاهل
وإذا استيقظ آخر وقت الفجر فإذا اغتسل طلعت الشمس فجمهور العلماء هنا يقولون يغتسل ويصلي بعد طلوع الشمس وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وأحد القولين في مذهب مالك وقال في القول الآخر: بل يتيمم أيضا هنا ويصلي قبل طلوع الشمس كما تقدم في تلك المسائل لأن الصلاة في الوقت بالتيمم خير من الصلاة بعده بالغسل والصحيح قول الجمهور لأن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ كما قال النبي ﷺ: [ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ] فالوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ وما قبل ذلك لم يكن وقتا في حقه
وإذا كان كذلك فإذا استيقظ قبل طلوع الشمس فلم يمكنه الاغتسال والصلاة إلا بعد طلوعها فقد صلى الصلاة في وقتها ولم يفوتها بخلاف من استيقظ في أول الوقت فإن الوقت في حقه قبل طلوع الشمس فليس له أن يفوت الصلاة
وكذلك من نسي صلاة وذكرها فإنه حينئذ يغتسل ويصلي في أي وقت كان وهذا هو الوقت في حقه فإذا لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس كما استيقظ أصحاب النبي ﷺ لما ناموا عن الصلاة عام خيبر فإنه يصلي بالطهارة الكاملة وإن أخرها إلى حين الزوال فإذا قدر أنه كان جنبا فإنه يدخل الحمام ويغتسل وإن أخرها إلى فوت الزوال ولا يصلي هنا بالتيمم.
ويستحب له أن ينتقل عن المكان الذي نام فيه كما انتقل النبي ﷺ وأصحابه عن المكان الذي ناموا فيه وقال: هذا مكان حضرنا فيه الشياطين وقد نص على ذلك أحمد وغيره وإن صلى فيه جازت صلاته
فإن قيل: هذا يسمى قضاء أو أداء
قيل: الفرق بين اللفظين هو فرق اصطلاحي لا أصل له في كلام الله ورسوله فإن الله تعالى سمى فعل العبادة في وقتها قضاء كما قال في الجمعة: { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } وقال تعالى: { فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله } مع أن هذين يفعلان في الوقت والقضاء هو في لغة العرب الإكمال قال تعالى: { فقضاهن سبع سماوات } أي: أكملهن وأتمهن فمن فعل العبادة كاملة فقد قضاها وإن فعلها في وقتها
وقد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت صلاته ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته
وكل من فعل العبادة في الوقت الذي أمر به أجزأته صلاته سواء نواها أداء أو قضاء والجمعة تصح سواء نواها أداء أو قضاء وأراد القضاء المذكور في القرآن
والنائم والناسي إذا صليا وقت الذكر والانتباه فقد صليا في الوقت المشروع لغيرهما فمن سمى ذلك قضاء باعتبار هذا المعنى وكان في لغته أن القضاء فعل العبادة بعد خروج الوقت المقدر شرعا للعموم فهذه التسمية لا تضر ولا تنفع
وبالجملة فليس لأحد قط شغل يسقط عنه فعل الصلاة في وقتها بحيث يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار بل لا بد من فعلها في الوقت لكن يصلي بحسب حاله فما قدر عليه من فرائضها فعله وما عجز عنه سقط عنه
ولكن يجوز للعذر الجمع بين صلاتي النهار وبين صلاتي الليل عند أكثر العلماء فيجوز الجمع للمسافر إذا جد به السير عند مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه ولا يجوز في الرواية الأخرى عنه وهو قول أبي حنيفة وفعل الصلاة في وقتها أولى من الجمع إذا لم يكن عليه حرج بخلاف القصر فإن صلاته ركعتين أفضل من صلاة أربع عند جماهير العلماء فلو صلى المسافر أربعا فهل تجزئه صلاته؟ على قولين والنبي ﷺ كان في جميع أسفاره يصلي ركعتين ولم يصلي في السفر أربعا قط ولا أبو بكر ولا عمر.
