انتقل إلى المحتوى

البداية والنهاية/الجزء الثالث/صفحة واحدة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة
البداية والنهاية المؤلف ابن كثير
صفحة واحدة



باب كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

باب كيف بدأ الوحي إلى رسول الله ، وذكر أول شيء أنزل عليه من القرآن العظيم.

كان ذلك وله من العمر أربعون سنة.

وحكى ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب : أنه كان عمره إذ ذاك ثلاثا وأربعين سنة.

قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح؛ ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء.

فجاءه الملك فقال: اقرأ.

فقال: ما أنا بقارئ.

قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.

فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني.

فقال: اقرأ.

فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد.

ثم أرسلني فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 1.

فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع.

فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي.

فقالت خديجة: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة.

وكان امرأ قد تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي.

فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله خبر ما أُري.

فقال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا، إذ يخرجك قومك.

فقال رسول الله : «أو مخرجي هم؟»

فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله - فيما بلغنا - حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه فيرجع. فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا كمثل ذلك.

قال: فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل فقال له: مثل ذلك.

هكذا وقع مطولا في باب التعبير من البخاري.

قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني، زملوني. فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } 2 فحمي الوحي وتتابع».

ثم قال البخاري: تابعه عبد الله بن يوسف، وأبو صالح، يعني عن الليث، وتابعه هلال بن رداد عن الزهري. وقال يونس ومعمر: بوادره.

وهذا الحديث قد رواه الإمام البخاري رحمه الله في كتابه في مواضع منه، وتكلمنا عليه مطولا في أول شرح البخاري في كتاب بدء الوحي إسنادا ومتنا ولله الحمد والمنة. وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث الليث به، ومن طريق يونس ومعمر، عن الزهري كما علقه البخاري عنهما. وقد رمزنا في الحواشي على زيادات مسلم ورواياته ولله الحمد، وانتهى سياقه إلى قول ورقة: أنصرك نصرا مؤزرا.

فقول أم المؤمنين عائشة: أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، يقوي ما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبيد بن عمر الليثي، أن النبي قال: «فجاءني جبريل، وأنا نائم، بنمط من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغتني، حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني».

وذكر نحو حديث عائشة سواء، فكان هذا كالتوطئة لما يأتي بعده من اليقظة، وقد جاء مصرحا بهذا في مغازي موسى بن عقبة، عن الزهري، أنه رأى ذلك في المنام، ثم جاءه الملك في اليقظة.

وقد قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتابه (دلائل النبوة): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جناب بن الحارث، حدثنا عبد الله بن الأجلح، عن إبراهيم، عن علقمة بن قيس قال: إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتى تهدأ قلوبهم، ثم ينزل الوحي بعد.

وهذا من قبل علقمة بن قيس نفسه. وهو كلام حسن يؤيده ما قبله، ويؤيده ما بعده.

عمره صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها

قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن داود بن أبي هند، عن عامر الشعبي، أن رسول الله نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة. فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة..

فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي، وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ثم جاءه جبريل.

وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال: وحديث عائشة لا ينافي هذا، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا.

ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل، فعلَّمه بعدما غطه ثلاث مرات، فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنزل على النبي وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا، وبالمدينة عشرا.

ومات وهو ابن ثلاث وستين، وهكذا روى يحيى بن سعيد، وسعيد بن المسيب.

ثم روى أحمد، عن غندر، ويزيد بن هارون، كلاهما عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: بُعث رسول الله وأُنزل عليه القرآن، وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وبالمدينة عشر سنين. ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: أقام النبي بمكة خمس عشرة سنة: سبع سنين يرى الضوء، ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشر سنين.

قال أبو شامة: وقد كان رسول الله يرى عجائب قبل بعثته فمن ذلك:

ما في صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلِّم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن». انتهى كلامه.

وإنما كان رسول الله يحب الخلاء والانفراد عن قومه، لما يراهم عليه من الضلال المبين، من عبادة الأوثان، والسجود للأصنام، وقويت محبته للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه صلوات الله وسلامه عليه..

وقد ذكر محمد بن إسحاق، عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن حارثة - قال: وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال:

وكان رسول الله يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه. وكان من نسك قريش في الجاهلية، يطعم من جاءه من المساكين حتى إذا انصرف من مجاورته وقضائه لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة.

وهكذا روي عن وهب بن كيسان أنه سمع عبيد بن عمير يحدث عبد الله بن الزبير مثل ذلك، وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش، أنهم يجاورون في حراء للعبادة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:

وثورٍ ومَن أرْسَى ثبيرا مَكانه * وراقٍ ليرقى في حِراءَ ونازِلِ

هكذا صوبه على رواية هذا البيت كما ذكره السهيلي، وأبو شامة، وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله، وقد تصحف على بعض الرواة فقال فيه: وراق ليرقى في حر ونازل - وهذا ركيك ومخالف للصواب والله أعلم.

وحراء: يقصر ويمدّ ويصرف ويمنع، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاثة أميال منها عن يسار المارّ إلى منى، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية، والغار في تلك الحنية، وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج:

فَلا وربِّ الآمِناتِ القُطَّن * وربِّ رُكنٍ من حِراءَ مُنْحني

وقوله في الحديث: والتحنث التعبد، تفسير بالمعنى، وإلا فحقيقة التحنث من حنث البِنْيَة فيما قاله السهيلي الدخول في الحنث، ولكن سمعت ألفاظ قليلة في اللغة معناها الخروج من ذلك الشيء.

كحنث: أي خرج من الحنث، وتحوب، وتحرج، وتأثم، وتهجد هو ترك الهجود وهو: النوم للصلاة، وتنجس وتقذر، أوردها أبو شامة.

وقد سئل ابن الأعرابي عن قوله يتحنث أي يتعبد. فقال: لا أعرف هذا إنما هو يتحنف من الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.

قال ابن هشام: والعرب تقول التحنث والتحنف يبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدف وجذف كما قال رؤبة بن العجاج.

لو كان أحجاري مع الأحذاف

يريد الأجداث. قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول: فُمَّ في موضع ثمَّ.

قلت: ومن ذلك قول بعض المفسرين وفومها أن المراد ثومها.

وقد اختلف العلماء في تعبده عليه السلام قبل البعثة هل كان على شرع أم لا؟ وما ذلك الشرع؟ فقيل: شرع نوح، وقيل: شرع إبراهيم، وهو الأشبه الأقوى. وقيل: موسى، وقيل: عيسى، وقيل: كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه، وعمل به.

ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه. والله أعلم.

وقوله: حتى فجئه الحق وهو بغار حراء: أي جاء بغتة على غير موعد كما قال تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } الآية 3.

وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة وهي: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 4.

وهي أول ما نزل من القرآن كما قررنا ذلك في التفسير، وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة أن رسول الله : سئل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذاك يوم ولدت فيه، ويوم أنزل عليّ فيه»

وقال ابن عباس: ولد نبيكم محمد يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين.

وهكذا قال عبيد بن عمير، وأبو جعفر الباقر، وغير واحد من العلماء: أنه عليه الصلاة والسلام أوحي إليه يوم الاثنين، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم.

ثم قيل: كان ذلك في شهر ربيع الأول، كما تقدم عن ابن عباس وجابر، أنه ولد عليه السلام، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان، كما نصَّ على ذلك عبيد بن عمير، ومحمد بن إسحاق، وغيرهما.

قال ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ } 5.

فقيل في عشره.

وروى الواقدي بسنده عن أبي جعفر الباقر أنه قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول الله يوم الاثنين، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وقيل في الرابع والعشرين منه.

قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم، حدثنا عمران أبو العوام، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة بن الأسقع، أن رسول الله قال:

«أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان».

وروى ابن مردويه في (تفسيره) عن جابر بن عبد الله مرفوعا نحوه، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين.

وأما قول جبريل: اقرأ.

فقال: «ما أنا بقارئ» فالصحيح أن قوله: «ما أنا بقارئ» نفي: أي لست ممن يحسن القراءة.

وممن رجحه النووي، وقبله الشيخ أبو شامة، ومن قال: إنها استفهامية فقوله بعيد؛ لأن الباء لا تزاد في الإثبات.

ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان، عن أبيه: فقال رسول الله - وهو خائف يرعد - «ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ» فأخذه جبريل فغتَّه غتا شديدا. ثم تركه.

فقال له: اقرأ.

فقال محمد : «ما أرى شيئا أقرأه، و ما أقرأ، وما أكتب».

يروى "فغطني" كما في (الصحيحين)، و"غتني"، ويروى "قد غتني": أي خنقني حتى بلغ مني الجهد، يروى بضم الجيم، وفتحها، وبالنصب، وبالرفع، وفعل به ذلك ثلاثا.

قال أبو سليمان الخطابي: وإنما فعل ذلك به ليبلو صبره، ويحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة، ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم، وتأخذه الرحضاء: أي البهر والعرق.

وقال غيره: إنما فعل ذلك لأمور:

منها: أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه بعد هذا الصنيع المشق على النفوس. كما قال تعالى: { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا } 6.

ولهذا كان عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يحمرُّ وجهه، ويغطّ كما يغطّ البكر من الإبل، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد.

وقوله فرجع بها رسول الله إلى خديجة يرجف فؤاده.

وفي رواية: بوادره، جمع بادرة.

قال أبو عبيدة: وهي لحمة بين المنكب والعنق.

وقال غيره: هو عروق تضطرب عند الفزع، وفي بعض الروايات ترجف بآدله واحدتها بادلة. وقيل: بادل، وهو ما بين العنق والترقوة، وقيل: أصل الثدي، وقيل: لحم الثديين، وقيل: غير ذلك.

فقال: «زملوني، زملوني» فلما ذهب عنه الروع قال لخديجة: «مالي؟ أي شيء عرض لي؟» وأخبرها ما كان من الأمر.

ثم قال: «لقد خشيت على نفسي». وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك. ولا كان في خلده. ولهذا قالت خديجة: ابشر، كلا والله لا يخزيك الله أبدا.

قيل: من الخزي، وقيل: من الحزن، وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا، ولا في الآخرة، ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ما كان من سجاياه الحسنة.

فقالت: إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث - وقد كان مشهورا بذلك صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق - وتحمل الكلّ. أي عن غيرك تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله.

وتكسب المعدوم: أي تسبق إلى فعل الخير فتبادر إلى إعطاء الفقير فتكسب حسنته قبل غيرك، ويسمى الفقير معدوما؛ لأن حياته ناقصة. فوجوده وعدمه سواء كما قال بعضهم:

ليسَ من ماتَ فاستراحَ بميتٍ * إنما الميتُ ميِّتُ الأحياء

وقال أبو الحسن التهامي، فيما نقله عنه القاضي عياض في شرح مسلم:

عدَّ ذا الفقر ميتا وكساهُ * كفنا باليا ومأواه قـبرا

وقال الخطابي: الصواب وتكسب المعدم، أي: تبذل إليه، أو يكون تلبس العدم بعطيته مالا يعيش به..

واختار شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي أن المراد بالمعدوم ههنا المال المعطى: أي يعطى المال لمن هو عادمه.

ومن قال إن المراد أنك تكسب باتجارك المال المعدوم، أو النفيس القليل النظير، فقد أبعد النجعة، وأغرق في النزع، وتكلف ما ليس له به علم، فإن مثل هذا لا يمدح به غالبا، وقد ضعَّف هذا القول عياض، والنووي وغيرهما، والله أعلم.

وتقري الضيف: أي تكرمه في تقديم قراه، وإحسان مأواه.

وتعين على نوائب الحق، ويروي الخير: أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش.

وقوله: ثم أخذتْه فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة ابن نوفل، وكان شيخا كبيرا قد عمي.

وقد قدَّمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله.

وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية، ففارقهم وارتحل إلى الشام، هو وزيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش، فتنصروا كلهم؛ لأنهم وجدوه أقرب الأديان إذ ذاك إلى الحق، إلا زيد بن عمرو بن نفيل؛ فإنه رأى فيه دخلا، وتخبيطا، وتبديلا، وتحريفا، وتأويلا، فأبت فطرته الدخول فيه أيضا.

وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي، قد أزف زمانه، واقترب أوانه، فرجع يتطلب ذلك، واستمر على فطرته، وتوحيده.

لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية. وأدركها ورقة بن نوفل، وكان يتوسمها في رسول الله ، كما قدمنا بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له، وما هو منطوٍ عليه من الصفات الطاهرة الجميلة، وما ظهر عليه من الدلائل، والآيات.

ولهذا لما وقع ما وقع أخذت بيد رسول الله وجاءت به إليه فوقفت به عليه، وقالت: ابن عم اسمع من ابن أخيك.

فلما قص عليه رسول الله خبر ما رأى قال ورقة: سبُّوح سبُّوح، هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ولم يذكر عيسى، وإن كان متأخرا بعد موسى؛ لأنه كانت شريعته متممة، ومكملة لشريعة موسى عليهما السلام، ونسخت بعضها على الصحيح من قول العلماء.

كما قال: { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } 7.

وقول ورقة هذا كما قالت الجن: { يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ }. 8.

ثم قال ورقة: يا ليتني فيها جذعا أي يا ليتني أكون اليوم شابا متمكنا من الإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك: يعني حتى أخرج معك وأنصرك؟

فعندها قال رسول الله : «أو مخرجي هم؟»

قال السهيلي: وإنما قال ذلك؛ لأن فراق الوطن شديد على النفوس، فقال: نعم!إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي..

وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا: أي أنصرك نصرا عزيزا أبدا.

وقوله: «ثم لم ينشب ورقة أن توفي»: أي توفي بعد هذه القصة بقليل رحمه الله ورضي عنه، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد، وإيمان بما حصل من الوحي، ونية صالحة للمستقبل.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، عن ابن لهيعة، حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة. أن خديجة سألت رسول الله عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، فأحسبه لو كان من أهل النار، لم يكن عليه ثياب بياض».

وهذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري، وهشام، عن عروة مرسلا فالله أعلم.

وروى الحافظ أبو يعلى، عن شريح بن يونس، عن إسماعيل، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «قد رأيته فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان الجنة، وعليه السندس».

وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال: «يبعث يوم القيامة أمة وحده».

وسئل عن أبي طالب فقال: «أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها».

وسئل عن خديجة لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن.

فقال: «أبصرتها على نهر في الجنة، في بيت من قصب، لا صخب فيه، ولا، نصب».

إسناد حسن، ولبعضه شواهد في (الصحيح)، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله : «لا تسبوا ورقة؛ فإني رأيت له جنة، أو جنتين».

وكذا رواه ابن عساكر من حديث أبي سعيد الأشج، عن أبي معاوية، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

وهذا إسناد جيد، وروي مرسلا وهو أشبه.

