الفتاوى الكبرى/كتاب السنة والبدعة/5

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

10 - 10 - مسألة: فيمن يقول أن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة هل قوله صواب؟ وهل أراد النص الذي لا يحتمل التأويل أو الألفاظ الواردة المحتملة؟ ومن نفى القياس وأبطله من الظاهرية هل قوله صواب؟ وما حجته على ذلك؟ وما عني قوله النص

الجواب: الحمد لله رب العالمين هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وغيره وهو خطأ بل الصواب الذي عليه جمهور أئمة المسلمين أن النصوص وافية بجمهور أحكام أفعال العباد ومنهم من يقول أنها وافية بجميع ذلك وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد وذلك أن الله بعث محمدا بجوامع الكلم فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعا كثيرة وتلك الأنواع تتناول أعيانا لا تحصى فبهذا الوجه تكون النصوص محيطة بأحكام أفعال العباد

مثال ذلك: أن الله حرم الخمر فظن بعض الناس أن لفظ الخمر لا يتناول إلا عصير العنب خاصة ثم من هؤلاء من لم يحرم إلا ذلك أو حرم معه بعض الأنبذة المسكرة كما يقول ذلك من يقوله من فقهاء الكوفة فإن أبا حنيفة يحرم عصير العنب المشتد الزبد وهذا الخمر عنده ويحرم المطبوخ منه ما لم يذهب ثلثاه فإذا ذهب ثلثاه لم يحرمه ويحرم النيء من نبيذ التمر فإن طبخ أدنى طبخ حل عنده

وهذه المسكرات الثلاثة ليست خمرا عنده مع أنها حرام وما سوى ذلك من الأنبذة فإنما يحرم منه ما يسكر

وأما محمد بن الحسن فوافق الجمهور في تحريم كل مسكر قليله وكثيرة وبه أفتى المحققون من أصحاب أبي حنيفة وهو اختيار أبي الليث السمرقندي

ومن العلماء من حرم كل مسكر بطريق القياس إما في الإسم وإما في الحكم وهذه الطريقة سلكها طائفة من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد يظنون أن تحريم كل مسكر إنما كان بالقياس في الأسماء أو القياس في الحكم

والصواب الذي عليه الأئمة الكبار أن الخمر المذكورة في القرآن تناولت كل مسكر فصار تحريم كل مسكر بالنص العام والكلمة الجامعة لا بالقياس وحده وإن كان القياس دليلا آخر يوافق النص

وثبت أيضا نصوص صحيحة عن النبي بتحريم كل مسكر ففي صحيح مسلم عن النبي أنه قال: [ كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي أنه قال: [ كل شراب أسكر فهو حرام ] وفي الصحيحين عن أبي موسى عن النبي أنه سئل فقيل له: [ عندنا شراب من العسل يقال له البتع وشراب من الذرة يقال له المزر؟ قال - وكان قد أوتي بجوامع الكلم - فقال: كل مسكر حرام ] إلى أحاديث أخر يطول وصفها

وعلى هذا فتحريم ما يسكر من الأشربة والأطعمة كالحشيشة المسكرة ثابت بالنص وكان هذا النص متناولا لشرب الأنواع المسكرة من أي مادة كانت من الحبوب أو الثمار أو من لبن الخيل أو من غير ذلك ومن ظن أن النص إنما يتناول خمر العنب قال انه لم يبين حكم هذه المسكرات التي هي في الأرض أكثر من خمر العنب بل كان ذلك ثابتا بالقياس وهؤلاء غلطوا في فهم النص

ومما يبين ذلك أنه قد ثبت بالأحاديث الكثيرة المستفيضة أن الخمر لما حرمت لم يكن بالمدينة من خمر العنب شيء فإن المدينة لم يكن فيها شجر العنب وإنما كان عندهم النخل فكان خمرهم من التمر ولما حرمت الخمر أراقوا تلك الأشربة التي كانت من التمر وعلموا أن ذلك الشراب هو خمر محرم

فعلم أن لفظ الخمر لم يكن عندهم مخصوصا بعصير العنب وسواء كان ذلك في لغتهم فتناول أو كانوا عرفوا التعميم بلغة الرسول فإنه المبين عن الله مراده فإن الشارع يتصرف في اللغة تصرف أهل العرف يستعمل اللفط تارة فيما هو أعم من معناه في اللغة وتارة فيما هو أخص

وكذلك لفظ الميسر هو عند أكثر العلماء يتناول اللعب بالنرد والشطرنج ويتناول بيوع الغرر التي نهى عنها النبي فإن فيها معنى القمار الذي هو ميسر إذ القمار معناه أن يؤخذ مال الإنسان وهو على مخاطرة هل يحصل له عوضه أو لا يحصل كالذي يشتري العبد الآبق والبعير الشارد وحبل الحبلة ونحو ذلك مما قد يحصل له وقد لا يحصل له

وعلى هذا فلفظ الميسر في كتاب الله تعالى يتناول هذا كله وما ثبت في صحيح مسلم عن النبي [ أنه نهى عن بيع الغرر يتناول كل مافي مخاطرة كبيع الثمار قبل بدو صلاحها وبيع الأجنة في البطون وغير ذلك ]

ومن هذا الباب لفظ الربا فإنه يتناول كل ما نهى عنه من ربا النساء وربا الفضل والقرض الذي يجر منفعة وغير ذلك فالنص متناول لهذا كله لكن يحتاج في معرفة دخول الأنواع والأعيان في النص إلى ما يستدل به على ذلك وهذا الذي يسمو تحقيق المناط