وأما الجمع فإنما كان يجمع بعض الأوقات إذا جد به السير وكان له عذر شرعي كما جمع بعرفة ومزدلفة وكان يجمع في غزوة تبوك أحيانا كان إذا ارتحل قبل الزوال أخر الظهر إلى العصر ثم صلاهما جميعا وهذا ثابت في الصحيح وأما إذا ارتحل بعد الزوال فقد روي أنه كان صلى الظهر والعصر جميعا كما جمع بينهما بعرفة وهذا معروف في السنن وهذا إذا كان لا ينزل إلى وقت المغرب كما كان بعرفة لا يفيض حتى تغرب الشمس وأما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها فليس القصر كالجمع بل القصر سنة راتبة وأما الجمع فإنه رخصة عارضة
ومن يسوي من العامة بين الجمع والقصر فهو جاهل بسنة رسول الله ﷺ وبأقوال علماء المسلمين فإن سنة رسول الله ﷺ فرقت بينهما والعلماء اتفقوا على أن أحدهما سنة واختلفوا في وجوبه وتنازعوا في جواز الآخر فأين هذا من هذا.
وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نص على أنه يجوز الجمع للحرج والشغل بحديث روي في ذلك قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابه يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له الجمع ويجوز عنده وعند مالك وطائفة من أصحاب الشافعي الجمع للمرض ويجوز عند الثلاثة الجمع للمطر بين المغرب والعشاء وفي صلاتي النهار نزاع بينهما ويجوز في ظاهر مذهب أحمد ومالك الجمع للوحل والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك ويجوز للمرضع أن تجمع إذا كان يشق عليها غسل الثوب في كل صلاة نص عليه أحمد وتنازع العلماء في الجمع والقصر هل يفتقر إلى نية فقال جمهورهم لا يفتقر إلى نية وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد القولين في مذهب أحمد وعليه تدل نصوصه وأصوله.
وقال الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد أنه يفتقر إلى نية وقول الجمهور هو الذي تدل عليه سنه رسول الله ﷺ والله سبحانه وتعالى أعلم
95 - 11 - مسألة: عمن يؤمر بالصلاة فيمتنع وماذا يجب عليه؟ ومن اعتذر بقوله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله هل يكون له عذر في أنه لا يعاقب على ترك الصلاة أم لا؟ وماذا يجب على الأمراء وولاة الأمور في حق من تحت أيديهم إذا تركوا الصلاة؟ وهل قيامهم في ذلك من أعظم الجهاد وأكبر أبواب البر؟
الجواب: الحمد لله من يمتنع عن الصلاة المفروضة فإنه يستحق العقوبة الغليظة باتفاق أئمة المسلمين بل يجب عند جمهور الأمة: كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل
بل تارك الصلاة شر من السارق والزاني وشارب الخمر وآكل الحشيشة
ويجب على كل مطاع أن يأمر من يطيعه بالصلاة حتى الصغار الذين لم يبلغوا قال النبي ﷺ: [ مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع].
ومن كان عنده صغير مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره بالصلاة فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير ويغرر الكبير على ذلك تعزيرا بليغا لأنه عصى الله ورسوله وكذلك من عنده مماليك كبار أو غلمان الخيل والجمال والبزاة أو فراشون أو بابية يغسلون الأبدان والثياب أو خدم أو زوجة أو سرية أو إماء فعليه أن يأمر جميع هؤلاء بالصلاة فإن لم يفعل كان عاصيا لله ورسوله ولم يستحق هذا أن يكون من جند المسلمين بل من جند التتار فإن التتار يتكلمون بالشهادتين ومع هذا فقتالهم واجب بإجماع المسلمين.
وكذلك كل طائفة ممتنعة عن شريعة واحدة من شرائع الإسلام الظاهرة أو الباطنة المعلومة فإنه يجب قتالها فلو قالوا: نشهد ولا نصلي قوتلوا حتى يصلوا ولو قالوا: نصلي ولا نزكي قوتلوا حتى يزكوا ولو قالوا: نزكي ولا نصوم ولا نحج قوتلوا حتى يصوموا رمضان ويحجوا البيت ولو قالوا: نفعل هذا لكن لا ندع الربا ولا شرب الخمر ولا الفواحش ولا نجاهد في سبيل الله ولا نضرب الجزية على اليهود والنصارى ونحو ذلك قوتلوا حتى يفعلوا ذلك كما قال تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله }
وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} والربا آخر ما حرم الله وكان أهل الطائف قد أسلموا وصلوا وجاهدوا فبين الله أنهم إذا لم ينتهوا عن الربا كانوا ممن حارب الله ورسوله.
وفي الصحيحين أنه لما توفي رسول الله ﷺ وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟ وقد قال النبي ﷺ: [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ] فقال أبو بكر ألم يقل: إلا بحقها والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق.