روى الحافظان البيهقي، وأبو نعيم، في كتابيهما (دلائل النبوة) من حديث يونس بن بكير، عن يونس بن عمرو، عن أبيه، عن عمرو بن شرحبيل، أن رسول الله قال لخديجة: «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر».

قالت: معاذ الله ما كان ليفعل ذلك بك. فوالله إنك لتؤدي الأمانة، وتصل الرحم، وتصدق الحديث..

فلما دخل أبو بكر وليس رسول الله ثم ذكرت له خديجة حديثه له فقالت: يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة، فلما دخل رسول الله أخذ بيده أبو بكر.

فقال انطلق بنا إلى ورقة.

قال: «ومن أخبرك؟»

قال: خديجة.

فانطلقا إليه فقصا عليه.

فقال رسول الله : «إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد يا محمد فأنطلق هاربا في الأرض».

فقال له لا تفعل. إذا أتاك فاثبت، حتى تسمع ما يقول لك، ثم ائتني فأخبرني.

فلما خلا ناداه يا محمد قل: { بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين } حتى بلغ: { ولا الضالين } قل لا إله إلا الله.

فأتى ورقة فذكر له ذلك، فقال له ورقة: ابشر ثم ابشر.

فأنا أشهد أنك الذي بشَّر بك ابن مريم، وإنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا.

ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك.

فلما توفي ورقة قال رسول الله : «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب الحرير؛ لأنه آمن بي وصدقني». يعني: ورقة.

هذا لفظ البيهقي. وهو مرسل وفيه غرابة، وهو كون الفاتحة أول ما نزل.

وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان، وعقده عليه، وتأكده عنده.

وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة، وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ.

فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا، منها قوله:

لججت وكنت في الذكرى لجوجا * لأمرٍ طالما بعث النشيجا

ووصف من خديجة بعد وصفٍ * فقد طال انتظاري يا خديجا

ببطن المكَّتين على رجائي * حديثك أن أرى منه خروجا

بما أخبرتنا من قول قس * من الرهبان أكره أن يعوجا

بأن محمدا سيسود قوما * ويخصم من يكون له حجيجا

ويظهر في البلاد ضياء نور * يقيم به البرية أن تعوجا

فيلقى من يحاربه خسارا * ويلقى من يسالمه فلوجا

فياليتي إذا ما كان ذاكم * شهدت وكنت أولهم ولوجا

ولو كان الذي كرهت قريش * ولو عجت بمكتها عجيجا

أرجّي بالذي كرهوا جميعا * إلى ذي العرش إذ سلفوا عروجا

فإن يبقوا وأبق تكن أمور * يضج الكافرون لها ضجيجا

وقال أيضا في قصيدته الأخرى:

وأخبار صدق خبرت عن محمدٍ * يخِّبرها عنه إذا غاب ناصح

بأن ابن عبد الله أحمد مرسلٌ * إلى كل من ضمت عليه الأباطح

وظني به ٌأن سوف يبعث صادقا * كما أرسل العبدان هود وصالح

وموسى وإبراهيم حتى يرى له * بهاء ومنشور من الحق واضح

ويتبعه حيا لؤي بن غالبٍ * شبابهم والأشيبون الجحاجح

فإن ابق حتى يدرك الناس دهره * فإني به مستبشر الودِّ فارح

وإلا فإني يا خديجة فاعلمي * عن أرضك في الأرض العريضة سائح.

وقال يونس عن بكير، عن ابن إسحاق قال ورقة:

فان يكُ حقا يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل

وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل

يفوز به من فاز فيها بتوبةٍ * ويشقى به العاني الغرير المضلَّل

فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأحواز الجحيم تعلَّل

إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت * مقامع في هاماتهم ثم تشعل

فسبحان من يهوي الرياح بأمره * ومن هو في الأيام ما شاء يفعل

ومن عرشه فوق السموات كلها * واقضاؤه في خلقه لا تبدل

وقال ورقة أيضا:

يا للرجال وصَرْف الدهر والقدر * وما لشيءٍ قضاه الله من غير

حتى خديجة تدعوني لأخبرها * أمرا أراه سيأتي الناس من أخر

وخبرتني بأمر قد سمعت به * فيما مضى من قديم الدهر والعصر

بأن أحمد يأتيه فيخبره * جبريل أنك مبعوث إلى البشر

فقلت علَّ الذي ترجين ينجزه * لك الإله فرجِّي الخير وانتظري

وأرسليه إلينا كي نسائله * عن أمره ما يرى في النوم والسهر

فقال حين أتانا منطقا عجبا * يقف منه أعالي الجلد والشعر

إني رأيت أمين الله واجهني * في صورة أكملت من أعظم الصور

ثم استمر فكاد الخوف يذعرني * مما يسلِّم من حولي من الشجر

فقلت ظني وما أدري أيصدقني * أن سوف يبعث يتلو مُنزل السور

وسوف يبليك إن أعلنت دعوتهم * من الجهاد بلا منّ ولا كدر

هكذا أورد ذلك الحافظ البيهقي من الدلائل، وعندي في صحتها عن ورقة نظر والله أعلم.

وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي - وكان واعية -عن بعض أهل العلم: أن رسول الله حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر البيوب عنه، ويفضي إلى شعاب مكة، وبطون أوديتها، فلا يمر بحجر، ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.

قال فيلتفت حوله عن يمينه، وعن شماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة. فمكث رسول الله كذلك يرى ويسمع، ما شاء الله أن يمكث، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاء من كرامة الله، وهو بحراء في شهر رمضان.

قال ابن إسحاق: وحدثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي: حدثنا يا عبيد، كيف كان بدو ما ابتدئ به رسول الله من النبوة، حين جاءه جبريل قال: فقال عبيد وأنا حاضر - يحدث عبد الله ابن الزبير ومن عنده من الناس -: كان رسول الله يجاور في حراء في كل سنة شهرا يتحنث قال: وكان ذلك مما يحبب به قريش في الجاهلية، والتحنث: التبرز.

فكان رسول الله يجاور ذلك الشهر من كل سنة، يطعم من جاءه من المساكين، فإذا قضى جواره من شهره ذلك، كان أول ما يبدأ به، إذا انصرف من جواره الكعبة، قبل أن يدخل بيته، فيطوف بها سبعا، أو ما شاء الله من ذلك، ثم يرجع إلى بيته حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه فيها.

وذلك الشهر شهر رمضان، خرج رسول الله إلى حراء كما كان يخرج لجواره ومعه أهله، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته، ورحم العباد به، جاءه جبريل بأمر الله تعالى.

فقال رسول الله : «فجاءني جبريل وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب.

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال: اقرأ؛ قال: قلت ما أقرأ؟ قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال اقرأ، قلت ما أقرأ؟

قال: فغتني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني.

فقال اقرأ، قلت: ماذا أقرأ؟ ما أقول ذلك إلا افتدا منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي.

فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 9.

قال: فقرأتها، ثم انتهى وانصرف عني، وهببت من نومي فكأنما كتب في قلبي كتابا.

قال فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.

قال: فرفعت رأسي إلى السماء فأنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل.

فوقفت أنظر إليه، فما أتقدم، وما أتأخر، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك.

فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي، وما أرجع ورائي، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها، وأنا واقف في مكاني ذلك، ثم انصرف عني.

وانصرفت راجعا إلى أهلي، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها.

فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة، ورجعوا إليّ.

ثم حدثتها بالذي رأيت.

فقالت: أبشر يا ابن العم، واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله .

فقال ورقة: قدوس، قدوس، والذي نفس ورقة بيده؛ لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، وقولي له: فليثبت.

فرجعت خديجة إلى رسول الله فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول الله جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة.

فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره.

فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه، ولتخرجنه، ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه.

ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله إلى منزله.

وهذا الذي ذكره عبيد بن عمير كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة، كما تقدم من قول عائشة رضي الله عنها، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة، والله أعلم.

وقال موسى بن عقبة: عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: وكان فيما بلغنا أول ما رأى - يعني: رسول الله - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام، فشق ذلك عليه فذكرها لامرأته خديجة فعصمها الله عن التكذيب، وشرح صدرها للتصديق.

فقالت: أبشر فإن الله لم يصنع بك إلا خيرا، ثم إنه خرج من عندها، ثم رجع إليها فأخبرها أنه رأى بطنه شق ثم غسل وطهر، ثم أعيد كما كان.

قالت: هذا والله خير فأبشر.

ثم استعلن له جبريل وهو بأعلى مكة، فأجلسه على مجلس كريم معجب كان النبي يقول: «أجلسني على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت، واللؤلؤ، فبشره برسالة الله عز وجل، حتى اطمأن رسول الله ».

فقال له جبريل: اقرأ، فقال: كيف اقرأ؟ فقال: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } 10.

قال: ويزعم ناس أن { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } أول سورة نزلت عليه، والله أعلم.

قال فقبل رسول الله رسالة ربه، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله، فلما انصرف منقلبا إلى بيته، جعل لا يمرُّ على شجر، ولا حجر، إلا سلَّم عليه، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما.

فلما دخل على خديجة قال: أرأيتك التي كنت حدثتك أني رأيته في المنام فإنه جبريل استعلن إليّ، أرسله إليّ ربي عزَّ وجل، وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه.

فقالت: أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، وأقبل الذي جاءك من أمر الله فإنه حق، وأبشر فإنك رسول الله حقا.

ثم انطلقت من مكانها فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال له: عداس، فقالت له: يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل؟

فقال: قدوس قدوس، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان؟

فقالت: أخبرني بعلمك فيه.

قال: فإنه أمين الله بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام.

فرجعت خديجة من عنده فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي وما ألقاه إليه جبريل.

فقال لها ورقة: يا بنية أخي ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وأقسم بالله لئن كان إياه، ثم أظهر دعواه وأنا حي لأبلين الله في طاعة رسوله وحسن مؤازرته للصبر والنصر.

فمات ورقة رحمه الله.

قال الزهري: فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله .

قال الحافظ البيهقي بعد إيراده ما ذكرناه: والذي ذكر فيه من شق بطنه، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه، يعني: شق بطنه عند حليمة، ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء والله أعلم.

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ورقة بإسناده إلى سليمان بن طرخان التيمي. قال: بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة وكان أول شيء اختصه به من النبوة، والكرامة رؤيا كان يراها، فقصَّ ذلك على زوجته خديجة بنت خويلد، فقالت له: ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا.

فبينما هو ذات يوم في حراء، وكان يفر إليه من قومه إذ نزل عليه جبريل فدنا منه فخافه رسول الله مخافة شديدة، فوضع جبريل يده على صدره، ومن خلفه بين كتفيه.

فقال: اللهم احطط وزره، واشرح صدره، وطهر قلبه، يا محمد أبشر!فإنك نبي هذه الأمة.

اقرأ، فقال له نبي الله: - وهو خائف يرعد - ما قرأت كتابا قط، ولا أحسنه، وما أكتب، وما أقرأ.

فأخذه جبريل فغته غتا شديدا، ثم تركه، ثم قال له: اقرأ، فأعاد عليه مثله فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك، فرأى فيه من صفاءه، وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت، وقال له: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» الآيات.

ثم قال له: لا تخف يا محمد إنك رسول الله، ثم انصرف وأقبل على رسول الله همه فقال كيف أصنع؟ وكيف أقول لقومي؟

ثم قام رسول الله وهو خائف، فأتاه جبريل من أمامه وهو في صعرته، فرأى رسول الله أمرا عظيما ملأ صدره.

فقال له جبريل: لا تخف يا محمد: جبريل رسول الله جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله، فأيقن بكرامة الله، فإنك رسول الله.

فرجع رسول الله لا يمرُّ على شجرٍ ولا حجرٍ إلا هو ساجد يقول: السلام عليك يا رسول الله.

فاطمأنت نفسه وعرف كرامة الله إياه، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه فأفزعها ذلك، فقامت إليه فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه وتقول: لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم.

فقال: يا خديجة أرأيت الذي كنت أرى في المنام، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة، وأهال منه فإنه جبريل قد استعلن لي وكلمني وأقرأني كلاما فزعت منه ثم عاد إليّ فأخبرني أني نبي هذه الأمة، فأقبلت راجعا فأقبلت على شجر، وحجارة، فقلن السلام عليك يا رسول الله.

فقالت خديجة: أبشر فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظره اليهود، قد أخبرني به ناصح غلامي وبحيرى الراهب، وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة.

فلم تزل برسول الله حتى طعم وشرب وضحك، ثم خرجت إلى الراهب، وكان قريبا من مكة، فلما دنت منه وعرفها.

قال: مالك يا سيدة نساء قريش؟

فقالت: أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل؟

فقال: سبحان الله ربنا القدوس ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان؟ جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله، وهو صاحب موسى، وعيسى، فعرفت كرامة الله لمحمد.

ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له: عداس فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها الراهب وأزيد.

قال: جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه، وكان معه حين كلمه الله على الطور، وهو صاحب عيسى بن مريم الذي أيده الله به.

ثم قامت من عنده، فأتت ورقة بن نوفل، فسألته عن جبريل، فقال لها مثل ذلك، ثم سألها ما الخبر فأحلفته أن يكتم ما تقول له، فحلف لها.

فقالت له: إن ابن عبد الله ذكر لي، وهو صادق، أحلف بالله ما كذب ولا كذب، أنه نزل عليه جبريل بحراء، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة، وأقرأه آيات أرسل بها.

قال: فذعر ورقة لذلك، وقال: لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض، وما نزل إلا على نبي، وهو صاحب الأنبياء والرسل، يرسله الله إليهم وقد صدقتك عنه، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله، وأسمع من قوله، وأحدثه، فإني أخاف أن يكون غير جبريل، فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا.

فقامت من عنده، وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا، فرجعت إلى رسول الله فأخبرته بما قال ورقة، فأنزل الله تعالى: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } الآيات 11.

فقال لها: كلا والله إنه لجبريل.

فقالت له: أحب أن تأتيه فتخبره لعل الله أن يهديه فجاءه رسول الله فقال له ورقة: هذا الذي جاءك جاءك في نور أو ظلمة؟

فأخبره رسول الله عن صفة جبريل، وما رآه من عظمته، وما أوحاه إليه.

فقال ورقة: أشهد أن هذا جبريل، وأن هذا كلام الله فقد أمرك بشيء تبلغه قومك وأنه لأمر نبوة فإن أُدرك زمانك أتبعك، ثم قال: أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به.

قال: وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله فشق ذلك على الملأ من قومه، قال وفتر الوحي.

فقالوا: لو كان من عند الله لتتابع، ولكن الله قلاه فأنزل الله (والضحى) و (ألم نشرح) بكمالهما.