وكذلك قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } وقوله: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ونحو ذلك يعم بلفظه كل مطلقة ويدل على أن كل طلاق فهو رجعي ولهذا قال أكثر العلماء بذلك وقالوا: لا يجوز للرجل أن يطلق المرأة ثلاثا ويدل أيضا على أن الطلاق لا يقع إلا رجعيا وإن ما كان بائنا فليس من الطلقات الثلاث فلا يكون الخلع من الطلقات الثلاث كقول ابن عباس والشافعي في قول وأحمد في المشهور عنه لكن بينهم نزاع هل ذلك مشروط بأن يخلو الخلع عن لفظ الطلاق ونيته أو بالخلو عن لفظه فقط أو لا يشترط شيء من ذلك؟ على ثلاثة أقوال

وكذلك قوله تعالى: { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وذلك كفارة أيمانكم هو متناول لكل يمين من أيمان المسلمين فمن العلماء من قال: كل يمين من أيمان المسلمين ففيها كفارة كما دل عليه الكتاب والسنة ومنهم من قال: لا يتناول النص إلا الحلف باسم الله وغير ذلك لا تنعقد ولا شيء فيها ومنهم من قال: بل هي أيمان يلزم الحلف بها ما التزمه ولا تدخل في النص

ولا ريب أن النص يدل على القول الأول ومن قال ان النص لم يبين حكم جميع أيمان المسلمين كان هذا رأيا منه لم يكن هذا مدلول النص

وكذلك الكلام في عامة مسائل النزاع بين المسلمين إذا طلب ما يفصل النزاع من نصوص الكتاب والسنة وجد ذلك وتبين أن النصوص شاملة لعامة أحكام الأفعال

وكان الإمام أحمد يقول: أنه ما من مسألة يسأل عنها إلا وقد تكلم الصحابة فيها أو في نظيرها والصحابة كانوا يحتجون في عامة مسائلهم بالنصوص كما هو مشهور عنهم وكانوا يجتهدون رأيهم ويتكلمون بالرأي ويحتجون بالقياس الصحيح أيضا

والقياس الصحيح نوعان:

أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرق غير مؤثر في الشرع كما ثبت عن النبي في الصحيح [ أنه سئل عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ] وقد أجمع المسلمين على أن هذا الحكم ليس مختصا بتلك الفأرة وذلك السمن

فلهذا قال جماهير العلماء: إن أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت وكالهر الذي يقع في السمن فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن

ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن فقد أخطأ فإن النبي لم يخص الحكم بتلك الصورة لكن لما استفتي عنها أفتى فيها والإستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو عن نوع فأجاب المفتى عن ذلك خصه لكونه سئل عنه لا لا ختصاصه بالحكم

ومثل هذا أنه سئل عن رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة مضمخة بخلوق؟ فقال: [ انزع عنك الجبة واغسل عنك الخلوق واصنع في عمرتك ما كنت تصنع في حجك ] فأجابه عن الجبة ولو كان عليه قميص أو نحوه كان الحكم كذلك بالإجماع

والنوع الثاني من القياس: أن ينص على حكم لمعنى من المعاني ويكون ذلك المعنى موجودا في غيره فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما وكان هذا قياسا صحيحا

فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما وهما من باب فهم مراد الشارع فإن الاستدلال بكلام الشارع بتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ وإذا عرفنا مراده فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص الأصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس كما أنه علمنا ان الحج خص به الكعبة وان الصيام الفرض خص به شهر رمضان وان الاستقبال خص به جهة الكعبة وان المفروض من الصلوات خص به الخمس ونحو ذلك فإنه يمتنع هنا أن نقيس على المنصوص غيره

وإذا عين الشارع مكانا أو زمانا للعبادة كتعيين الكعبة وشهر رمضان أو عين بعض الأقوال والأفعال كتعيين القراءة في الصلاة والركوع والسجود بل وتعيين التكبير وأم القرآن فإلحاق غير المنصوص به يشبه حال أهل اليمن الذين أسقطوا تعين الأشهر الحرم وقالوا: المقصود أربعة أشهر من السنة فقال تعالى: { إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله }

وقياس الحلال بالنص على الحرام بالنص من جنس قياس الذين قالوا: { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } وكذلك قياس المشركين الذين قاسو الميتة بالمذكى وقالوا أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله قال تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون }

فهذه الأقيسة الفاسدة وكل قياس دل النص على فساده فهو فاسد وكل من ألحق منصوصا بمنصوص يخالف حكمه فقياسه فاسد وكل من سوى بين شيئين أو فرق بين شيئين بغير الأوصاف المعتبرة في حكم الله ورسوله فقياسه فاسد لكن من القياس ما يعلم صحته ومنه ما يعلم فساده ومنه ما لم يتبين أمره

فمن أبطل القياس مطلقا فقوله باطل ومن استدل بالقياس المخالف للشرع فقوله باطل ومن استدل بقياس لم يقم الدليل صحته فقد استدل بما لا يعلم صحته بمنزلة من استدل برواية رجل مجهول لا يعلم عدالته

فالحجج الأثرية والنظرية تنقسم إلى ما يعلم صحته وإلى ما يعلم فساده وإلى ما هو موقوف حتى يقوم الدليل على أحدهما

ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة سواء كان اللفظ دلالته قطعية أو ظاهرة وهذا هو المراد من قول من قال: النصوص تتناول أحكام أفعال المكلفين ويراد بالنص ما دلالته قطعية لا تحتمل النقيض كقوله: { تلك عشرة كاملة } { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } فالكتاب هو النص والميزان هو العدل والقياس الصحيح من باب العدل فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين ودلالة القياس الصحيح توافق دلالة النص فكل قياس خالف دلالة النص فهو قياس فاسد ولا يوجد نص يخالف قياسا صحيحا كما لا يوجد معقول صريح يخالف المنقول الصحيح