وفي الصحيح أن النبي ﷺ ذكر الخوارج فقال: [ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة]، فإذا كان الذين يقومون الليل ويصومون النهار ويقرأون القرآن أمر النبي ﷺ بقتالهم لأنهم فارقوا السنة والجماعة فكيف بالطوائف الذين لا يلتزمون شرائع الإسلام وإنما يعملون بباساق ملوكهم وأمثال ذلك والله أعلم
12 - 96 - مسألة: عن رجل يأمره الناس بالصلاة ولم يصل فما الذي يجب عليه؟
الجواب: إذا لم يصل فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل والله أعلم
13 - 97 - مسألة: عمن ترك صلاة واحدة عمدا بنية أنه يفعلها بعد خروج وقتها قضاء فهل يكون فعله كبيرة من الكبائر؟
الجواب: الحمد لله نعم تأخير الصلاة عن غير وقتها الذي يجب فعلها فيه عمدا من الكبائر بل قد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر وقد رواه الترمذي مرفوعا عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: [ من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر ]
ورفع هذا إلى النبي ﷺ وإن كان فيه نظر فإن الترمذي قال: العمل على هذا عند أهل العلم والأثر معروف وأهل العلم ذكروا ذلك مقرين له لا منكرين له
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: [ من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله ] وحبوط العمل لا يتوعد به إلا على ما هو من أعظم الكبائر وكذلك تفويت العصر أعظم من تفويت غيرها فإنها الصلاة الوسطى المخصوصة بالأمر بالمحافظة عليها وهي التي فرضت على من كان قبلنا فضيعوها فمن حافظ عليها فله الأجر مرتين وهي التي لما فاتت سليمان فعل بالخيل ما فعل
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أيضا أنه قال: [ من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ] والموتور أهله وماله يبقى مسلوبا ليس له ما ينتفع به من الأهل والمال وهو بمنزلة الذي حبط عمله
وأيضا فإن الله تعالى يقول: { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون } فتوعد بالويل لمن يسهو عن الصلاة حتى يخرج وقتها وإن صلاها بعد ذلك وكذلك قوله تعالى: { فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا } وقد سألوا ابن مسعود عن إضاعتها فقال: هو تأخيرها حتى يخرج وقتها فقالوا: ما كنا نرى ذلك إلا تركها فقال: لو تركوها لكانوا كفارا وقد كان ابن مسعود يقول عن بعض أمراء الكوفة في زمانه: ما فعل خلفكم؟ لكونهم كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها وقوله: { اتبعوا الشهوات } يتناول كل من استعمل ما يشتهيه عن المحافظة عليها في وقتها سواء كان المشتهى من جنس المحرمات: كالمأكول المحرم والمشروب المحرم والمنكوح المحرم والمسموع المحرم أو كان من جنس المباحات لكن الاسراف فيه ينهى عنه أو غير ذلك فمن اشتغل عن فعلها في الوقت بلعب أو لهو أو حديث مع أصحابه أو تنزه في بستانه أو عمارة عقاره أو سعى في تجارته أو غير ذلك فقد أضاع تلك الصلاة واتبع ما يشتهيه
وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون } ومن ألهاه ماله وولده عن فعل المكتوبة في وقتها دخل في ذلك فيكون خاسرا وقال تعالى في ضد هؤلاء: { يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة }
فإذا كان سبحانه قد توعد بلقي الغي من يضيع الصلاة عن وقتها ويتبع الشهوات والمؤخر لها عن وقتها مشتغلا بما يشتهيه هو مضيع لها متبع لشهوته فدل ذلك على أنه من الكبائر إذ هذا الوعيد لا يكون إلا على كبيرة ويؤيد ذلك جعله خاسرا والخسران لا يكون بمجرد الصغائر المكفرة باجتناب الكبائر.
وأيضا فلا شك أن من صلى بلا طهارة أو إلى غير القبلة عمدا وترك الركوع والسجود أو القراءة أو غير ذلك متعمدا أنه قد فعل بذلك كبيرة بل قد يتورع في كفره إن لم يستحل ذلك وأما إذا استحله فهو كافر بلا ريب.