وقال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس عن ابن إسحاق، حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير، أنه حدثه عن خديجة بنت خويلد، أنها قالت لرسول الله فيما بيّنه مما أكرمه الله به من نبوته:

يا ابن عم تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك.

فقال: نعم!

فقالت: إذا جاءك فأخبرني.

فبينا رسول الله عندها إذ جاء جبريل فرآه رسول الله .

فقال: يا خديجة! هذا جبريل.

فقالت: أتراه الآن؟

قال: نعم!

قالت: فاجلس إلى شقي الأيمن، فتحول فجلس، فقالت: أتراه الآن؟

قال: نعم!

قالت: فتحول فاجلس في حجري فتحول رسول الله فجلس في حجرها فقالت: هل تراه الآن؟

قال: نعم!

فتحسرت رأسها فشالت خمارها، ورسول الله جالس في حجرها

فقالت: هل تراه الآن؟

قال: لا.

قالت: ما هذا بشيطان إن هذا لملك يا ابن عم، فاثبت وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق.

قال ابن إسحاق: فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث، فقال: قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة، إلا أني سمعتها تقول: أدخلت رسول الله بينها وبين درعها فذهب عندك ذلك جبريل عليه السلام.

قال البيهقي: وهذا شيء كان من خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا لدينها وتصديقا.

فأما النبي فقد كان قد وثق بما قال له جبريل، وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى، وما كان من تسليم الشجر، والحجر عليه تسليما.

وقد قال مسلم في (صحيحه): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا إبراهيم بن طهمان، حدثني سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.

أن رسول الله قال: «إني لأعرف حجرا بمكة، كان يسلم عليَّ قبل أن بعث، إني لأعرفه الآن».

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة أن رسول الله قال: «إن بمكة لحجرا كان يسلم عليّ ليالي بعثت، إني لأعرفه إذا مررت عليه».

وروى البيهقي من حديث إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، عن عباد بن عبد الله، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال: كنا مع رسول الله بمكة، فخرج في بعض نواحيها، فما استقبله شجر، ولا جبل، إلا قال السلام عليك يا رسول الله.

وفي رواية لقد رأيتني أدخل معه - يعني: النبي - الوادي فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليكم يا رسول الله.

وأنا أسمعه.

فصل حزن النبي صلى الله عليه وسلم عندما فترعنه الوحي

قال البخاري في روايته المتقدمة: ثم فتر الوحي حتى حزن النبي فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدَّى له جبريل فقال: يا محمد، إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه وتقرَّ نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدَّى له جبريل، فقال له مثل ذلك.

وفي (الصحيحين) من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال: سمعت أبا سلمة عبد الرحمن، يحدث عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله يحدث عن فترة الوحي.

قال: «فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء و الأرض فجثيت منه فرقا، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله: { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ } 12.

قال: ثم حمي الوحي وتتابع فهذا كان أول ما نزل من القرآن بعد فترة الوحي لا مطلقا.

ذاك قوله: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }

وقد ثبت عن جابر أن أول ما نزل { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } واللائق حمل كلامه ما أمكن على ما قلناه، فإن في سياق كلامه ما يدل على تقدم مجيء الملك الذي عرفه ثانيا بما عرفه به أولا إليه.

ثم قوله: يحدّث عن فترة الوحي دليل على تقدم الوحي على هذا الإيحاء والله أعلم.

وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث علي بن المبارك، وعند مسلم، والأوزاعي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن أي القرآن أنزل قبل؟

فقال: «يا أيها المدثر».

فقلت: «واقرأ باسم ربك».

فقال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن نزل قبل؟

فقال: «يا أيها المدثر».

فقلت: «واقرأ باسم ربك».

فقال: أحدثكم ما حدثنا رسول الله .

قال رسول الله : «إني جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جواري، نزلت فاستبطنت الوادي، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني، وعن شمالي، فلم أر شيئا، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فأخذتني رعدة - أو قال وحشة - فأتيت خديجة فأمرتهم، فدثروني، فأنزل الله: «يا أيها المدثر» حتى بلغ «وثيابك فطهر».

وقال في رواية -: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثيت منه».

وهذا صريح في تقدم إتيانه إليه وإنزاله الوحي من الله عليه كما ذكرناه والله أعلم.

ومنهم: زعم أن أول ما نزل بعد فترة الوحي سورة: { والضحى والليل إذا سجى * ما ودعك ربك وما قلى } إلى آخرها.

قاله محمد بن إسحاق.

وقال بعض القرَّاء: ولهذا كـَّبر رسول الله في أولها فرحا وهو قول بعيد يرده ما تقدم من رواية صاحبي (الصحيح) من أن أول القرآن نزولا بعد فترة الوحي: { يا أيها المدثر * قم فانذر }

ولكن نزلت سورة (والضحى) بعد فترة أخرى، كانت ليالي يسيرة كما ثبت في (الصحيحين) وغيرهما، من حديث الأسود بن قيس، عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: اشتكى رسول الله فلم يقم ليلة أو ليلتين أو ثلاثا فقالت امرأة: ما أرى شيطانك إلا تركك.

فأنزل الله: { وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } 13.

وبهذا الأمر حصل الإرسال إلى الناس وبالأول حصلت النبوة.

وقد قال بعضهم: كانت مدة الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصفا، والظاهر والله أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشعبي، وغيره.

ولا ينفي هذا تقدم إيحاء جبريل إليه أولا: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } ثم اقترن به جبريل بعد نزول: { يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر }.

وثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع - أي: تدارك شيئا بعد شيء - وقام حينئذ رسول الله في الرسالة أتم القيام وشمَّر عن ساق العزم، ودعا إلى الله، القريب، والبعيد، والأحرار، والعبيد، فآمن به حينئذ كل لبيب نجيب سعيد، واستمر على مخالفته وعصيانه كل جبار عنيد.

فكان أول من بادر إلى التصديق من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق.

ومن الغلمان: علي بن أبي طالب.

ومن النساء: خديجة بنت خويلد زوجته عليه السلام.

ومن الموالي: مولاه زيد بن حارثة الكلبي رضي الله عنهم وأرضاهم.

وتقدم الكلام على إيمان ورقة بن نوفل بما وجد من الوحي ومات في الفترة رضي الله عنه.

فصل في منع الجان ومردة الشياطين من استراق السمع حين أنزل القرآن

لئلا يختطف أحدهم منه ولو حرفا واحدا فيلقيه على لسان وليه فيلتبس الأمر ويختلط الحق

فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه، أن حجبهم عن السماء كما قال الله تعالى إخبارا عنهم في قوله: { وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسا شَدِيدا وَشُهُبا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابا رَصَدا * وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدا } 14.

وقال تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } 15

قال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد - وهو الطبراني - حدثنا عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فتكون باطلا.

فلما بعث النبي منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك.

فقال لهم إبليس: هذا لأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله قائما يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه.

فقال: هذا الأمر الذي قد حدث في الأرض.

وقال أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: ما قرأ رسول الله على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله ، وأصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين، وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم.

فقالوا: ما لكم؟

قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.

فقالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها.

فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة، وهو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له.

فقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا: { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنا عَجَبا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدا }. 16.

فأوحى الله إلى نبيه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } الآية 17. أخرجاه في (الصحيحين).

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: إنه لم تكن قبيلة من الجن إلا ولهم مقاعد للسمع، فإذا نزل الوحي سمعت الملائكة صوتا كصوت الحديدة ألقيتها على الصفا، قال: فإذا سمعت الملائكة خروا سجدا فلم يرفعوا رؤسهم حتى ينزل.

فإذا نزل قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ فإن كان مما يكون في السماء.

قالوا: الحق وهو العلي الكبير، وإن كان مما يكون في الأرض من أمر الغيب، أو موت، أو شيء مما يكون في الأرض تكلموا به.

فقالوا: يكون كذا وكذا فتسمعه الشياطين فينزلونه على أوليائهم، فلما بعث النبي محمد دحروا بالنجوم فكان أول من علم بها ثقيف، فكان ذو الغنم منهم ينطلق إلى غنمه فيذبح كل يوم شاة، وذا الإبل فينحر كل يوم بعيرا، فأسرع الناس في أموالهم، فقال بعضهم لبعض:

لا تفعلوا فإن كانت النجوم التي يهتدون بها وإلا فإنه لأمر حدث، فنظروا فإذا النجوم التي يهتدي بها كما هي لم يزل منها شيء فكفوا وصرف الله الجن فسمعوا القرآن فلما حضروه قالوا: انصتوا وانطلقت الشياطين إلى إبليس فأخبروه.

فقال: هذا حدثٌ حدث في الأرض، فأتوني من كل أرض بتربة، فأتوه بتربة تهامة، فقال: ههنا الحدث.

ورواه البيهقي، والحاكم، من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب..

وقال الواقدي: حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن عمر بن عبدان العبسي، عن كعب قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى، حتى تنبأ رسول الله فرمى بها، فرأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم، ويعتقون أرقاءهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك من فعلهم أهل الطائف، ففعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل بن عمرو ما صنعت ثقيف.

قال: ولم فعلتم ما أرى؟

قالوا: رمى بالنجوم، فرأيناها تهافت من السماء.

فقال: إن إفادة المال بعد ذهابه شديد، فلا تعجلوا، وانظروا: فإن تكن نجوما تعرف فهو عندنا من فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه.

فقال: الأمر فيه مهلة بعد هذا عند ظهور نبي.

فما مكثوا إلا يسيرا، حتى قدم عليهم أبو سفيان بن حرب إلى أمواله، فجاء عبد ياليل فذاكره أمر النجوم، فقال أبو سفيان: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل.

فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمى بها.

وقال سعيد بن منصور، عن خالد بن حصين، عن عامر الشعبي.

قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث الله، رسول الله فرمي بها فسيبوا أنعامهم، وأعتقوا رقيقهم.

فقال عبد ياليل: انظروا فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو لأمر قد حدث، فنظروا فإذا هي لا تعرف.

قال: فأمسكوا، فلم يلبثوا إلا يسيرا، حتى جاءهم خروج النبي .

وروى البيهقي، والحاكم، من طريق العوفي، عن ابن عباس قال: لم تكن سماء الدنيا تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما وسلامه.

فلعل مراد من نفى ذلك أنها لم تكن تحرس حراسة شديدة.

ويجب حمل ذلك على هذا لما ثبت في الحديث من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن علي بن الحسين، عن ابن عباس رضي الله عنهما: بينا رسول الله جالس في نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستدار فقال: «ما كنتم تقولون إذا رمي بهذا؟».

قال: كنا نقول مات عظيم، وولد عظيم.

فقال: «لا ولكن».

فذكر الحديث كما تقدم عند خلق السماء وما فيها من الكواكب في أول بدء الخلق ولله الحمد.

وقد ذكر ابن إسحاق في السيرة قصة رمي النجوم وذكر عن كبير ثقيف أنه قال لهم في النظر في النجوم: إن كانت أعلام السماء أو غيرها، ولكن سماه عمرو بن أمية، فالله أعلم.

وقال السدي: لم تكن السماء تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين لله ظاهر، وكانت الشياطين قبل محمد قد اتخذت المقاعد في سماء الدنيا يستمعون ما يحدث في السماء من أمر.

فلما بعث الله محمدا نبيا، رجموا ليلة من الليالي ففزع لذلك أهل الطائف.

فقالوا: هلك أهل السماء لما رأوا من شدة النار في السماء، واختلاف الشهب، فجعلوا يعتقون أرقاءهم، ويسيبون مواشيهم.

فقال لهم عبد ياليل بن عمرو بن عمير: ويحكم يا معشر أهل الطائف أمسكوا عن أموالكم، وانظروا إلى معالم النجوم فإن رأيتموها مستقرة في أمكنتها فلم يهلك أهل السماء، وإنما هو من ابن أبي كبشة، وإن أنتم لم تروها فقد أهلك أهل السماء.

فنظروا فرأوها فكفوا عن أموالهم، وفزعت الشياطين في تلك الليلة، فأتوا إبليس، فقال: ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب.

فأتوه فشمَّ.

فقال: صاحبكم بمكة، فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا مكة، فوجدوا رسول الله في المسجد الحرام يقرأ القرآن، فدنوا منه حرصا على القرآن، حتى كادت كلاكلهم تصيبه، ثم أسلموا فأنزل الله أمرهم على نبيه .

وقال الواقدي: حدثني محمد بن صالح، عن ابن أبي حكيم - يعني: إسحاق - عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال:

لما بعث رسول الله أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين، فقالوا له: ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا.

قال: هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه، فقالوا: لم نجده.

فقال: أنا صاحبه فخرج يلتمسه فنودي عليك بجنبة الباب - يعني: مكة - فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين.

فقال: إني قد وجدته معه جبريل، فما عندكم؟

قالوا: نزين الشهوات في عين أصحابه، ونحببها إليهم.

قال: فلا آسى إذا.

وقال الواقدي: حدثني طلحة بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن عمرو قال:

لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول الله منعت الشياطين من السماء، ورموا بالشهب، فجاؤوا إلى إبليس فذكروا ذلك له.

فقال: أمر قد حدث هذا نبي قد خرج عليكم بالأرض المقدسة مخرج نبي إسرائيل.

قال: فذهبوا إلى الشام، ثم رجعوا إليه، فقالوا: ليس بها أحد.

فقال إبليس: أنا صاحبه، فخرج في طلبه بمكة؛ فإذا رسول الله بحراء منحدرا معه جبريل، فرجع إلى أصحابه.

فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل، فما عندكم؟

قالوا: الدنيا نحببها إلى الناس.

قال: فذاك إذا.

قال الواقدي: وحدثني طلحة ابن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: كانت الشياطين يستمعون الوحي، فلما بعث محمد منعوا، فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر فرقي فوق أبي قبيس - وهو أول جبل وضع على وجه الأرض - فرأى رسول الله يصلي خلف المقام.

فقال: اذهب فاكسر عنقه.

فجاء يخطر وجبريل عنده، فركضه جبريل ركضة طرحه في كذا وكذا فولى الشيطان هاربا..

ثم رواه الواقدي، وأبو أحمد الزبيري، كلاهما عن رباح بن أبي معروف، عن قيس بن سعد، عن مجاهد، فذكر مثل هذا، وقال: فركضه برجله فرماه بعدن.

فصل في كيفية إتيان الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قد تقدم كيفية ما جاءه جبريل في أول مرة، وثاني مرة أيضا.

وقال مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها.

إن الحارث بن هشام سأل رسول الله .

قال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟

فقال: «أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس - وهو أشده عليّ - فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا يكلمني فأعي ما يقول».

قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وأن جبينه ليتفصد عرقا أخرجاه في (الصحيحين) من حديث مالك به.

ورواه الإمام أحمد، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة به نحوه.