ومن كان متبحرا في الأدلة الشرعية أمكنة أن يستدل على غالب الأحكام بالمنصوص وبالأقيسة فثبت أن كل واحد من النص والقياس دل على هذا الحكم كما ذكرناه من الأمثلة فإن القياس يدل على تحريم كل مسكر كما يدل النص على ذلك فإن الله حرم الخمر لأنها توقع بيننا العداوة والبغضاء وتصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة كما دل القرآن على هذا المعنى وهذا المعنى موجود في جميع الأشربة المسكرة لا فرق في ذلك بين شراب وشراب فالفرق بين الأنواع المشركة من هذا الجنس تفريق بين المتماثلين وخروج عن موجب القياس الصحيح كما هو خروج عن موجب النصوص وهم معترفون بأن قولهم خلاف القياس لكن يقولون: معنا آثار توافق اتبعناها ويقولون: إن اسم الخمر لم يتناول كل مسكر وغلطوا في فهم النص وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم ومعرفة عموم الأسماء الموجودة في النص وخصوصها من معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وقد قال تعالى: { الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله }

والكلام في ترجيح نفاة القياس ومثبتيه يطول استقصاؤه لا تحتمل هذه الورقة بسطه أكثر من هذا والله أعلم

11 - / 11 - مسألة: في قبور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هل هي هذه القبور التي تزورها الناس اليوم؟ مثل: قبر نوح وقبر الخليل وإسحاق ويعقوب ويوسف ويونس والياس واليسع وشعيب وموسى وزكريا وهو بمسجد دمشق؟ وأين قبر علي بن أبي طالب؟ فهل يصح من تلك القبور شيء أم لا؟

الجواب: الحمد لله القبر المتفق عليه هو قبر نبينا محمد وقبر الخليل فيه نزاع لكن الصحيح الذي عليه الجمهور أنه قبره وأما يونس والياس وشعيب وزكريا فلا يعرف وقبر علي بن أبي طالب بقصر الإمارة الذي بالكوفة وقبر معاوية هو القبر الذي تقول العامة أنه قبر هود والله أعلم

12 - / 12 - مسألة: سئل شيخ الإسلام عن جماعة من المسلمين اشتد نكيرهم على من أكل من ذبيحة يهودي أو نصراني مطلقا ولا يدري ما حالهم هل دخلوا في دينهم قبل نسخه وتحريفه وقبل مبعث النبي أم بعد ذلك بل يتناكحون وتقر مناكحتهم عند جميع الناس وهم أهل ذمة يؤدون الجزية ولا يعرف من ولاهم من آبائهم فهل للمنكرين عليهم منعهم من الذبح للمسلمين أم لهم الأكل من ذبائحهم كسائر بلاد المسلمين؟

أجاب: رضي الله عنه: ليس لأحد أن ينكر على أحد أكل من ذبيحة اليهود والنصارى في هذا الزمان ولا يحرم ذبحهم للمسلمين ومن أنكر ذلك فهو جاهل مخطىء مخالف لإجماع المسلمين فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة لا الإنكار المجرد المستند إلى محض التقليد فإن هذا فعل أهل الجهل والأهواء كيف والقول بتحريم ذلك في هذا الزمان وقبله قول ضعيف جدا مخالف لما عدم من سنة رسول الله ولما علم من حال أصحابه والتابعين لهم بإحسان

وذلك لأن المنكر لهذا لا يخرج عن قولين: إما أن يكون ممن يحرم ذبائح أهل الكتاب مطلقا كما يقول ذلك من يقوله من الرافضة وهؤلاء يحرمون نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم وهذا ليس من أقوال أحد من أئمة المسلمين المشهورين بالفتيا ولا من أقوال أتباعهم وهو خطأ مخالف للكتاب والسنة والإجماع القديم فإن الله تعالى قال في كتابه: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم }

فإن قيل: هذه الآية معارضة بقوله: { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } وبقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }

قيل: الجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن الشرك المطلق في القرآن لا يدخل فيه أهل الكتاب وإنما يدخلون في الشرك المقيد قال الله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } فجعل المشركين قسما غير أهل الكتاب وقال تعالى: { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } فجعلهم قسما غيرهم - ابتدعوا لا باعتبار أصل الدين

وقوله تعالى: { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } هو تعريف للكوافر المعروفات اللاتي كن في عصم المسلمين وأولئك كن مشركات لا كتابيات من أهل مكة ونحوها

الوجه الثاني: إذا قدر أن لفظ المشركات والكوافر يعم الكتابيات فآية المائدة خاصة وهي متأخرة نزلت بعد سورة البقرة والممتحنة باتفاق العلماء كما في الحديث المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها والخاص المتأخر يقضي على العام المتقدم باتفاق علماء المسلمين لكن الجمهور يقولون انه مفسر له فتبين أن صورة التخصيص لم ترد باللفظ العام وطائفة يقولون ان ذلك نسخ بعد أن شرع

الوجه الثالث: إذا فرضنا النصين خاصين فأحد النصين حرم ذبائحهم ونكاحهم والآخر أحلهما فالنص المحلل لهما هنا يجب تقديمه لوجهين:

أحدهما: أن سورة المائدة هي المتأخرة باتفاق العلماء فتكون ناسخة للنص المتقدم ولا يقال ان هذا نسخ للحكم مرتين لأن فعل ذلك قبل التحريم لم يكن بخطاب شرعي حلل ذلك بل كان لعدم التحريم بمنزلة شرب الخمر وأكل الخنزير ونحو ذلك

والتحريم المبتدأ لا يكون نسخا لاستصحاب حكم الفعل ولهذا لم يكن تحريم النبي لكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ناسخا لما دل عليه قوله تعالى: { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه } الآية من أن الله عز وجل لم يحرم قبل نزول الآية إلا هذه الأصناف الثلاثة فإن هذه الآية نفت تحريم ما سوى الثلاثة إلى حين نزول هذه الآية ولم يثبت تحليل ما سوى ذلك بل كان ما سوى ذلك عفوا لا تحليل فيه ولا تحريم كفعل الصبي والمجنون وكما في الحديث المعروف: [ الحلال ما حلله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ] وهذا محفوظ عن سلمان الفارسي موقوفا عليه أو مرفوعا إلى النبي