ومعلوم أن الوقت للصلاة مقدم على هذه الفروض وغيرها فإنه لا نزاع بين المسلمين أنه إذا علم المسافر العادم للماء أنه يجده بعد الوقت لم يجز له تأخير الصلاة ليصليها بعد الوقت بوضوء أو غسل: بل ذلك هو الفرض وكذلك العاجز عن الركوغ والسجود والقراءة إذا استحله فهو كافر بلا ريب
ومعلوم أنه إن علم أنه بعد الوقت يمكنه أن يصلي بإتمام الركوع والسجود والقراءة كان الواجب عليه أن يصلي في الوقت لإمكانه
وأما قول بعض أصحابنا: إنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها إلا لناو لجمعها أو مشتغل بشرطها فهذا لم يقله قبله أحد من الأصحاب بل ولا أحد من سائر طوائف المسلمين إلا أن يكون بعض أصحاب الشافعي فهذا أشك فيه ولا ريب أنه ليس على عمومه وإطلاقه بإجماع المسلمين وإنما فيه صورة معروفة كما إذا أمكن الواصل إلى البئر أن يضع حبلا يستقي ولا يفرغ إلا بعد الوقت وإذا أمكن العريان أن يخيط له ثوبا ولا يفرغ إلا بعد الوقت ونحو هذه الصور ومع هذا فالذي قاله في ذلك خلاف المذهب المعروف عن أحمد وأصحابه وخلاف قول جماعة علماء المسلمين من الحنفية والمالكية وغيرهم
وما أعلم من يوافقه على ذلك إلا بعض أصحاب الشافعي ومن قال ذلك فهو محجوج بإجماع المسلمين على أن مجرد الاشتغال بالشرط لا يبيح تأخير الصلاة عن وقتها المحدود شرعا فإنه لو دخل الوقت وأمكنه أن يطلب الماء وهو لا يجده إلا بعد الوقت لم يجز له التأخير باتفاق المسلمين وإن كان مشتغلا بالشرط وكذلك العريان لو أمكنه أن يذهب إلى قرية ليشتري له منها ثوبا وهو لا يصلي إلا بعد خروج الوقت لم يجز له التأخير بلا نزاع
والأمي كذلك إذا أمكنه تعلم الفاتحة وهو لا يتعلمها حتى يخرج الوقت كان عليه أن يصلي في الوقت وكذلك العاجز عن تعلم التكبير والتشهد إذا ضاق الوقت صلى بحسب الإمكان ولم ينتظر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها أن تؤخر وكذلك المستحاضة لو كان دمها ينقطع بعد الوقت لم يجز لها أن تؤخر الصلاة لتصلي بطهارة بعد الوقت بل تصلي في الوقت بحسب الإمكان
وأما حيث جاز الجمع فالوقت واحد والمؤخر ليس بمؤخر عن الوقت الذي يجوز فعلها فيه بل في أحد القولين أنه لا يحتاج الجمع إلى النية كما قال أبو بكر
وكذلك القصر وهو مذهب الجمهور: كأبي حنيفة ومالك
وكذلك صلاة الخوف تجب في الوقت مع إمكان أن يؤخرها فلا يستدبر القبلة ولا يعمل عملا كثيرا في الصلاة ولا يتخلف عن الإمام بركعة ولا يفارق الإمام قبل السلام ولا يقضي ما سبق به قبل السلام ونحو ذلك مما يفعل في صلاة الخوف وليس ذلك إلا لأجل الوقت وإلا ففعلها بعد الوقت ولو بالليل ممكن على الإكمال
وكذلك من اشتبهت عليه القبلة وأمكنه تأخير الصلاة إلى أن يأتي مصرا يعلم فيه القبلة لم يجز له ذلك وإنما نازع من نازع إذا أمكنه تعلم دلائل القبلة ولا يتعلمها حتى يخرج الوقت وهذا النزاع هو القول المحدث الشاذ الذي تقدم ذكره
وأما النزاع المعروف بين الأئمة في مثل ما إذا استيقظ النائم في آخر الوقت ولم يمكنه أن يصلي قبل الطلوع بوضوء: هل يصلي بتيمم؟ أو يتوضأ ويصلي بعد الطلوع؟ على قولين مشهورين:
الأول: قول مالك: مراعاة للوقت
الثاني: قول الأكثرين كأحمد والشافعي وأبي حنيفة