وكذا رواه عبدة بن سليمان، وأنس بن عياض، عن هشام بن عروة.

وقد رواه أيوب السختياني، عن هشام، عن أبيه، عن الحارث بن هشام أنه قال: سألت رسول الله فقلت: كيف يأتيك الوحي؟

فذكره، ولم يذكر عائشة.

وفي حديث الإفك قالت عائشة: فوالله ما رام رسول الله ، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه.

فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى أنه كان يتحدر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شات من ثقل الوحي الذي نزل عليه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سليم، قال: أملى عليّ يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عبد الرحمن بن عبد القاري سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل..

وذكر تمام الحديث في نزول: { قد أفلح المؤمنون }.

وكذا رواه الترمذي، والنسائي من حديث عبد الرزاق، ثم قال النسائي: منكر لا نعرف أحدا رواه، غير يونس بن سليم، ولا نعرفه.

وفي (صحيح مسلم)، وغيره، من حديث الحسن، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن عبادة بن الصامت.

قال: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي كربه ذلك، وتربد وجهه.

وفي رواية - وغمض عينيه - وكنا نعرف ذلك منه.

وفي (الصحيحين) حديث زيد بن ثابت حين نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } فلما شكى ابن أم مكتوم ضرارته نزلت: { غير أولى الضرر }.

قال: وكانت فخذ رسول الله على فخذي، وأنا أكتب، فلما نزل الوحي كادت فخذه ترض فخذي.

وفي (صحيح مسلم) من حديث همام بن يحيى، عن عطاء، عن يعلى بن أمية.

قال: قال لي عمر: أيسرك أن تنظر إلى رسول الله وهو يوحى إليه؟

فرفع طرف الثوب عن وجهه وهو يوحى إليه بالجعرانة؛ فإذا هو محمرّ الوجه، وهو يغط كما يغط البكر.

وثبت في (الصحيحين) من حديث عائشة لما نزل الحجاب، وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا، فقال عمر: قد عرفناك يا سودة.

فرجعت إلى رسول الله فسألته وهو جالس يتعشى والعرق في يده، فأوحى الله إليه والعرق في يده، ثم رفع رأسه فقال: «إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن».

فدلَّ هذا على أنه لم يكن الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية، بدليل أنه جالس، ولم يسقط العرق أيضا من يده صلوات الله وسلامه دائما عليه.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا عباد بن منصور، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس.

قال: كان رسول الله إذا أنزل عليه الوحي تربَّد لذلك جسده ووجهه، وأمسك عن أصحابه، ولم يكلمه أحد منهم.

وفي (مسند أحمد)، وغيره، من حديث ابن لهيعة: حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن ابن عبد الله بن عمرو، قلت يا رسول الله هل تحس بالوحي؟.

قال: «نعم اسمع صلاصل ثم أثبت عند ذلك، وما من مرة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تفيظ منه».

وقال أبو يعلى الموصلي: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم بن كليب، حدثنا أبي عن خاله العليان بن عاصم.

قال: كنا عند رسول الله وأنزل عليه، وكان إذا أنزل عليه دام بصره وعيناه مفتوحة، وفرغ سمعه وقلبه، لما يأتيه من الله عز وجل.

وروى أبو نعيم من حديث قتيبة، حدثنا علي بن غراب، عن الأحوص بن حكيم، عن أبي عوانة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.

قال: كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي صدع وغلف رأسه بالحناء.

هذا حديث غريب جدا.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا أبو معاوية سنان، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.

قالت: إني لآخذه بزمام العضباء ناقة رسول الله ، إذ نزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة.

وقد رواه أبو نعيم من حديث الثوري، عن ليث بن أبي سليم به.

وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا حسن، حدثنا ابن لهيعة، حدثني جبر بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله سورة المائدة وهو راكب على راحلته، فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.

وروى ابن مردويه من حديث صباح ابن سهل، عن عاصم الأحول، حدثتني أم عمرو، عن عمها: أنه كان في مسير مع رسول الله ، فنزلت عليه سورة المائدة، فاندق عنق الراحلة من ثقلها.

وهذا غريب من هذا الوجه.

ثم قد ثبت في (الصحيحين) نزول سورة الفتح على رسول الله مرجعه من الحديبية، وهو على راحلته، فكان يكون تارة وتارة بحسب الحال والله أعلم.

وقد ذكرنا أنواع الوحي إليه في أول (شرح البخاري)، وما ذكره الحليمي، وغيره من الأئمة رضي الله عنهم.

فصل ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه

قال الله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } 18.

وقال تعالى: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما } 19.

وكان هذا في الابتداء، كان عليه السلام من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحى إليه عن الله عز وجل ليساوقه في التلاوة..

فأمره الله تعالى أن ينصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسر عليه تلاوته وتبليغه، وأن يبينه له، ويفسره ويوضحه ويوقفه على المراد منه.

ولهذا قال: { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما }

وقال: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ }

أي: في صدرك

{ وَقُرْآنَهُ } أي: وأن تقرأه.

{ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: تلاه عليك الملك.

{ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: فاستمع له وتدبره.

{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : وهو نظير قوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْما }

وفي (الصحيحين) من حديث موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله يعالج من التنزيل شدة؛ فكان يحرك شفتيه، فأنزل الله: { لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه }.

قال: جمعه في صدرك ثم تقرأه: { فإذا قرأناه فاتبع قرآنه } : فاستمع له وأنصت.

{ ثم إن علينا بيانه } قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق، فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عز وجل.

فصل تتابع الوحي إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: ثم تتابع الوحي إلى رسول الله وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه، قد قبله بقبوله وتحمل منه ما حمله - على رضا العباد وسخطهم - وللنبوة أثقال ومؤنة، لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة، والعزم من الرسل، بعون الله وتوفيقه لما يلقون من الناس، وما يرد عليهم مما جاؤوا به عن الله عز وجل.

فمضى رسول الله على ما أمر الله على ما يلقى من قومه من الخلاف، والأذى.

قال ابن إسحاق: وآمنت خديجة بنت خويلد، وصدقت بما جاءه من الله ووازرته على أمره، وكانت أول من آمن بالله ورسوله، وصدقت بما جاء منه، فخفف الله بذلك عن رسوله لا يسمع شيئا يكرهه من ردٍ عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها تثبته، وتخفف عنه، وتصدقه، وتهون عليه أمر الناس، رضي الله عنها وأرضاها.

قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال: قال رسول الله : «أمرت أن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نضب».

وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) من حديث هشام.

قال ابن هشام: القصب هاهنا: اللؤلؤ المجوف..

قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله يذكر جميع ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من النبوة؛ سرا إلى من يطمئن إليه من أهله.

وقال موسى بن عقبة، عن الزهري: كانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله، قبل أن تفرض الصلاة.

قلت: يعني الصلوات الخمس ليلة الإسراء.

فأما أصل الصلاة فقد وجب في حياة خديجة رضي الله عنها كما سنبينه.

وقال ابن إسحاق: وكانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله، وصدق بما جاء به.

ثم أن جبريل أتى رسول الله وهو بأعلى مكة حين افترضت عليه الصلاة.

فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت له عين من ماء زمزم، فتوضأ جبريل ومحمد عليهما السلام، ثم صلى ركعتين وسجد أربع سجدات، ثم رجع النبي وقد أقرَّ الله عينه، وطابت نفسه، وجاءه ما يحب من الله.

فأخذ يد خديجة حتى أتى بها إلى العين، فتوضأ كما توضأ جبريل، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا.

قلت: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبين له أوقات الصلوات الخمس، أولها وآخرها، فإن ذلك كان بعد فرضيتها ليلة الإسراء، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله وبه الثقة، وعليه التكلان..

فصل أول من أسلم من متقدمي الإسلام والصحابة وغيرهم

قال ابن إسحاق: ثم إن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - جاء بعد ذلك بيوم وهما يصليان.

فقال علي: يا محمد ما هذا؟

قال: «دين الله الذي اصطفى لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له، وإلى عبادته».

«وأن تكفر باللات والعزى».

فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاضٍ أمرا حتى أحدث به أبا طالب.

فكره رسول الله أن يفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره.

فقال له: «يا علي إذا لم تسلم فاكتم».

فمكث علي تلك الليلة، ثم أن الله أوقع في قلب علي الإسلام، فأصبح غاديا إلى رسول الله ، حتى جاءه فقال: ماذا عرضت علي يا محمد؟

فقال له رسول الله : «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد».

ففعل علي وأسلم، ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم علي إسلامه ولم يظهره.

وأسلم ابن حارثة - يعني: زيدا - فمكثا قريبا من شهر يختلف علي إلى رسول الله ، وكان مما أنعم الله به على علي أنه كان في حجر رسول الله قبل الإسلام.

قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: وكان مما أنعم الله به على علي ومما صنع الله له، وأراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة.

فقال رسول الله لعمه العباس - وكان من أيسر بني هاشم - «يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة، فانطلق بنا إليه حتى نخفف عنه من عياله».... فأخذ رسول الله عليا فضمه إليه، فلم يزل مع رسول الله حتى بعثه الله نبيا، فاتَّبعه علي وآمن به وصدقه.

وقال يونس بن بكير، عن محمد ابن إسحاق، حدثني يحيى بن أبي الأشعث الكندي - من أهل الكوفة - حدثني إسماعيل بن أبي إياس بن عفيف، عن أبيه، عن جده عفيف - وكان عفيف أخا الأشعث بن قيس لأمه - أنه قال: كنت امرءا تاجرا، فقدمت منى أيام الحج، وكان العباس بن عبد المطلب امرءا تاجرا، فأتيته أبتاع منه وأبيعه.

قال: فبينا نحن عنده إذ خرج رجل من خباء، فقام يصلي تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه.

فقلت يا عباس ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما ندري ما هو؟

فقال: هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله به وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به.

قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذٍ، فكنت أكون ثانيا.

وتابعه إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، وقال: في الحديث: إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى السماء فلما رآها قد مالت قام يصلي.

ثم ذكر قيام خديجة وراءه.

وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبيد المحاربي، حدثنا سعيد بن خثيم، عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف عن عفيف قال: جئت زمن الجاهلية إلى مكة، فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فلما طلعت الشمس، وحلقت في السماء وأنا أنظر إلى الكعبة، أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة، فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشاب، فركع الغلام والمرأة، فرفع الشاب، فرفع الغلام والمرأة، فخر الشاب ساجدا، فسجدا معه.

فقلت: يا عباس أمر عظيم!

فقال: أمر عظيم.

فقال: أتدري من هذا؟

فقلت: لا

فقال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي.

أتدري من الغلام؟

قلت: لا

قال: هذا علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه -.

أتدري من هذه المرأة التي خلفهما؟

قلت: لا

قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي.

وهذا حدثني أن ربك رب السماء والأرض أمره بهذا الذي تراهم عليه، وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

وقال ابن جرير: حدثني ابن حميد، حدثنا عيسى بن سوادة بن أبي الجعد، حدثنا محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وأبو حازم، والكلبي.

قالوا: علي أول من أسلم.

قال الكلبي: أسلم وهو ابن تسع سنين.

وحدثنا ابن حميد، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق.

قال: أول ذكر آمن برسول الله وصلى معه وصدقه علي بن أبي طالب، وهو ابن عشر سنين، وكان في حجر رسول الله ، قبل الإسلام..

قال الواقدي: أخبرنا إبراهيم، عن نافع، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.

قال: أسلم علي وهو ابن عشر سنين.

قال الواقدي: وأجمع أصحابنا على أن عليا أسلم بعد ما تنبأ رسول الله بسنة.

وقال محمد بن كعب: أول من أسلم من هذه الأمة: خديجة وأول رجلين أسلما: أبو بكر، وعلي.

وأسلم علي قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه، حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟

قال: نعم.

قال: وازر ابن عمك وانصره.

قال: وكان أبو بكر الصديق أول من أظهر الإسلام.

وروى ابن جرير في (تاريخه): من حديث شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى علي.

وحدثنا عبد الحميد بن يحيى، حدثنا شريك، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر.

قال: بعث النبي يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء وروى من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة - رجل من الأنصار -سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم مع رسول الله علي بن أبي طالب، قال: فذكرته للنخعي فأنكره.

وقال: أبو بكر أول من أسلم.

ثم قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا العلاء، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله سمعت عليا يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت قبل الناس بسبع سنين.

وهكذا رواه ابن ماجه، عن محمد بن إسماعيل الرازي، عن عبيد الله بن موسى الفهمي - وهو شيعي من رجال الصحيح - عن العلاء بن صالح الأزدي الكوفي - وثقوه، ولكن قال أبو حاتم: كان من عتق الشيعة - وقال علي بن المديني: روى أحاديث مناكير والمنهال بن عمرو ثقة.

وأما شيخه عباد بن عبد الله - وهو الأسدي الكوفي -فقد قال فيه علي بن المديني: هو ضعيف الحديث، وقال البخاري: فيه نظر.

وذكره ابن حبان في الثقات، وهذا الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه، وكيف يمكن أن يصلي قبل الناس بسبع سنين؟ هذا لا يتصور أصلا والله أعلم.

وقال آخرون: أول من أسلم من هذه الأمة أبو بكر الصديق، والجمع بين الأقوال كلها أن: خديجة أول من أسلم من النساء وظاهر السباقات - وقيل: الرجال أيضا - وأول من أسلم من الموالي: زيد بن حارثة، وأول من أسلم من الغلمان: علي بن أبي طالب.

فإنه كان صغيرا دون البلوغ على المشهور، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت.

وأول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر الصديق، وإسلامه كان أنفع من إسلام من تقدم ذكرهم، إذ كان صدرا معظما، ورئيسا في قريش مكرما، وصاحب مال، وداعية إلى الإسلام.

وكان محببا متألفا يبذل المال في طاعة الله ورسوله كما سيأتي تفصيله.

قال يونس عن ابن إسحاق: ثم إن أبا بكر الصديق لقي رسول الله فقال: أحق ما تقول قريش يا محمد؟ من تركك آلهتنا، وتسفيهك عقولنا، وتكفيرك آبائنا؟

فقال رسول الله : «بلى إني رسول الله ونبيه، بعثني لأبلغ رسالته وأدعوك إلى الله بالحق، فوالله إنه للحق، أدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له، ولا تعبد غيره، والموالاة على طاعته».

وقرأ عليه القرآن، فلم يقر ولم ينكر.

فأسلم وكفر بالأصنام، وخلع الأنداد وأقر بحق الإسلام، ورجع أبو بكر وهو مؤمن مصدق.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحصين التميمي أن رسول الله قال: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته، ولا تردد فيه» عكم - أي: تلبث - وهذا الذي ذكره ابن إسحاق في قوله فلم يقر ولم ينكر، منكر فإن ابن إسحاق، وغيره ذكروا أنه كان صاحب رسول الله قبل البعثة، وكان يعلم من صدقه وأمانته، وحسن سجيته، وكرم أخلاقه ما يمنعه من الكذب على الخلق.