ويدل على ذلك أنه قال في سورة المائدة { اليوم أحل لكم الطيبات } فأخبر أنه أحلها ذلك اليوم وسورة المائدة مدنية بالإجماع وسورة الأنعام مكية بالإجماع فعلم أن تحليل الطيبات كان بالمدينة لا بمكة وقوله تعالى: { يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات } إلى قوله: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم } إلى آخرها فثبت نكاح الكتابيات وقبل ذلك كان إما عفوا على الصحيح وإما محرما ثم نسخ يدل عليه أن آية المائدة لم ينسخا شيء

الوجه الثاني: أنه قد ثبت حل طعام أهل الكتاب بالكتاب والسنة والاجماع والكلام في نسائهم كالكلام في ذبائحهم فإذا ثبت حل أحدهما ثبت حل الآخر وحل أطعمتهم ليس له معارض أصلا ويدل على ذلك أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية ولم ينكر عليه أحد من الصحابة فدل على أنهم كانوا مجتمعين على جواز ذلك

فإن قيل: قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم } محمول على الفواكه والحبوب

قيل: هذا خطأ لوجوه:

أحدها: أن هذه مباحة من أهل الكتاب والمشركين والمجوس فليس في تخصيصها بأهل الكتاب فائدة

الثاني: أن إضافة الطعام إليهم يقتضي أنه صار طعاما بفعلهم وهذا إنما يستحق في الذبائح التي صارت لحما بذكاتهم فأما الفواكه فإن الله خلقها مطعومة لم تصر طعاما بفعل آدمي

الثالث: أنه قرن حل الطعام بحل النساء وأباح طعامنا لهم كما أباح طعامهم لنا ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين كما أباح طعامهم لنا ومعلوم أن حكم النساء مختص بأهل الكتاب دون المشركين وكذلك حكم الطعام والفاكهة والحب لا يختص بأهل الكتاب

الرابع: أن لفظ الطعام عام وتناوله اللحم ونحوه أقوى من تناوله للفاكهة فيجب إقرار اللفظ على عمومه لا سيما وقد قرن به قوله تعالى: { وطعامكم حل لهم } ونحن يجوز لنا أن نطعمهم كل أنواع طعامنا فكذلك يحل لنا أن نأكل جميع أنواع طعامهم

وأيضا فقد ثبت في الصحاح بل بالنقل المستفيض أن النبي أهدت له اليهودية عام خيبر شاة مشوية فأكل منها لقمة ثم قال: [ إن هذه تخبرني أن فيها سما ] ولولا أن ذبائحهم حلال لما تناول من تلك الشاة

وثبت في الصحيح أنهم لما غزوا خيبر أخذ بعض الصحابة جرابا فيه شحم قال: قلت: لا أطعم اليوم من هذا أحدا فالتفت فإذا رسول الله يضحك ولم ينكر عليه وهذا مما استدل به العلماء على جواز أكل جيش المسلمين من طعام أهل الحرب قبل القسمة

وأيضا فإن رسول الله أجاب دعوة يهودي إلى خبز شعير وأهالة سنخة رواه الإمام أحمد والأهالة من الودك الذي يكون من الذبيحة ومن السمن ونحوه الذي يكون في أوعيتهم التي يطبخون فيها في العادة ولو كانت ذبائحهم محرمة لكانت أوانيهم كأواني المجوس ونحوهم وقد ثبت عن النبي [ أنه نهى عن الأكل في أوعيتهم حتى رخص أن يغسل ]

وأيضا فقد استفاض أن أصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر كانوا يأكلون من ذبائح أهل الكتاب: اليهود والنصارى وإنما امتنعوا من ذبائح المجوس ووقع في جبن المجوس من النزاع ما هو معروف بين المسلمين لأن الجبن يحتاج إلى الأنفحة وفي أنفحة الميتة نزاغ معروف بين العلماء فأبو حنيفة يقول بطهارتها ومالك والشافعي يقولان بنجاستها وعن أحمد روايتان

المأخذ الثاني: الإنكار على من يأكل ذبائح أهل الكتاب هو كون هؤلاء الموجودين لا يعلم أنهم من ذرية من دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل وهو المأخذ الذي دل عليه كلام السائل وهو المأخذ الذي تنازع فيه علماء المسلمين أهل السنة والجماعة

وهذا مبني على أصل وهو أن قوله تعالى: { وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } هل المراد به من هو بعد نزول القرآن متدين بدين أهل الكتاب؟ أو المراد به من كان آباؤه قد دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل؟ على قولين للعلماء:

فالقول الأول: هو قول جمهور المسلمين من السلف والخلف وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحد القولين في مذهب أحمد بل هو المنصوص عنه صريحا

والثاني: قول الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد

وأصل هذا القول: أن عليا وابن عباس تنازعا في ذبائح بني تغلب فقال علي: لا تباح ذبائحهم ولا نساؤهم فإنهم لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وروي عنه تغروهم لأنهم لم يقوموا بالشروط التي شرطها عليهم عثمان فإنه شرط عليهم أن لا وغير ذلك من الشروط وقال ابن عباس: بل تباح لقوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } وعامة المسلمين من الصحابة وغيرهم لم يحرموا ذبائحهم ولا يعرف ذلك إلا عن علي وحده وقد روي معنى قول ابن عباس عن عمر بن الخطاب

فمن العلماء من رجح قول عمر وابن عباس وهو قول الجمهور كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وصححها طائفة من أصحابه بل هي آخر قوليه بل عامة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم على هذا القول