وهذه المسألة هي التي توهم من توهم أن الشرط مقدم على الوقت وليس كذلك فإن الوقت في حق النائم هو من حين يستيقظ كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: [ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها ] فجعل الوقت الذي أوجب الله على العبد فيه هو وقت الذكر والانتباه وحينئذ فمن فعلها في هذا الوقت بحسب ما يمكنه من الطهارة الواجبة فقد فعلها في الوقت وهذا ليس بمفرط ولا مضيع لها قال النبي ﷺ: [ ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة ]
بخلاف المتنبه من أول الوقت فإنه مأمور أن يفعلها في ذلك الوقت بحيث لو أخرها عنه عمدا كان مضيعا مفرطا فإذا اشتغل عنها بشرطها وكان قد أخرها عن الوقت الذي أمر أن يفعلها فيه ولولا أنه مأمور بفعلها في ذلك الوقت لجاز تأخيرها عن الوقت إذا كان مشتغلا بتحصيل ماء الطهارة أو ثوب الاستعارة بالذهاب إلى مكانه ونحو ذلك وهذا خلاف إجماع المسلمين بل المستيقظ في آخر الوقت إنما عليه أن يتوضأ كما يتوضأ المستيقظ في الوقت فلو أخرها لأنه يجد الماء عند الزوال ونحو ذلك لم يجز له ذلك
وأيضا فقد نص العلماء على أنه إذا جاء وقت الصلاة ولم يصل فإنه يقتل وإن قال أنا أصليها قضاء كما يقتل إذا قال: أصلي بغير وضوء أو إلى غير القبلة وكل فرض من فرائض الصلاة المجمع عليها إذا تركه عمدا فإنه يقتل بتركه كما أنه يقتل بترك الصلاة
فإن قلنا: يقتل بضيق الثانية والرابعة فالأمر كذلك وكذلك إذا قلنا: يقتل بضيق الأولى وهو الصحيح أو الثالثة فإن ذلك مبني على أنه: هل يقتل بترك صلاة أو بثلاث؟ على روايتين
وإذا قيل بترك صلاة فهل يشترط وقت التي بعدها أو يكفي ضيق وقتها؟ على وجهين وفيها وجه ثالث: وهو الفرق بين صلاتي الجمع وغيرها ولا يعارض ما ذكرناه أنه يصح بعد الوقت بخلاف بقية الفرائض: لأن الوقت إذا فات لم يمكن استداركه فلا يمكنه أن يفعلها إلا فائتة ويبقى إثم التأخير من باب الكبائر التي تمحوها التوبة ونحوها وأما بقية الفرائض فيمكن استدراكها بالقضاء
وأما الأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة عن وقتها ونهى النبي ﷺ عن قتالهم فإن قيل: إنهم كانوا يؤخرون الصلاة إلى آخر الوقت فلا كلام وإن قيل - وهو الصحيح - إنهم كانوا يفوتونها فقد أمر النبي ﷺ الأمة بالصلاة في الوقت وقال:
[ اجعلوا صلاتكم معهم نافلة ] ونهى عن قتالهم كما نهى عن قتال الأئمة إذا استأثروا وظلموا الناس حقوقهم واعتدوا عليهم فإن كان يقع من الكبائر في أثناء ذلك ما يقع
ومؤخرها عن وقتها فاسق والأئمة لا يقاتلون بمجرد الفسق وإن كان الواحد المقدور قد يقتل لبعض أنواع الفسق: كالزنا وغيره فليس كلما جاز فيه القتل جاز أن يقاتل الأئمة لفعلهم إياه إذ فساد القتال أعظم من فساد كبيرة يرتكبها ولي الأمر
ولهذا نص من نص من أصحاب أحمد وغيره على أن النافلة تصلى خلف الفساق لأن النبي ﷺ أمر بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج وقتها وهؤلاء الأئمة فساق وقد أمر بفعلها خلفهم نافلة
والمقصود أن الفسق بتفويت الصلاة أمر معروف عند الفقهاء
لكن لو قال قائل: الكبيرة تفويتها دائما فإن ذلك إصرار على الصغيرة
قيل له: قد تقدم ما يبين أن الوعيد يلحق بتفويت صلاة واحدة
وأيضا فإن الإصرار هو العزم على العود ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها لم يكن قد أتى كبيرة
وأيضا فمن اشترط المداومة على التفويت محتاج إلى ضابط فإن أراد بذلك المداومة على طول عمره لم يكن المذكورون من هذا الباب وإن أراد مقدارا محدودا طولب بدليل عليه
وأيضا فالقتل بترك واحدة أبلغ من جعل ذلك كبيرة والله سبحانه أعلم