فكيف يكذب على الله؟ ولهذا بمجرد ما ذكر له إن الله أرسله بادر إلى تصديقه ولم يتلعثم، ولا عكم، وقد ذكرنا كيفية إسلامه في كتابنا الذي أفردناه في سيرته، وأوردنا فضائله وشمائله، وأتبعنا ذلك بسيرة الفاروق أيضا وأوردنا ما رواه كل منهما عن النبي من الأحاديث.

وما روي عنه من الآثار والأحكام والفتاوى، فبلغ ذلك ثلاث مجلدات والله الحمد والمنة.

وقد ثبت في (صحيح البخاري) عن أبي الدرداء في حديث ما كان بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الخصومة وفيه فقال رسول الله : «إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين.

فما أوذي بعدها، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وقد روى الترمذي، وابن حبان من حديث شعبة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.

قال: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ألست أحق الناس بها، ألست أول من أسلم، ألست صاحب كذا؟

وروى ابن عساكر من طريق بهلول بن عبيد، حدثنا أبو إسحاق السبيعي، عن الحارث سمعت عليا يقول: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر الصديق وأول من صلى مع النبي من الرجال: علي ابن أبي طالب.

وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من صلى مع النبي : أبو بكر الصديق.

رواه أحمد، والترمذي، والنسائي من حديث شعبة وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقد تقدم رواية ابن جرير لهذا الحديث من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة، عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب.

قال عمرو بن مرة فذكرته لإبراهيم النخعي فأنكره وقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

وروى الواقدي بأسانيده عن أبي أروى الدوسي، وأبي مسلم بن عبد الرحمن في جماعة من السلف: أول من أسلم أبو بكر الصديق.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو بكر الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن مالك بن مغول، عن رجل قال: سئل ابن عباس من أول من آمن؟ فقال: أبو بكر الصديق، أما سمعت قول حسان:

إذا تذكَّرتَ شجْوا من أخي ثقةٍ * فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا

خيرَ البريةِ أوفاها وأعدلها * بعد النبيّ وأولاها بما حملا

والتاليُ الثانيُ المحمودُ مشهدُه * وأول الناس منهم صدَّق الرسلا

عاشَ حميدا لأمرِ الله متبعا * بأمر صاحبه الماضي وما انتقلا

وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا شيخ لنا، عن مجالد، عن عامر قال: سألت ابن عباس - أو سئل ابن عباس - أي الناس أول إسلاما؟ قال: أما سمعت قول حسان بن ثابت فذكره وهكذا رواه الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن عامر الشعبي سألت ابن عباس فذكره.

وقال أبو القاسم البغوي: حدثني سريج بن يونس، حدثنا يوسف بن الماجشون قال: أدركت مشيختنا منهم محمد بن المنكدر، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وصالح بن كيسان، وعثمان بن محمد، لا يشكُّون أن أول القوم إسلاما أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

قلت: وهكذا قال إبراهيم النخعي، ومحمد بن كعب، ومحمد بن سيرين، وسعد بن إبراهيم، وهو المشهور عن جمهور أهل السنة.

وروى ابن عساكر عن سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن الحنفية أنهما قالا: لم يكن أولهم إسلاما، ولكن كان أفضلهم إسلاما.

قال سعد: وقد آمن قبله خمسة.

وثبت في (صحيح البخاري) من حديث همام بن الحارث، عن عمار بن ياسر.

قال: رأيت رسول الله وما معه إلا خمسة: أعبد وامرأتان، وأبو بكر.

وروى الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن أبي النجود، عن زر، عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول الله فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالا فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد.

وهكذا رواه الثوري، عن منصور، عن مجاهد مرسلا.

فأما ما رواه ابن جرير قائلا: أخبرنا ابن حميد حدثنا كنانة بن حبلة، عن إبراهيم بن طهمان، عن حجاج، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن محمد بن سعد بن أبي وقاص.

قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أولكم إسلاما؟

قال: لا! ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ولكن كان أفضلنا إسلاما.

فإنه حديث منكر إسنادا ومتنا.

قال ابن جرير وقال آخرون: كان أول من أسلم زيد ابن حارثة، ثم روى من طريق الواقدي، عن ابن أبي ذئب، سألت الزهري من أول من أسلم من النساء؟

قال: خديجة.

قلت: فمن الرجال؟

قال: زيد بن حارثة.

وكذا قال عروة وسليمان بن يسار وغير واحد: أول من أسلم من الرجال زيد بن حارثة.

وقد أجاب أبو حنيفة رضي الله عنه بالجمع بين هذه الأقوال بأن أول من أسلم من الرجال الأحرار: أبو بكر، ومن النساء: خديجة، ومن الموالي: زيد بن حارثة، ومن الغلمان: علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

قال محمد بن إسحاق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه دعا إلى الله عز وجل، وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر.

وكان رجلا تاجرا ذا خلق معروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.

فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه فأسلم على يديه - فيما بلغني - الزبير بن العوام، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فانطلقوا إلى رسول الله ومعهم أبو بكر.

فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام فآمنوا، وكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس في الإسلام صدقوا رسول الله وآمنوا بما جاء من عند الله..

وقال محمد بن عمر الواقدي: حدثني الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان الوالبي، عن إبراهيم بن محمد بن أبي طلحة، قال: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل الموسم أفيهم رجل من أهل الحرم؟

قال طلحة: قلت: نعم أنا.

فقال: هل ظهر أحمد بعد؟

قلت: ومن أحمد؟

قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم، ومهاجرا إلى نخل وحرة وسباخ، فإياك أن تُسْبَق إليه.

قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال، فخرجت سريعا حتى قدمت مكة فقلت هل كان من حديث؟

قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين قد تنبأ، وقد اتبعه أبو بكر بن أبي قحافة.

قال: فخرجت حتى قدمت على أبي بكر، فقلت: اتبعت هذا الرجل؟

قال: نعم فانطلق إليه فادْخُل عليه فاتبعه فإنه يدعو إلى الحق، فأخبره طلحة بما قال الراهب.

فخرج أبو بكر بطلحة فدخل به على رسول الله فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله بما قال الراهب فسرَّ رسول الله بذلك.

فلما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية - وكان يدعى أسد قريش - فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم فلذلك سمي أبو بكر وطلحة القرينين.

وقال النبي : «اللهم اكفنا شر ابن العدوية».

وقال الحافظ أبو الحسن خيثمة بن سليمان الأطرابلسي حدثنا عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز العمري قاضي المصيصة، حدثنا أبو بكر عبد الله بن عبيد الله بن إسحاق بن محمد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عبيد الله، حدثني عبد الله بن محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: حدثني أبي محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها قالت:

خرج أبو بكر يريد رسول الله ، وكان له صديقا في الجاهلية، فلقيه فقال: يا أبا القاسم فقدت من مجالس قومك، واتهموك بالعيب لآبائها وأمهاتها.

فقال رسول الله : «إني رسول الله أدعوك إلى الله» فلما فرغ كلامه أسلم أبو بكر فانطلق عنه رسول الله ، وما بين الأخشبين أحد أكثر سرورا منه بإسلام أبي بكر، ومضى أبو بكر فراح لعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص فأسلموا.

ثم جاء الغد بعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي سلمة بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم فأسلموا رضي الله عنهم.

قال عبد الله بن محمد: فحدثني أبي، محمد بن عمران، عن القاسم بن محمد، عن عائشة؛ قالت: لما اجتمع أصحاب النبي وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحَّ أبو بكر على رسول الله في الظهور فقال: «يا أبا بكر إنا قليل».

فلم يزل أبو بكر يلحُّ حتى ظهر رسول الله ، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله، وإلى رسوله ، وثار المشركون على أبي بكر، وعلى المسلمين، فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفتين، ويحرفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.

وجاء بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر، وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تيم، فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب.

فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله ؟ فمسوا منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا: لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله ؟

فقالت: والله مالي علم بصاحبك.

فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه.

فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله؟

فقالت: ما أعرف أبا بكر، ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك.

قالت: نعم.

فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل، وأعلنت بالصياح، وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

قال: فما فعل رسول الله ؟

قالت: هذه أمك تسمع.

قال: فلا شيء عليك منها.

قالت: سالم صالح.

قال: أين هو؟

قالت: في دار ابن الأرقم.

قال: فإن لله عليّ أن لا أذوق طعاما، ولا أشرب شرابا، أو آتي رسول الله .

فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجتا به يتكئ عليهما حتى أدخلتاه على رسول الله ، قال: فأكبَّ عليه رسول الله فقبَّله وأكب عليه المسلمون، ورقَّ له رسول الله رقة شديدة.

فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول الله ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برَّة بوالدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله، وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار.

قال: فدعا لها رسول الله ، ودعاها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع رسول الله في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر.

ودعا رسول الله لعمر بن الخطاب - أو لأبي جهل بن هشام - فأصبح عمر، وكانت الدعوة يوم الأربعاء، فأسلم عمر يوم الخميس، فكـَّبر رسول الله وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلا مكة..

وخرج أبو الأرقم - وهو أعمى كافر - وهو يقول: اللهم اغفر لبني عبيد الأرقم فإنه كفر.

فقام عمر فقال: يا رسول الله على ما نخفي ديننا ونحن على الحق، ويظهر دينهم وهم على الباطل؟

قال: «يا عمر إنا قليل قد رأيت ما لقينا».

فقال عمر: فوالذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم مرَّ بقريش وهي تنتظره، فقال أبو جهل بن هشام: يزعم فلان أنك صبوت؟

فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.

فوثب المشركون إليه، ووثب على عتبة فبرك عليه وجعل يضربه، وأدخل إصبعه في عينيه، فجعل عتبة يصيح فتنحى الناس، فقام عمر، فجعل لا يدنو منه أحد إلا أخذ بشريف ممن دنا منه، حتى أعجز الناس.

واتبع المجالس التي كان يجالس فيها فيظهر الإيمان، ثم انصرف إلى النبي وهو ظاهر عليهم.

قال: ما عليك بأبي وأمي والله ما بقي مجلس كنت أجلس فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان غير هائب ولا خائف، فخرج رسول الله ، وخرج عمر أمامه، وحمزة بن عبد المطلب حتى طاف بالبيت، وصلى الظهر مؤمنا، ثم انصرف إلى دار الأرقم ومعه عمر، ثم انصرف عمر وحده، ثم انصرف النبي .

والصحيح أن عمر إنما أسلم بعد خروج المهاجرين إلى أرض الحبشة، وذلك في السنة السادسة من البعثة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.

وقد استقصينا كيفية إسلام أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما في كتاب سيرتهما على انفرادها، وبسطنا القول هنالك ولله الحمد.

وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي أمامة، عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله في أول ما بعث وهو بمكة، وهو حينئذٍ مستخفٍ، فقلت: ما أنت؟

قال: «أنا نبي».

فقلت: وما النبي؟

قال: «رسول الله».

قلت: الله أرسلك؟

قال: «نعم».

قلت: بما أرسلك؟

قال: «بأن تعبد الله وحده لا شريك له، وتكسر الأصنام، وتوصل الأرحام».

قال: قلت: نِعم ما أرسلك به، فمن تبعك على هذا؟

قال: «حر وعبد - يعني: أبا بكر وبلالا - قال: فكان عمرو يقول: لقد رأيتني وأنا ربع الإسلام».

قال: فأسلمت، قلت: فأتبعك يا رسول الله؟

قال: «لا ولكن الحق بقومك، فإذا أخبرت أني قد خرجت فاتبعني».

ويقال: إن معنى قوله عليه السلام «حر وعبد» اسم جنس، وتفسير ذلك: بأبي بكر، وبلال فقط فيه نظر، فإنه قد كان جماعة قد أسلموا قبل عمرو بن عبسة، وقد كان زيد بن حارثة أسلم قبل بلال أيضا، فلعله أخبر أنه ربع الإسلام بحسب علمه، فإن المؤمنين كانوا إذ ذاك يستسرون بإسلامهم، لا يطلع على أمرهم كثير أحد من قراباتهم، دع الأجانب، دع أهل البادية من الأعراب والله أعلم..

وفي (صحيح البخاري) من طريق أبي أسامة، عن هاشم بن هاشم، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.

أما قوله: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه فسهل، ويروى إلا في اليوم الذي أسلمت فيه وهو مشكل، إذ يقتضي أنه لم يسبقه أحد بالإسلام.

وقد علم أن الصدّيق، وعليا، وخديجة، وزيد بن حارثة، أسلموا قبله، كما قد حكى الإجماع على تقدم إسلام هؤلاء غير واحد، منهم ابن الأثير.

ونص أبو حنيفة رضي الله عنه: على أن كلا من هؤلاء أسلم قبل أبناء جنسه والله أعلم.

وأما قوله: ولقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام فمشكل، وما أدري على ماذا يوضع عليه إلا أن يكون أخبر بحسب ما علمه والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط بمكة.

فأتى عليّ رسول الله وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال أو فقالا -: عندك يا غلام لبن تسقينا؟

قلت: إني مؤتمن، ولست بساقيكما.

فقال: هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟

قلت: نعم!

فأتيتهما بها فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله الضرع، ودعا فحفل الضرع، وأتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فحلب فيها، ثم شرب هو وأبو بكر، ثم سقياني، ثم قال للضرع: أقلص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -.

فقال: «إنك غلام معلم».

فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.

وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة به.

ورواه الحسن بن عرفة، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود به.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله بن بطة الأصبهاني، حدثنا الحسن بن الجهم، قال: حدثنا الحسين بن الفرج، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثني جعفر بن محمد بن خالد بن الزبير، عن أبيه - أو عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان -.

قال: كان إسلام خالد بن سعيد بن العاص قديما، وكان أول إخوته أسلم.

وكان بدء إسلامه أنه رأى في المنام أنه وقف به على شفير النار، فذكر من سعتها ما الله أعلم به.

ويرى في النوم كأن آت أتاه يدفعه فيها ويرى رسول الله آخذا بحقويه لا يقع، ففزع من نومه، فقال: أحلف بالله أن هذه لرؤيا حق، فلقي أبا بكر بن أبي قحافة فذكر ذلك له، فقال أبو بكر: أُريد بك خيرا هذا رسول الله فاتبعه، فإنك ستتبعه وتدخل معه في الإسلام، والإسلام يحجزك أن تدخل فيها وأبوك واقع فيها.

فلقي رسول الله وهو بأجيادٍ، فقال: يا رسول الله يا محمد إلى ما تدعو؟

قال: «أدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتخلع ما أنت عليه من عبادة حجر لا يسمع، ولا يضر، ولا يبصر، ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممن لا يعبده».