وقال أبو بكر الأثرم: ما علمت أحدا من أصحاب النبي كرهه إلا عليا وهذا قول جماهير فقهاء الحجاز والعراق وفقهاء الحديث والرأي كالحسن وإبراهيم النخعي والزهري وغيرهم وهو الذي نقله عن أحمد أكثر أصحابه وقال إبراهيم بن الحارث: كان آخر قول أحمد على أنه لا يرى بذبائحهم بأسا

ومن العلماء من رجح قول علي وهو قول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه وأحمد إنما اختلف اجتهاده في بني تغلب وهم الذين تنازع فيهم الصحابة فأما سائر اليهود والنصارى من العرب مثل تنوخ وبهراء وغيرهما من اليهود فلا أعرف عن أحمد في حل ذئائحهم نزاعا ولا عن الصحابة ولا عن التابعين وغيرهم من السلف وإنما كان النزاع بينهم في بني تغلب خاصة ولكن من أصحاب أحمد من جعل فيهم روايتين كبني تغلب والحل مذهب الجمهور كأبي حنيفة ومالك وما أعلم لقول الآخر قدوة من السلف

ثم هؤلاء المذكورون من أصحاب أحمد [ قالوا ] بأنه: من كان أحد أبويه غير كتابي بل مجوسيا لم تحل ذبيحته ومناكحة نسائه وهذا مذهب الشافعي فيما إذا كان الأب مجوسيا وأما الأم فله فيها قولان فإن كان الأبوان مجوسيين حرمت ذبيحته عند الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد وحكي ذلك عن مالك وغالب ظني أن هذا غلط على مالك فإني لم أجده في كتب أصحابه

وهذا تفريغ على الرواية المخرجة عن أحمد في سائر اليهود والنصارى من العرب

وهذا مبني على إحدى الروايتين عنه في نصارى بني تغلب وهو الرواية التي اختارها هؤلاء فأما إذا جعل الروايتان في بني تغلب دون غيرهم من العرب أو قيل أن النزاع عام وفرعنا على القول بحل ذبائح بني تغلب ونسائهم كما هو قول الأكثرين فإنه على هذه الرواية لا عبرة بالنسب بل لو كان الأبوان جميعا مجوسيين أو وثيين والولد من أهل الكتاب فحكمه حكم أهل الكتاب على هذا القول بلا ريب كما صرح بذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وأبي حنيفة وغيرهم

ومن ظن من أصحاب أحمد وغيرهم أن تحريم نكاح من أبواه مجوسيان أو أحدهما مجوسي قول واحد في مذهبه فهو مخطىء خطأ لا ريب فيه لأنه لم يعرف أصل النزاع في هذه المسألة ولهذا كان من هؤلاء من يتناقض فيجوز أن يقر بالجزية من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل ويقول مع هذا بتحريم نكاح نصراني العرب مطلقا ومن كان أحد أبويه غير كتابي كما فعل ذلك طائفة من أصحاب أحمد وهذا تناقض

والقاضي أبو يعلى إن كان قد قال هذا القول هو وطائفة من أتباعه فقد رجع عن هذا القول في الجامع الكبير وهو آخر كتبه فذكر فيمن انتقل إلى دين أهل الكتاب من عبدة الأوثان كالروم وقبائل من العرب وهم تنوخ وبهراء ومن بني تغلب هل تجوز مناكحتهم وأكل ذبائحهم وذكر أن المنصوص عن أحمد أنه لا بأس بنكاح نصارى بني تغلب وأن الرواية الأخرى مخرجة على الروايتين عند في ذبائحهم واختار أن المنتقل إلى دينهم حكمه حكمهم سواء كان انتقاله بعد مجيء شريعتنا أو قبلها وسواء انتقل إلى دين المبدلين أو دين لم يبدل ويجوز مناكحته وأكل ذبيحته

وإذا كان هذا فيمن أبواه مشركان من العرب والروم فمن كان أحد أبويه مشركا فهو أولى بذلك هذا هو المنصوص عن أحمد فإن قد نص على أنه من دخل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن دخل في دينهم في هذا الزمان فإنه يقر بالجزية قال أصحابه: وإذا أقررناه بالجزية حلت ذبائحهم ونسائهم وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وغيرهما

وأصل النزاع في هذه المسألة ما ذكرته من نزاع علي وغيره من الصحابة في بني تغلب والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه والجمهور أحلوها وهي الرواية الأخرى عن أحمد

ثم الذين كرهوا ذبائح بني تغلب تنازعوا في مأخذ علي فظن بعضهم أن عليا إنما حرم ذبائحهم ونساءهم لكونه لم يعلم أن آباءهم دخلوا في دين أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل وبنوا على هذا أن الاعتبار في أهل الكتاب بالنسب لا بنفس الرجل وأن من شككنا في أجداده هل كانوا من أهل الكتاب أم لا أخذنا بالاحتياط فحقنا دمه بالجزية احتياطا وحرمنا ذبيحته ونساءه احتياطا وهذا مأخذ الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد

وقال آخرون: بل علي لم يكره ذبائح بني تغلب إلا لكونهم ما تدينوا بدين أهل الكتاب في واجباته وبحظوراته بل أخذوا منه حل المحرمات فقط ولهذا قال: انهم لم يتمسكوا من دين أهل الكتاب إلا بشرب الخمر وهذا المأخذ من قول علي هو المنصوص عن أحمد وغيره وهو الصواب

وبالجملة فالقول بأن أهل الكتاب المذكورين في القرآن هم من كان دخل جده في ذلك قبل النسخ والتبديل قول ضعيف والقول بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أراد ذلك قول ضعيف بل الصواب المقطوع به أن كون الرجل كتابيا أو غير كتابي هو حكم مستقل بنفسه لا بنسبه وكل من تدين بدين أهل الكتاب فهو منهم سواء كان أبوه أو جده دخل في دينهم أو لم يدخل وسواء كان دخوله قبل النسخ والتبديل أو بعد ذلك وهذا مذهب جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وهو المنصوص الصريح عن أحمد وإن كان بين أصحابه في ذلك نزاع معروف وهذا القول هو الثابت عن الصحابة رضي الله عنهم ولا أعلم بين الصحابة في ذلك نزاعا