قال خالد: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.

فسرَّ رسول الله بإسلامه، وتغيب خالد، وعلم أبوه بإسلامه، فأرسل في طلبه فأتى به، فأنَّبه وضربه بمقرعة في يده حتى كسرها على رأسه.

وقال: والله لأمنعنك القوت.

فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله ، فكان يكرمه ويكون معه.

إسلام حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق حدثني رجل ممن أسلم - وكان واعية - أن أبا جهل اعترض رسول الله عند الصفا فآذاه وشتمه ونال منه ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فذكر ذلك لحمزة بن عبد المطلب، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة شجَّه منها شجة منكرة، وقامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل منه، وقالوا: ما نراك يا حمزة إلا قد صبوت؟

قال حمزة: ومن يمنعني وقد استبان لي منه ما أشهد أنه رسول الله وأن الذي يقول حق، فوالله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.

فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني والله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا، فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله قد عز وامتنع فكفوا عما كانوا يتناولون منه.

وقال حمزة في ذلك شعرا.

قال ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فأتاه الشيطان فقال: أنت سيد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك، للموت خير لك مما صنعت.

فأقبل حمزة على نفسه وقال: ما صنعت اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا، فبات بليلة لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول الله .

فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غي شديد؟ فحدثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدثني، فأقبل رسول الله فذكَّره ووعظه، وخوَّفه وبشَّره، فألقى الله في قلبه الإيمان بما قال رسول الله .

فقال: أشهد أنك الصادق شهادة الصدق، فأظهر يا ابن أخي دينك فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء، وأني على ديني الأول.

فكان حمزة ممن أعزَّ الله به الدين.

وهكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير به.

ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه

قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال:

كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله .

هذا سياق مختصر..

وقال البخاري: إسلام أبي ذر: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي حمزة، عن ابن عباس.

قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء.

فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدمه، وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر.

فقال: ما شفيتني مما أردت.

فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، اضطجع فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح.

ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرَّ به علي، فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟

قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت.

ففعل فأخبره.

قال: فإنه حق وإنه رسول الله ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي : «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري».

فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلا صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام.

فأنقذه منهم.

ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري.

وقد جاء إسلامه مبسوطا في (صحيح مسلم) وغيره، فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مالٍ وهيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.

فجاء خالنا فثنى ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.

قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا.

فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله بثلاث سنين، قال: قلت: لمن؟

قال: لله، قلت: فأين توجه؟

قال: حيث وجهني الله.

قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.

قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت ما حسبك؟

قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟

قال: يقولوا إنه شاعر وساحر، وكان أنيس شاعرا.

قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.

قال: فقلت له: هل أنت كافيِّ حتى انطلق؟

قال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنَّعوا له وتجهموا له.

قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟

قال: فأشار إلى الصابئ فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.

قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان: إساف ونائلة.

فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن.

قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما؟

فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.

قالا: ما قال لكما؟

قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم.

قال: وجاء رسول الله هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى.

قال: فأتيته فكنت أول من حيَّاه بتحية أهل الإسلام.

فقال: «عليك السلام ورحمة الله من أنت؟»

قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته.

قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار.

قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني.

قال: متى كنت ههنا؟

قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.

قال: فمن كان يطعمك؟

قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.

قال: قال رسول الله «إنها مباركة، إنها طعام طعم».

قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل.

قال: فانطلق النبي ، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف.

قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت.

فقال رسول الله : «إني قد وجِّهت إليَّ أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟».

قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال: فقال لي: ما صنعت؟

قال: قلت: صنعت إني أسلمت وصدقت.

قال: فما بي رغبة عن دينك.

فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما.

فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذٍ.

وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله أسلمنا، قال: فقدم رسول الله فأسلم بقيتهم.

قال: وجاءت أسلم.

فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله : «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».

ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه.

وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.

وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب (البشارات) بمبعثه عليه الصلاة والسلام.

ذكر إسلام ضماد

روى مسلم والبيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عمرو بن سعيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: قدم ضماد مكة وهو رجل من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الرياح، فسمع سفهاء من سفه مكة يقولون: إن محمدا مجنون.

فقال: أين هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدي؟

قال: فلقيت محمدا؛ فقلت: إني أرقي من هذه الرياح، وأن الله يشفي على يدي من شاء فهلم.

فقال محمد: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات».

فقال: والله لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات، فهلم يدك أبايعك على الإسلام.

فبايعه رسول الله ، فقال له: وعلى قومك؟

فقال: وعلى قومي، فبعث النبي جيشا، فمروا بقوم ضماد.

فقال صاحب الجيش للسرية: هل أصبتم من هؤلاء القوم شيئا؟

فقال رجل منهم: أصبت منهم مطهرة.

فقال: ردها عليهم فإنهم قوم ضماد.

وفي رواية فقال له ضماد: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء فلقد بلغن قاموس البحر.

وقد ذكر أبو نعيم في (دلائل النبوة) إسلام من أسلم من الأعيان فصلا طويلا، واستقصى ذلك استقصاءً حسنا رحمه الله وأثابه.

وقد سرد ابن إسحاق أسماء من أسلم قديما من الصحابة رضي الله عنهم.

قال: ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والأرقم بن أبي الأرقم، وعثمان بن مظعون، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد، وامرأته فاطمة بنت الخطاب، وأسماء بنت أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر - وهي صغيرة -، وقدامة بن مظعون، وعبد الله بن مظعون، وخباب بن الأرت، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود.

ومسعود بن القاري، وسليط بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وامرأته أسماء بنت سلمة بن مخرمة التيمي، وخنيس بن حذافة، وعامر بن ربيعة، وعبد الله بن جحش، وأبو أحمد بن جحش، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وحاطب بن الحارث، وامرأته فكيهة ابنة يسار، وحطاب بن الحارث، و امرأته فكيهة بنت يسار، ومعمر بن الحارث بن معمر الجمحي، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمطلب بن أزهر بن عبد مناف، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سعيد بن سهم..

والنحام واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وخالد بن سعيد، وأمينة ابنة خلف بن سعد بن عامر بن بياضة بن خزاعة، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وواقد بن عبد الله بن عرين بن ثعلبة التميمي حليف بني عدي، وخالد ابن البكير، وعامر بن البكير، وعاقل بن البكير، وإياس بن البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة من بني سعد بن ليث.

وكان اسم عاقل غافلا فسماه رسول الله عاقلا، وهم حلفاء بني عدي بن كعب، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان.

ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء، حتى فشا أمر الإسلام بمكة، وتحدث به.

قال ابن إسحاق: ثم أمر الله رسوله بعد ثلاث سنين من البعثة بأن يصدع بما أمر، وأن يصبر على أذى المشركين.

قال: وكان أصحاب رسول الله إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، واستخفوا بصلاتهم من قومهم.

فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر يصلون بشعاب مكة إذ ظهر عليهم بعض المشركين فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلا من المشركين بلحى جمل فشجه، فكان أول دم أهريق في الإسلام.

وروى الأموي في (مغازيه) من طريق الوقاصي، عن الزهري، عن عامر بن سعد، عن أبيه.

فذكر القصة بطولها، وفيه أن المشجوج هو عبد الله بن خطل لعنه الله.

باب الأمر بابلاغ الرسالة

إلى الخاص والعام، وأمره له بالصبر والاحتمال، والإعراض عن الجاهلين المعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسول الأعظم إليهم، وذكر ما لقي من الأذية منهم، هو وأصحابه رضي الله عنهم.

قال الله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } 20.

وقال تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } 21.

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } 22.

أي: أن الذي فرض عليك وأوجب عليك بتبليغ القرآن: لرادك إلى دار الآخرة، وهي المعاد، فيسألك عن ذلك.

كما قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 23 والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

وقد تقصينا الكلام على ذلك في كتابنا التفسير، وبسطنا من القول في ذلك عند قوله تعالى في سورة الشعراء: { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

وأوردنا أحاديث جمَّة في ذلك، فمن ذلك: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله { وأنذر عشيرتك الأقربين } أتى النبي الصفا، فصعد عليه، ثم نادى:«يا صباحاه»، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله : «يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني كعب أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟».

قالوا: نعم!

قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد».

فقال أبو لهب - لعنه الله -: تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟

وأنزل الله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } 24.

وأخرجاه من حديث الأعمش به نحوه.

وقال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، وحدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة.

قال: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين } دعا رسول الله قريشا فعمَّ وخصَّ. فقال: «يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلائها».

ورواه مسلم من حديث عبد الملك بن عمير، وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة، عن أبي هريرة، وله طرق أخر عن أبي هريرة في مسند أحمد وغيره..

وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع بن هشام، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

قام رسول الله فقال: «يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم» ورواه مسلم أيضا.

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي (في الدلائل): أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل - واستكتمني اسمه - عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب.

قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } 25.

قال رسول الله : «عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمت، فجاءني جبريل عليه السلام فقال لي: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار».

قال علي: فدعاني فقال: «يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمتّ عن ذلك ثم جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد: إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدَّ لنا عس لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب» ففعلت.

فاجتمعوا له يومئذٍ وهم أربعون رجلا يزيدون رجلا، أو ينقصون فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث.

فقدَّمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول الله منها حذية فشقها بأسنانه، ثم رمى بها في نواحيها وقال: «كلوا بسم الله».

فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل ليأكل مثلها.

ثم قال رسول الله : «اسقهم يا علي»، فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعا وأيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله فلما أراد رسول الله أن يكلمهم بدره أبو لهب - لعنه الله - فقال: لهدَّ ما سحركم صاحبكم؟

فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله .

فلما كان من الغد قال رسول الله : «يا علي عد لنا مثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم» ففعلت ثم جمعتهم له.

فصنع رسول الله كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا، وأيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها وليشرب مثلها.

ثم قال رسول الله : «يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة».

هكذا رواه البيهقي، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق عن شيخ أبهم اسمه، عن عبد الله بن الحارث به.

وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن محمد بن حميد الرازي، عن سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار أبو مريم بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي فذكر مثله.

وزاد بعد قوله: «وإني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي» وكذا وكذا.

قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت: ولأني لأحدثهم سنا وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: «إن هذا أخي، وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا».

قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!

تفرد به عبد الغفار بن القاسم أبو مريم، وهو كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعَّفه الباقون.

ولكن روى ابن أبي حاتم في (تفسيره) عن أبيه، عن الحسين بن عيسى بن ميسرة الحارثي، عن عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث.

قال: قال علي: لما نزلت هذه الآية { وأنذر عشيرتك الأقربين }.

قال لي رسول الله : إصنع لي رِجل شاة بصاع من طعام، وإناء لبنا، وأدع لي بني هاشم، فدعوتهم وإنهم يومئذٍ لأربعون غير رجل، أو أربعون ورجل فذكر القصة نحو ما تقدم إلى أن قال: وبدرهم رسول الله الكلام.

فقال: «أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟».

قال: فسكتوا، وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُ أنا لسن العباس.

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله، قال: أنت؟

قال: وإني يومئذٍ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن؛ خمش الساقين.

وهذه الطريق فيها شاهد لما تقدم إلا أنه لم يذكر ابن عباس فيها فالله أعلم..

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عباد بن عبد الله الأسدي وربيعة بن ناجذ عن علي نحو ما تقدم - أو كالشاهد له - والله أعلم.

ومعنى قوله في هذا الحديث: «من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي» يعني: إذا مت، وكأنه خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله، ويقضي عنه؛ وقد أمَّنه الله من ذلك في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } 26 الآية.

والمقصود أن رسول الله استمر يدعو إلى الله تعالى ليلا ونهارا، وسرا وجهارا، لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد، ولا يصده عنه ذلك صاد، يتبع الناس في أنديتهم، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم، ومواقف الحج.

يدعو من لقيه من حر وعبد وضعيف وقوي، وغني وفقير، جميع الخلق في ذلك عنده شرع سواء.

وتسلط عليه وعلى من اتبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداء الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية.

وكان من أشدِّ الناس عليه: عمه أبو لهب - واسمه عبد العزى بن عبد المطلب - وامرأته أم جميل أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان وخالفه في ذلك عمه أبو طالب بن عبد المطلب.

وكان رسول الله أحب خلق الله إليه طبعا، وكان يحنو عليه ويحسن إليه ويدافع عنه ويحامي، ويخالف قومه في ذلك مع أنه على دينهم وعلى خلتهم، إلا أن الله تعالى قد امتحن قلبه بحبه حبا طبعيا لا شرعيا.

وكان استمراره على دين قومه من حكمة الله تعالى، ومما صنعه لرسوله من الحماية، إذ لو كان أسلم أبو طالب لما كان له عند مشركي قريش وجاهة ولا كلمة، ولا كانوا يهابونه ويحترمونه.

ولاجترؤا عليه، ولمدوا أيديهم وألسنتهم بالسوء إليه وربك يخلق ما يشاء ويختار.

وقد قسَّم خلقه أنواعا وأجناسا، فهذان العمان كافران: أبو طالب وأبو لهب.

ولكن هذا يكون في القيامة في ضحضاح من نار، وذلك في الدرك الأسفل من النار، وأنزل الله فيه سورة في كتابه تتلى على المنابر، وتقرأ في المواعظ والخطب، تتضمن أنه سيصلى نارا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب.

قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه.

قال: أخبر رجل يقال له: ربيعة بن عباد من بني الديل - وكان جاهليا فأسلم - قال: رأيت رسول الله في الجاهلية في سوق ذي المجاز، يمشي بين ظهراني الناس وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ، كاذب يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب، ثم رواه هو والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد بنحوه..

وقال البيهقي أيضا: حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان، حدثنا أبو الأزهر: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا محمد بن عمر، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الديلي.

قال: رأيت رسول الله بذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.

قلت: من هذا؟

قيل: هذا أبو لهب.

ثم رواه من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة.

قال: رأيت رسول الله بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا» وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.

كذا قال أبو جهل، والظاهر أنه أبو لهب، وسنذكر بقية ترجمته عند ذكر وفاته وذلك بعد وقعة بدر إن شاء الله تعالى.

وأما أبو طالب فكان في غاية الشفقة والحنو الطبيعي كما سيظهر من صنائعه، وسجاياه، واعتماده فيما يحامي به عن رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم.

قال يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، عن عبد الله بن موسى بن طلحة، أخبرني عقيل بن أبي طالب.

قال: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا.

فقال: يا عقيل انطلق فأتني بمحمد، فانطلقت إليه فاستخرجته من كنس - أو قال خنس - يقول: بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر، فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم فحلّق رسول الله ببصره إلى السماء.