وقد ذكر الطحاوي أن هذا إجماع قديم واحتج بذلك في هذه المسألة على من لا يقر الرجل في دينهم بعد النسخ والتبديل كمن هو في زماننا إذا انتقل إلى دين أهل الكتاب فإنه تؤكل ذبيحته وتنكح نساؤه وهذا يبين خطأ من يناقض منهم

وأصحاب هذا القول الذي هو قول الجمهور يقولول: من دخل هو أو أبواه أو جده في دينهم بعد النسخ والتبديل أقر بالجزية سواء دخل في زماننا هذا أو قبله

وأصحاب القول الآخر يقولون: متى علمنا أنه لم يدخل إلا بعد النسخ والتبديل لم تقبل منه الجزية كما يقوله بعض أصحاب أحمد مع أصحاب الشافعي والصواب قول الجمهور والدليل عليه وجوه

أحدها: أنه قد ثبت أنه كان من أولاد الأنصار جماعة تهودوا قبل مبعث النبي بقليل كما قال ابن عباس: أن المرأة كانت مقلاتا والمقلات التي لا يعيش لها ولد كثيرة القلت والقلت: الموت والهلاك كما يقال: امرأة مذكار مئناث إذا كانت كثيرة الولادة للذكور والاناث والسما الكثيرة الموت

قال ابن عباس: فكانت المرأة تنذر إن عاش لها ولدان تجعل أحدهما يهوديا لكون اليهود كانوا أهل علم وكتاب والعرب كانوا أهل شرك وأوثان فلما بعث الله محمدا كان جماعة من أولاد الأنصار تهودوا فطلب آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام فأنزل الله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } الآية

فقد ثبت أن هؤلاء كان آباؤهم موجودين تهودوا ومعلوم أن هذا دخول بأنفسهم في اليهودية قبل الإسلام وبعد مبعث المسيح صلوات الله عليه وهذا بعد النسخ والتبديل ومع هذا نهى الله عز وجل عن إكراه هؤلاء الذين تهودوا بعد النسخ والتبديل على الإسلام وأقرهم بالجزية وهذا صريح في جواز عقد الذمة لمن دخل بنفسه في دين أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل فعلم أن هذا القول هو الصواب دون الآخر

ومتى ثبت أنه يعقد له الذمة ثبت أن العبرة بنفسه لا بنسبه وإنه تباح ذبيحته وطعامه باتفاق المسلمين فإن المانع لذلك لم يمنعه إلا بناء على أن هذا الصنف ليسوا من أهل الكتاب فلا يدخلون فإذا ثبت بنص السنة أنهم من أهل الكتاب دخلوا في الخطاب بلا نزاع

الوجه الثاني: أن جماعة من اليهود الذين كانوا بالمدينة وحولها كانوا عربا ودخلوا في دين اليهود ومع هذا فلم يفصل النبي في أكل طعامهم وحل نساءهم وإقرارهم بالذمة بين من دخل أبواه بعد مبعث عيسى عليه السلام ومن دخل قبل ذلك ولا بين المشكوك في نفسه بل حكم في الجميع حكما واحدا عاما

فعلم أن التفريق بين طائفة وطائفة وجعل طائفة لا تقر بالجزية وطائفة تقر ولا تؤكل ذبائحهم وطائفة يقرون وتؤكل ذبائحهم تفريق ليس له أصل في سنة رسول الله الثابتة عنه

وقد علم بالنقل الصحيح المستفيض أن أهل المدينة كان فيهم يهود كثير من العرب وغيرهم من بني كنانة وحمير وغيرهما من العرب ولهذا قال النبي لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: [ إنك تأتي قوما أهل كتاب ] وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا وعدله معافر ولم يفرق بين من دخل أبوه قبل النسخ أو بعده وكذلك وفد نجران وغيرهم من النصارى الذين كان فيهم عرب كثيرون أقرهم بالجزية وكذلك سائر اليهود والنصارى من قبائل العرب لم يفرق رسول الله ولا أحد من خلفائه وأصحابه بين بعضهم وبعض بل قبلوا منهم الجزية وأباحوا ذبائحهم ونساءهم وكذلك نصارى الروم وغيرهم لم يفرقوا بين صنف وصنف ومن تدبر السيرة النبوية علم كل هذا بالضرورة وعلم أن التفريق قول محدث لا أصل له في الشريعة

الوجه الثالث: أن كون الرجل مسلما أو يهوديا أو نصرانيا ونحو ذلك من أسماء الدين هو حكم يتعلق بنفسه لا باعتقاده وارادته وقوله وعمله لا يلحقه هذا الإسم بمجرد اتصاف آبائه بذلك لكن الصغير حكمه في أحكام الدنيا حكم أبويه لكونه لا يستقل بنفسه فإذا بلغ وتكلم بالإسلام أو بالكفر كان حكمه معتبرا بنفسه باتفاق المسلمين فلو كان أبواه يهودا أو نصارى فأسلم كان من المسلمين باتفاق المسلمين ولو كانوا مسلمين فكفر كان كافرا باتفاق المسلمين فإن كفر بردة لم يقر عليه لكونه مرتدا لأجل آبائه

وكل حكم علق بأسماء الدين من إسلام وإيمان وكفر ونفاق وردة وتهود وتنصر إنما يثبت لمن اتصف بالصفات الموجبة لذلك وكون الرجل من المشركين أو أهل الكتاب هو من هذا الباب فمن كان بنفسه مشركا فحكمه حكم أهل الشرك وإن كان أبواه غير مشركين ومن كان أبواه مشركين وهو مسلم فحكمه حكم المسلمين لا حكم المشركين فكذلك إذا كان يهوديا أو نصرانيا وآباؤه مشركين فحكمه حكم اليهود والنصارى أما إذا تعلق عليه حكم المشركين مع كونه من اليهود والنصارى لأجل كون آبائه قبل النسخ والتبديل كانوا مشركين فهذا خلاف الأصول

الوجه الرابع: أن يقال قوله تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } وقوله: { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا } وأمثال ذلك إنما هو خطاب لهؤلاء الموجودين وإخبار عنهم المراد بالكتاب هو الكتاب الذي بأيديهم الذي جرى عليه من النسخ والتبديل ما جرى ليس المراد به من كان متمسكا به قبل النسخ والتبديل فإن أولئك لم يكونوا كفارا ولا هم ممن خوطبوا بشرائع القرآن ولا قيل لهم في القرآن يا أهل الكتاب فإنهم قد ماتوا قبل نزول القرآن وإذا كان كذلك فكل من تدين بهذا الكتاب الموجود عند أهل الكتاب فهو من أهل الكتاب وهم كفار تمسكوا بكتاب مبدل منسوخ وهم مخلدون في نار جهنم كما يخلد سائر أنواع الكفار والله تعالى مع ذلك سوغ إقرارهم بالجزية وأحل طعامهم ونساءهم

الوجه الخامس: أن يقال هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب بالقرآن هم كفار وإن كان أجدادهم كانوا مؤمنين وليس عذابهم في الآخرة بأخف من عذاب من كان أبوه من غير أهل الكتاب بل وجود النسب الفاضل هو إلى تغليظ كفرهم أقرب منه إلى تخفيف كفرهم فمن كأن أبوه مسلما وارتد كان كفره أغلظ من كفر من أسلم هو ثم ارتد

ولهذا تنازع الناس فيمن ولد على الفطرة إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل تقبل توبته؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد وإذا كان كذلك فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النسخ والتبديل ثم أنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليهما كفر بهما وبما جاءا به من عند الله واتبع الكتاب المبدل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر ولم يكن كفره أخف من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدل ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله ولا عند رسوله ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم ومن كفر بشيء من كتب الله فليس مسلما في أي زمان كان

وإذا لم يكن لأولاد بني إسرائيل إذا كفروا مزية على أمثالهم من الكفار الذين ماثلوهم في اتباع الدين المبدل المنسوخ علم بذلك بطلان الفرق بين الطائفتين وإكرام هؤلاء بإقرارهم بالجزية وحل ذبائحهم ونسائهم دون هؤلاء وأنه فرق مخالف لأصول الإسلام وإنه لو كان الفرق بالعكس كان أولى ولهذا يوبخ الله بني إسرائيل على تكذيبهم بمحمد مالا يوبخه غيرهم من أهل الكتاب لأنه تعالى أنعم على أجدادهم نعما عظيمة في الدين والدنيا فكفروا نعمته وكذبوا رسله وبدلوا كتابه وغيروا دينه فضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

فهم مع شرف آبائهم وحق دين أجدادهم من أسوأ الكفار عند الله وهو أشد غضبا عليهم من غيرهم لأن في كفرهم من الاستكبار والحسد والمعاندة والقسوة وكتمان العلم وتحريف الكتاب وتبديل النص وغير ذلك ما ليس في كفر هؤلاء فكيف يجعل لهؤلاء الأرجاس الأنجاس الذين هم من أبغض الخلق إلى الله مزية على سائر إخوانهم الكفار مع أن كفرهم إما مماثل لكفر إخوانهم الكفار وإما أغلظ منه إذ لا يمكن أحدا أن يقول إن كفر الداخلين أغلظ من كفر هؤلاء مع تماتلهما في الدين بهذا الكتاب الموجود

الوجه السادس: أن تعليق الشرف في الدين بمجرد النسب هو حكم من أحكام الجاهلية الذين اتبعهم عليه الرافضة وأشباههم من أهل الجهل فإن الله تعالى قال: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وقال النبي : [ لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى الناس من آدم وآدم من تراب ] ولهذا ليس في كتاب الله آية واحدة يمدح فيها أحدا بنسبه ولا يذم أحدا بنسبه وإنما يمدح الإيمان والتقوى ويذم بالكفر والفسوق والعصيان

وقد ثبت عنه الصحيح أنه قال: [ أربع من أمر الجاهلية في أمتي لن يدعوهن الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب والنياحة والاستسقاء بالنجوم ] فجعل الفخر بالأحساب من أمور الجاهلية فإذا كان المسلم لا فخر له على المسلم بكون أجداده لهم حسب شريف فكيف يكون لكافر من أهل الكتاب فخر على كافر من أهل الكتاب بكون أجداده كانوا مؤمنين؟ وإذا لم تكن مع التماثل في الدين فضيلة لأحد الفريقين على الأخرين في الدين لأجل النسب علم أنه لأفضل لمن كان من اليهود والنصارى آباؤه مؤمنين متمسكين بالكتاب الأول قبل النسخ والتبديل على من كان أبوه داخلا فيه بعد النسخ والتبديل وإذا تماثل دينهما تماثل حكمهما في الدين

والشريعة إنما علقت بالنسب أحكاما مثل كون الخلافة من قريش وكون ذوي القربى لهم الخمس وتحريم الصدقة على آل محمد ونحو ذلك لأن النسب الفاضل مظنة أن يكون أهله أفضل من غيرهم كما قال النبي : [ الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ] والمظنة تعلق الحكم بما إذا خفيت الحقيقة أو انتشرت فأما إذا ظهر دين الرجل الذي به تتعلق الأحكام وعرف نوع دينه وقدره لم يتعلق بنسبه الأحكام الدينية ولهذا لم يكن لأبي لهب مزية على غيره لما عرف كفره كان أحق بالذم من غيره ولهذا جعل لمن يأتي بفاحشة من أزواج النبي ضعفين من العذاب كما جعل لمن يقنت منهن لله ورسوله أجرين من الثواب

فذوي الأنساب الفاضلة إذا أساؤا كانت إساءتهم أغلظ من إساءة غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم وكفر من كفر من بني إسرائيل إن لم يكن أشد من كفر غيرهم وعقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم فلا أقل من المساواة بينهم ولهذا لم يقل أحد من العلماء إن من كفر وفسق من قريش والعرب تخفف عنه العقوبة في الدنيا أو في الآخرة بل إما أن تكون عقوبتهم أشد عقوبة من غيرهم في أشهر القولين أو تكون عقوبتهم أغلظ في القول الآخر لأن من أكرمه بنعمته ورفع قدره إذا قابل حقوقه بالمعاصي وقابل نعمه بالكفر كان أحق بالعقوبة ممن لم ينعم عليه كما أنعم عليه

الوجه السابع: أن يقال أصحاب رسول الله لما فتحوا الشام والعراق ومصر وخراسان وغيرهم كانوا يأكلون ذبائحهم لا يميزون بين طائفة وطائفة ولم يعرف عن أحد من الصحابة الفرق بينهم بالأنساب وانما تنازعوا في بني تغلب خاصة لأمر يختص بهم كما أن عمر ضعف عليهم الزكاة وجعل جزيتهم مخالفة لجزية غيرهم ولم يلحق بهم سائر العرب وإنما ألحق بهم من كان بمنزلتهم

الوجه الثامن: أن يقال هذا القول مستلزم أن لا يحل لنا طعام جمهور من أهل الكتاب لأنا لا نعرف نسب كثير منهم ولا نعلم قبل أيام الإسلام أن أجداده كانوا يهودا أو نصارى قبل النسخ والتبديل ومن المعلوم أن حل ذبائحهم ونسائهم ثبت بالكتاب والسنة والإجماع فإذا كان هذا القول مستلزما رفع ما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع علم أنه باطل

الوجه التاسع: أن يقال ما زال المسلمون في كل عصر ومصر يأكلون ذبائحهم فمن أنكر ذلك فقد خالف إجماع المسلمين

وهذه الوجوه كلها لبيان رجحان القول بالتحليل وأنه مقتضى الدليل فأما أن مثل هذه المسألة أو نحوها من مسائل الاجتهاد يجوز لمن تمسك فيها بأحد القولين أن ينكر على الآخر بغير حجة ودليل فهذا خلاف إجماع المسلمين فقد تنازع المسلمون في جبن المجوس والمشركين وليس لمن رجح أحد القولين أن ينكر على صاحب القول الآخر إلا بحجة شرعية وكذلك تنازعوا في متروك التسمية وفي ذبائح أهل الكتاب إذا سموا عليها غير الله وفي شحم الثرب والكليتين وذبحهم لذوات الظفر كالإبل والبط ونحو ذلك مما حرمه الله عليهم وتنازعوا في ذبح الكتابي للضحايا ونحو ذلك من المسائل وقد قال بكل قول طائفة من أهل العلم المشهورين

فمن صار إلى قول مقلد لقائله لم يكن له أن ينكر على من صار إلى القول الآخر مقلد لقائله لكن إن كان مع أحدهما حجة شرعية وجب الإنقياد للحجج الشرعية إذا ظهرت

ولا يجوز لأحد أن يرجح قولا على قول بغير دليل ولا يتعصب لقول على قول ولا لقائل على قائل بغير حجة بل من كان مقلدا لزم حل التقليد فلم يرجح ولم يزيف ولم يصوب ولم يخطىء ومن كان عنده من العلم والبيان ما يقوله سمع ذلك منه فقيل ما تبين أنه حق ورد ما تبين أنه باطل ووقف ما لم يتبين فيه أحد الأمرين والله تعالى قد فاوت بين الناس في قوى الأذهان كما فاوت بينهم في قوى الأبدان

وهذه المسألة ونحوها فيها من أغوار الفقه وحقائقه ما لا يعرفه إلا من عرف أقاويل العلماء ومآخذهم فأما من لم يعرف إلا قول عالم واحد وحجته دون قول العالم الآخر وحجته فإنه من العوام المقلدين لا من العلماء الذين يرجحون ويزيفون والله تعالى يهدينا وإخواننا لما يحبه ويرضاه وبالله التوفيق والله أعلم

الفتاوى الكبرى لابن تيمية
كتاب السنة والبدعة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطهارة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | كتاب الصلاة: | 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 | كتاب الذكر والدعاء | 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب الصيام: 1 | 2 | 3 | كتاب الجنائز: 1 | 2 | 3 | 4 | كتاب النكاح: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الطلاق: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | | كتاب النفقات | كتاب الحدود: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الجهاد: 1 | 2 | كتاب البيوع: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | كتاب الشهادة والأقضية والأموال: 1 | 2 | كتاب الوقف: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | كتاب الوصايا | كتاب الفرائض | كتاب الفضائل: 1 | 2 | كتاب الملاهي | مسائل منثورة: 1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | كتاب الطهارة2 | كتاب الصلاة2: 1 | 2 | كتاب الجنائز2 | كتاب الزكاة2 | كتاب الصوم2 | كتاب الحج | كتاب البيع: 1 | 2 | كتاب الوصية | كتاب الفرائض | كتاب العتق | كتاب النكاح2: 1 | 2 | كتاب الخلع | كتاب الطلاق2 | كتاب الرجعة | كتاب الظهار | كتاب الجنايات | كتاب الأطعمة | كتاب الأيمان | باب القضاء | كتاب إقامة الدليل على إبطال التحليل | كتاب في الرد على الطوائف الملحدة والزنادقة والجهمية والمعتزلة والرافضة: 1 |2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16