فقال: «ترون هذه الشمس؟».

قالوا: نعم!

قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشتعلوا منه بشعلة».

فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي قط فارجعوا.

رواه البخاري في (التاريخ)، عن محمد بن العلاء، عن يونس بن بكير.

ورواه البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار عنه به - وهذا لفظه -.

ثم روى البيهقي من طريق يونس، عن ابن إسحاق حدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث.

أن قريشا حين قالت لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله .

فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا: كذا وكذا فابقِ علي، وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.

فظن رسول الله أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله ومسلِّمه، وضعف عن القيام معه.

فقال رسول الله : «يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه».

ثم استعبر رسول الله فبكى، فلما ولىّ قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله : يا ابن أخي فأقبل عليه، فقال: امض على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا. قال ابن إسحاق ثم قال أبو طالب في ذلك:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم * حتى أوسَّد في التراب دفينا

فامضي لأمرك ما عليك غضاضة * أبشر وقرَّ بذاك منك عيونا

ودعوتني وعلمتُ أنك ناصحي * فلقد صدقت، وكنت قِدمُ أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه * من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سُبّة * لوجدتني سمحا بذاك مبينا

ثم قال البيهقي: وذكر ابن إسحاق لأبي طالب في ذلك أشعارا؛ وفي كل ذلك دلالة على أن الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه.

وقال يونس بن بكير: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مصر قديما منذ بضعا وأربعين سنة عن عكرمة، عن ابن عباس، في قصة طويلة جرت بين مشركي مكة وبين رسول الله ، فلما قام رسول الله قال أبو جهل بن هشام: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا، وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا، وسب آلهتنا وإني أعاهد الله لأجلس له غدا بحجرٍ، فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

فلما أصبح أبو جهل - لعنه الله - أخذ حجرا ثم جلس لرسول الله ينتظره، وغدا رسول الله كما كان يغدو، وكان قبلته الشام..

فكان إذا صلّى صلّى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام.

فقام رسول الله يصلي، وقد غدت قريش، فجلسوا في أنديتهم ينتظرون، فلما سجد رسول الله احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منبهتا ممتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره، حتى قذف الحجر من يده، وقامت إليه رجال من قريش.

فقالوا له: ما بك يا أبا الحكم؟

فقال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، والله ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته، ولا أنيابه لفحل قطّ فهمَّ أن يأكلني.

قال ابن إسحاق: فذكر لي أن رسول الله قال: «ذلك جبريل، ولو دنا منه لأخذه».

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان الدارمي، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثنا الليث بن سعد، عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي فروة، عن أبان بن صالح، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه عن عباس بن عبد المطلب.

قال: كنت يوما في المسجد فأقبل أبو جهل - لعنه الله - فقال: إن لله عليَّ إن رأيت محمدا ساجدا أن أطأ على رقبته، فخرجت على رسول الله ، حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانا، حتى جاء المسجد فعجل أن يدخل من الباب، فاقتحم الحائط.

فقلت: هذا يوم شر، فاتزرت ثم اتبعته، فدخل رسول الله فقرأ: { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق } فلما بلغ شأن أبي جهل { كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى }.

فقال إنسان لأبي جهل: يا أبا الحكم هذا محمد؟

فقال أبو جهل: ألا ترون ما أرى؟ والله لقد سدَّ أفق السماء عليّ، فلما بلغ رسول الله آخر السورة سجد.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ ذلك رسول الله فقال: «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا»..

ورواه البخاري عن يحيى، عن عبد الرزاق به.

قال داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: مر أبو جهل بالنبي وهو يصلي.

فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمد؟ لقد علمت ما بها أحد أكثر ناديا مني.

فانتهره النبي .

فقال جبريل: «فليدع ناديه سندع الزبانية» والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب.

رواه أحمد، والترمذي، وصححه النسائي من طريق داود به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو زيد، حدثنا فرات، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لأتيته حتى أطأ عنقه، قال: فقال: «لو فعل لأخذته الزبانية عيانا».

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الوليد بن العيزار، عن ابن عباس.

قال: قال أبو جهل: لئن عاد محمد يصلي عند المقام لأقتلنه.

فأنزل الله تعالى: { اقرأ باسم ربك الذي خلق } حتى بلغ من الآية { لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية }.

فجاء النبي يصلي فقيل ما يمنعك؟

قال: قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب.

قال ابن عباس: والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.

وقال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي حازم، عن أبي هريرة.

قال: قال أبو جهل: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟

قالوا: نعم!

قال: فقال: واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه بالتراب.

فأتى رسول الله وهو يصلي ليطأ على رقبته.

قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، قال: فقيل له مالك؟

قال: إن بيني وبينه خندقا من نار، وهولا وأجنحة. قال: فقال رسول الله : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا».

قال: وأنزل الله تعالى - لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا - { كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى } إلى آخر السورة.

وقد رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن أبي حاتم، والبيهقي من حديث معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله بن مسعود.

قال: ما رأيت رسول الله دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس، وسلا جزور قريب منه.

فقالوا: من يأخذ هذا السلا فيلقيه على ظهره؟

فقال عقبة ابن أبي معيط: أنا.

فأخذه، فألقاه على ظهره، فلم يزل ساجدا حتى جاءت فاطمة، فأخذته عن ظهره، فقال رسول الله : «اللهم عليك بهذا الملأ من قريش، اللهم عليك بعتبة بن ربيعة، اللهم عليك بشيبة بن ربيعة، اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بأبي بن خلف - أو أمية بن خلف» شعبة الشاك.

قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعا، ثم سحبوا إلى القليب غير أبي - أو أمية بن خلف - فإنه كان رجلا ضخما فتقطع.

وقد رواه البخاري في مواضع متعددة من (صحيحه) ومسلم من طرق عن أبي إسحاق به.

والصواب أمية بن خلف فإنه الذي قتل يوم بدر، وأخوه أُبي إنما قتل يوم أحد كما سيأتي بيانه - والسلا: هو الذي يخرج مع ولد الناقة، كالمشيمة لولد المرأة.

وفي بعض ألفاظ (الصحيح): أنهم لما فعلوا ذلك استضحكوا، حتى جعل بعضهم يميل على بعض، أي: يميل هذا على هذا من شدة الضحك لعنهم الله.

وفيه: أن فاطمة لما ألقته عنه، أقبلت عليهم، فسبتهم، وأنه لما فرغ من صلاته رفع يديه يدعو عليهم، فلما رأوا ذلك سكن عنهم الضحك، وخافوا دعوته، وأنه دعا على الملأ منهم جملة وعين في دعائه سبعة.

وقع في أكثر الروايات تسمية ستة منهم وهم: عتبة، وأخوه شيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل بن هشام، وعقبة بن أبي معيط، وأمية بن خلف.

قال أبو إسحاق: ونسيت السابع.

قلت: هو عمارة بن الوليد وقع تسميته في (صحيح البخاري).

قصة الأراشي

قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثنا عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي.

قال: قدم رجل من إراش بإبل له إلى مكة، فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها.

فأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله جالس في ناحية المسجد.

فقال: يا معشر قريش مَنْ رجل يعديني على أبي الحكم بن هشام، فإني غريب وابن سبيل، وقد غلبني على حقي؟

فقال أهل المجلس: ترى ذلك - يهزون به - إلى رسول الله لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة، اذهب إليه فهو يعديك عليه.

فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله ، فذكر ذلك له، فقام معه.

فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ما يصنع؟

فخرج رسول الله حتى جاءه فضرب عليه بابه.

فقال: من هذا؟

قال: «محمد فاخرج!» فخرج إليه وما في وجهه قطرة دم، وقد انتقع لونه.

فقال: «أعط هذا الرجل حقه».

قال: لا تبرح حتى أعطيه الذي له.

قال: فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله .

وقال للأراشي: الحق لشأنك.

فأقبل الأراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد أخذت الذي لي.

وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟

قال: عجبا من العجب، والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه فقال: أعط هذا الرجل حقه.

فقال: نعم! لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل فأخرج إليه حقه فأعطاه إياه.

ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك مالك فوالله ما رأينا مثل ما صنعت؟

فقال: ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فوالله لو أبيت لأكلني.

فصل أشد ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم

وقال البخاري: حدثنا عياش بن الوليد، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثني الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير.

سألت ابن العاص فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله؟

قال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } 27الآية.

تابعه ابن إسحاق قال: أخبرني يحيى بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعبد الله بن عمرو.

وقال: عبدة، عن هشام، عن أبيه قال: قيل لعمرو بن لعاص.

وقال: محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، حدثني عمرو بن العاص..

قال البيهقي: وكذلك رواه سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، كما رواه عبدة.

انفرد به البخاري.

وقد رواه في أماكن من (صحيحه)، وصرَّح في بعضها بعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أشبه لرواية عروة عنه، وكونه عن عمرو أشبه لتقدم هذه القصة.

وقد روى البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عروة، عن أبيه عروة.

قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: ما أكثر ما رأيت قريشا أصابت من رسول الله فيما كانت تظهره من عداوته؟

فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر، فذكروا رسول الله .

فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفَّه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، وصرنا منه على أمر عظيم - أو كما قال - قال: فبينما هم في ذلك، طلع رسول الله فأقبل يمشي، حتى استلم الركن، ثم مرَّ بهم طائفا بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله ، فمضى.

فلما مرَّ بهم الثانية، غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى فمرَّ بهم الثالثة، فغمزوه بمثلها.

فقال: «أتسمعون يا معشر قريش؟ أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح».

فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر وقع حتى أن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفؤه أحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف أبا القاسم راشدا، فما كنت بجهول.

فانصرف رسول الله ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.

فبينما هم على ذلك طلع رسول الله فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟

لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم.

فيقول رسول الله : «نعم أنا الذي أقول ذلك» ولقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر يبكى دونه ويقول: ويلكم { أتقتلون رجلا يقول ربي الله } ثم انصرفوا عنه.

فإن ذلك لأكبر ما رأيت قريشا بلغت منه قط.

فصل تأليب الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

في تأليب الملأ من قريش على رسول الله وأصحابه واجتماعهم بعمه أبي طالب القائم في منعه ونصرته وحرصهم عليه أن يسلمه إليهم فأبى عليهم ذلك بحول الله وقوته.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.

قال: قال رسول الله : «لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواري إبط بلال».

وأخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث حماد بن سلمة به، وقال الترمذي: حسن صحيح.

وقال محمد بن إسحاق: وحدب على رسول الله عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله على أمر الله مظهرا لدينه، لا يرده عنه شيء.

فلما رأت قريش أن رسول الله لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبو طالب قد حدب عليه، وقام دونه فلم يسلمه لهم، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب، عتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.

وأبو سفيان: صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس، وأبو البختري - واسمه العاص - بن هشام بن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن قصي، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وأبو جهل - واسمه عمرو - بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة ابن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، والعاص: ابن وائل بن سعيد بن سهم.

قال ابن إسحاق: أو من مشى منهم.

فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه؟

فقال لهم أبو طالب: قولا رفيقا، وردهم ردا جميلا، فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله على ما هو عليه، يظهر دين الله، ويدعو إليه، ثم سرى الأمر بينهم وبينه حتى تباعد الرجال وتضاغنوا.

وأكثرت قريش ذكر رسول الله بينها فتذامروا فيه وحضَّ بعضهم بعضا عليه، ثم أنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى.

فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالوا له - ثم انصرفوا عنه، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله ولا خذلانه.

قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث: أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله فقال له: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني، فقالوا: كذا وكذا الذي قالوا له، فابق عليّ وعلى نفسك، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.

قال: فظن رسول الله أنه قد بدا لعمه فيه بدو وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه.

قال: فقال رسول الله : «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته».

قال: ثم استعبر رسول الله فبكى ثم قام، فلما ولى ناداه أبو طالب.

فقال: أقبل يابن أخي، فأقبل عليه رسول الله .

فقال: اذهب يابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمتك لشيء أبدا.

قال ابن إسحاق: ثم أن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله ، وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -: يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك؟ وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامنا فنقتله فإنما هو رجل برجل!

قال: والله لبئس ما تسومونني؟ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه! هذا والله ما لا يكون أبدا.

قال: فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا؟

فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك - أو كما قال - فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، ونادى بعضهم بعضا..

فقال أبو طالب عند ذلك يعرِّض بالمطعم بن عدي، ويعم من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:

ألا قُلْ لعمروٍ والوليدِ ومطعمٍ * ألا ليت حظِّي من حياطتكم بكرُ

من الخورِ حبحابٌ كثيرٌ رغاؤه * يرش على الساقين من بوله قطر

تخلَّف خلْفَ الوردِ ليس بلاحقٍ * إذ ما علا الفيفاء قيل له وبر

أرى أخوينا من أبينا وأمنا * إذا سُئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمرٌ ولكنْ تحرجما * كما حرجمت من رأس ذي علق الصخر

أخصّ خصوصا عبدَ شمسٍ ونَوْفلا * هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر

هما أغمزا للقوم في أخويهما * فقد أصبحا منهم أكفهما صفر

هما أشركا في المجد من لا أبا له * من الناس إلا أن يرسَّ له ذِكر

وتيمٍ ومخزومٍ وزهرةٍ منهم * وكانوا لنا مولىً إذا بغي النصر

فوالله لا تنفك منا عداوةٌ * ولا منكم ما دام من نسلنا شفر

قال ابن هشام: وتركنا منها بيتين أقذع فيهما.

فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين

قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول الله الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله منهم رسول الله بعمه أبي طالب.

وقد قام أبو طالب، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون، في بني هاشم، وبني عبد المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون.

فقال في ذلك يمدحهم ويحرضهم على ما وافقوه عليه من الحدب والنصرة لرسول الله :

إذا اجتمعت يوما قريشٌ لمفخرٍ * فعبدُ منافٍ سرُّها وصميمُها

وإن حصلت أشرافُ عبدِ منافِها * ففي هاشم أشرافُها وقديمُها

وإن فخرتْ يوما فإن محمدا * هو المصطفى من سرِّها وكريمها

تداعت قريشٌ غُّثها وسمينها * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها

وكنَّا قديما لا نقرُّ ظُلامة * إذ ما ثنوا صُعر الرقاب نُقيمُها

ونحمي حماها كلَّ يوم كريهةٍ * ونضربُ عن أحجارِها من يرومها

بنا انتعشَ العودُ الذواء وإنما * بأكنافنا تندَى وتنمى أرومها

فصل اعتراض المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم

وتعنتهم له في الأسئلة.

فيما اعترض به المشركون على رسول الله ، وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات، وخرق العادات على وجه العناد، لا على وجه طلب الهدي والرشاد.

فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما طلبوا، ولا ما إليه رغبوا، لعلم الحق سبحانه أنهم لو عاينوا وشاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ولظلوا في غيهم وضلالهم يتردون.

قال الله تعالى: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } 28.

وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } 29..

وقال تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفا } 30.

وقال تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرا رَسُولا } 31.

وقد تكلمنا على هذه الآيات، وما يشابهها في أماكنها في التفسير ولله الحمد.

وقد روى يونس، وزياد، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم - وهو شيخ من أهل مصر، يقال له: محمد بن أبي محمد - عن سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس.

قال: اجتمع عليه من أشراف قريش - وعدّد أسماءهم - بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه، وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فأتهم.

فجاءهم رسول الله سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم.

فقالوا: يا محمد، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك.

فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكان يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك؛ بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك؟

فقال لهم رسول الله : «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا نذيرا، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

أو كما قال رسول الله - فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أقل مالا، ولا أشد عيشا منا.

فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال، التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيما يبعث لنا منهم: قصي بن كلاب، فإنه كان شيخا صدوقا، فنسألهم عما تقول: أحق هو أم باطل؟ فإن فعلت ما سألناك وصدقوك صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك رسولا كما تقول.

فقال لهم رسول الله : «ما بهذا بعثت إليكم إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث لنا ملكا يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وتسأله فيجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، ويغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم في الأسواق وتلتمس المعايش كما نلتمسه، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال لهم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».

قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.

فقال: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك»

فقالوا: يا محمد ما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب، فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا.

وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة، وهي: بنات الله.

وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا.

فلما قالوا ذلك قام رسول الله عنهم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم - وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب - فقال له: يا محمد، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من الله، فلم تفعل، ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب.

فوالله لا أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى منه، وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك.

ثم انصرف عن رسول الله ، وانصرف رسول الله إلى أهله حزينا أسفا لما فاته بما طمع فيه من قومه حين دعوه، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

وهذا المجلس الذي اجتمع عليه هؤلاء الملأ مجلس ظلم وعدوان وعناد، ولهذا اقتضت الحكمة الإلهية، والرحمة الربانية، ألا يجابوا لي ما سألوا لأن الله علم أنهم لا يؤمنون بذلك فيعاجلهم بالعذاب.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عثمان بن محمد، حدثنا جرير عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: سأل أهل مكة رسول الله أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا

فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم الأمم.

قال: «لا بل أستأني بهم»، فأنزل الله تعالى: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } 32 الآية.

وهكذا رواه النسائي من حديث جرير.

وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران بن حكيم، عن ابن عباس.

قال: قالت قريش للنبي : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك.

قال: «وتفعلون؟».

قالوا: نعم.

قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة.

قال: «بل التوبة والرحمة».

وهذان إسنادان جيدان، وقد جاء مرسلا، عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن جبير، وقتادة، وابن جريج، وغير واحد.

وروى الإمام أحمد، والترمذي من حديث عبد الله بن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي قال: «عرض عليَّ ربي عز وجل أن يجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: لا يا رب أشبع يوما وأجوع يوما، - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك» لفظ أحمد.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني شيخ من أهل مصر - قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة - عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: بعثت قريش النضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة.

فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفا لهم صفته، وأخبراهم بقوله: فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.

فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله ووصفا لهم أمره، وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا.

قال: فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقول، فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم؟ فإنه قد كان لهم حديث عجيب..

وسلوه عن رجل طواف طاف مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.

فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبراهم بها، فجاؤوا رسول الله فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به.

فقال لهم رسول الله : «أخبركم غدا بما سألتم عنه» ولم يستثن.

فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله خمس عشرة ليلة لا يحدث له في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه، وحتى أحزن رسول الله مكث الوحي عنه، وشقَّ عليه ما يتكلم به أهل مكة.

ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف.

وقال الله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلا } 33 وقد تكلمنا على ذلك كله في التفسير مطولا فمن أراده فعليه بكشفه من هناك.

ونزل قوله: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا }.

ثم شرع في تفصيل أمرهم، واعترض في الوسط بتعليمه الاستثناء تحقيقا لا تعليقا في قوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت }.

ثم ذكر قصة موسى لتعلقها بقصة الخضر، ثم ذي القرنين، ثم قال: { ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا } ثم شرح أمره وحكى خبره.

وقال في سورة سبحان: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } أي: خلق عجيب من خلقه، وأمر من أمره، قال لها: كوني فكانت.

وليس لكم الاطلاع على كل ما خلقه، وتصوير حقيقته في نفس الأمر يصعب عليكم بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وحكمته، ولهذا قال: { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }.

وقد ثبت في (الصحيحين): أن اليهود سألوا عن ذلك رسول الله بالمدينة، فتلا عليهم هذه الآية - فإما أنها نزلت مرة ثانية أو ذكرها جوابا - وإن كان نزولها متقدما، ومن قال: إنها إنما نزلت بالمدينة، واستثناها من سورة سبحان ففي قوله نظر، والله أعلم..

قال ابن إسحاق: ولما خشي أبو طالب دهم العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانها منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في شعره أنه غير مسلم لرسول الله ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه، فقال:

ولما رأيت القوم لاودَّ فيهم * وقد قطعوا كلَّ العُرى والوسائل

وقد صارَحُونا بالعداوةِ والأذى * وقد طاوعوا أمر العدوِّ المزايل

وقد حالفوا قوما علينا أظنّةً * يعضون غيظا خلفنا بالأنامل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحةٍ * وأبيضٍ غضبٍ من تراث المقاول

وأحضرت عند البيت رهطي وأخوتي * وأمسكت من أثوابه بالوصائل

قياما معا مستقبلين رتاجه * لدى حيث يقضي حلفه كلَّ نافل

وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * بمفضى السيول من إسافٍ ونائل

موسمة الأعضاد أو قصراتها * مخيَّسة بين السديس وبازل

ترى الودْعَ فيها والرخامَ وزينةً * بأعناقها معقودةً كالعثاكل

أعوذ برب الناس من كلّ طاعنٍ * علينا بسوءٍ أو ملحٍ بباطل

ومن كاشح يسعى لنا بمعيبةٍ * ومن ملحقٍ في الدين مالم نحاول

وثورٍ ومن أرسى ثبيرا مكانه * وراقٍ ليرقى في حراءَ ونازل

وبالبيت حق البيت من بطن مكةٍ * وبالله إن الله ليس بغافل

وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه * إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل

وموطئ إبراهيم في الصخر رطبةً * على قدميه حافيا غير ناعل

وأشواط بين المروتين إلى الصفا * وما فيهما من صورةٍ وتماثل

ومن حج بيت الله من كل راكب * ومن كل ذي نذرٍ ومن كل راجل

وبالمشعر الأقصى إذا عمدوا له * الإل إلى مفضي الشراج القوابل

وتوقافهم فوق الجبال عشيةً * يقيمون بالأيدي صدور الرواحل

وليلة جمعٍ والمنازل من منى * وهل فوقها من حرمةٍ ومنازل

وجمعٍ إذا ما المقربات أجزنه * سراعا كما يخرجن من وقع وابل

وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لها * يؤمون قذفا رأسها بالجنادل

وكندةَ إذ هم بالحصاب عشية * تجيز بهم حجَّاجُ بكرِ بن وائل

حليفانِ شدَّا عقد ما احتلفا له * وردَّا عليه عاطفات الوسائل

وحطمهمُ سُمرَ الرماحِ وسرحه * وشبرقه وخدُ النعامِ الجوافل

فهل بعدَ هذا من معاذٍ لعائذ * وهل من معيذٍ يتقي الله عادل

يطاع بنا أمر العدا ودّ أننا * يسد بنا أبواب ترك وكابل

كذبتم وبيت الله نترك مكةً * ونظعن إلا أمركم في بلابل

كذبتم وبيت الله نبذي محمدا * ولما نطاعن دونه ونناضل

ونسلمه حتى نصرَّع حوله * ونذهل عن أبنائنا والحلائل

وينهض قومٌ بالحديد إليكم * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل

وحتى نرى ذا الضغن يركب ردعه * من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنا لعمر الله إن جدَّ ما أرى * لتلتبسن أسيافنا بالأماثل

بكفي فتى مثل الشهاب سميْدعٍ * أخي ثقةً حامي الحقيقة باسل

شهورا وأياما وحولا محرما * علينا وتأتي حجة بعد قابل

وما تركُ قوم -لا أبالك - سيدا * يحوط الذمار غير ذرب مواكل

وأبيضُ يستسقي الغمام بوجهه * تمالِ اليتامى عصمةٍ للأرامل

يلوذُ به الهلاك من آل هاشمٍ * فهم عنده في رحمةٍ وفواضل

لعمري لقد أجرى أسيد وتكره * إلى بغضنا وجزآنا لآكل

وعثمانُ لم يربَع علينا وقنفذٌ * ولكن أطاعا أمرَ تلك القبائل

أطاعا أبيّا وابن عبدِ يغوثِهم * ولم يرقبا فينا مقالةَ قائل

كما قد لقينا من سبينع ونوفلٍ * وكل تولى معرضا لم يجامل

فإن يلفيا أو يمكِن الله منهما * نكل لهما صاعا بصاع المكايل

وذاك أبو عمرو أبي غير بغضنا * ليظعننا في أهل شاءٍ وجامل

يناجي بنا في كل ممسى ومصبحٍ * فناجِ أبا عمرٍو بنا ثم خاتل

ويؤلي لنا بالله ما أن يغشنا * بلى قد تراه جهرةً غير خائل

أضاق عليه بغضنا كل تلعةٍ * من الأرض بين أخشبٍ فمجادل

وسائل، أبا الوليد ماذا حبوتنا * بسعيك فينا معرضا كالمخاتل

وكنت امرءا ممن يعاش برأيه * ورحمته فينا ولست بجاهل

فعتبة لا تسمع بنا قولَ كاشحٍ * حسودٍ كذوبٍ مبغض ذي دغاول

ومرَّ أبو سفيان عني معرضا * كما مرَّ قيل من عظام المقاول

يفرُّ إلى نجدٍ وبرد مياهه * ويزعم أني لست عنكم بغافل

ويخبرنا فعل المناصح أنه * شفيقٌ ويخفي عارماتِ الدواخل

أمطعمُ لم أخذلك في يوم نجدةٍ * ولا معظمٍ عند الأمور الجلائل

ولا يومَ خصمٍ إذ أتوك ألدة * أولى جدلٍ من الخصومِ المساجل

أمطعم إن القوم ساموك خطةً * وإني متى أوكل فلست بوائل

جزى الله عنا عبدُ شمس ونوفلا * عقوبة شرٍ عاجلا غير آجل

يميران قسطٍ لا يخيس شعيرةً * له شاهدَ من نفسهِ غيرُ عائل

لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلفٍ قيضا بنا والغياطل

ونحن الصميمُ من ذؤابةِ هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل

وسهمٍ ومخزوم تمالوا وألَّبوا * علينا العِدى من كل طملٍ وخامل

فعبدُ منافٍ أنتم خيرُ قومكم * فلا تشركوا في أمركم كل واغل

لعمري لقد وهنتم وعجزتم * وجئتم بأمرٍ مخطئٍ للمفاصل

وكنتم حديثا حَطبَ قدْرٍ وأنتم * الآن أحطابُ أقدرٍ ومراجل

ليهن بني عبد مناف عقوقنا * وخذلاننا وتركنا في المعاقل

فإن نك قوما نتَّئر ما صنعتم * وتحتلبوها لقحة غير باهل

فأبلغ قصيا أن سينشرَ أمرُنا * وبشِّر قصيا بعدنا بالتخاذل

ولو طرقتُ ليلا قصيا عظيمةٌ * إذا ما لجأنا دونهم في المداخل

ولو صدقوا ضربا خلال بيوتهم * لكنَّا أسىً عند النساء المطافل

فكل صديقٍ وابن أختٍ نعدَّه * لعمري وجدنا غُبَّةً غير طائل

سوى أن رهطا من كلاب بن مرة * براء إلينا من معقَّةِ خاذل

ونعم ابن أختِ القوم غير مكذب * زهير حساما مفردا من حمائل

أشمَّ من الشمِّ البهاليلِ ينتمي * إلى حسب في حومةِ المجد فاضل

لعمري لقد كلفِّتُ وجدا بأحمد * وإخوته دأب المحبِّ المواصل

فمن مثلُه في الناس أي مؤمَّل * إذا قاسه الحكَّام عند التفاضل

حليمٌ رشيد عادل غير طائش * يوالي إلها ليس عنه بغافل

كريمُ المساعي ماجدٌ وابن ماجد * له إرثُ مجدٍ ثابتٍ غير ناصل

وأيَّده ربُّ العباد بنصره * وأظهر دينا حقه غير زائل

فوالله لولا أن أجيء بسُبَّةٍ * تجرُّ على أشياخِنا في المحافل

لكنّا تبعناه على كل حالةٍ * من الدهر جدا غير قول التهازل

لقد علموا أن ابننا لا مكذبٌ * لدينا ولا يعنى بقولِ الأباطل

فأصبح فينا أحمدٌ في أرومةٍ * يقصر عنها سورةُ المتطاول

حدبت بنفسي دونه وحميته * ودافعت عنه بالذَّرى والكلاكل

قال ابن هشام: هذا ما صح لي من هذه القصيدة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.

قلت: هذه قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع يقولها إلا من نسبت إليه، وهي أفحل من المعلقات السبع، وأبلغ في تأدية المعنى فيها جميعها، وقد أوردها الأموي في مغازيه مطولة بزيادات أخر والله أعلم.

فصل تعذيب قريش للمسلمين لأتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام

قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.

فكان بلال: مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية ابن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، يطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى.

فيقول: -وهو في ذلك -أحدٌ أحد.

قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا..

قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان عد نزول { يا أيها المدثر } فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب وفيه نظر.

ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود، فأعتقه وأراحه من العذاب، وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية، وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.

فقال أبو بكر: حل يا أم فلان.

فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما.

قال: فبكم هما؟

قالت: بكذا وكذا.

قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.

قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟

قال: أو ذلك إن شئتما.

واشترى جارية بني مؤمل - حي من بني عدي - كان عمر يضربها على الإسلام.

قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله.

قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني إني أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟

قال: فقال أبو بكر: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.

قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } إلى آخر السورة.

وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود.

قال: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.

فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد.

ورواه الثوري عن منصور، عن مجاهد مرسلا.

قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار ابن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله فيقول - فيما بلغني -: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنة».

وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السري بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله مرَّ بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: «أبشروا آل عمار، وآل ياسر فإن موعدكم الجنة».

فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام.

وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد.

قال: أول شهيد كان في الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.

وهذا مرسل.

قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزَّاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفلين رأيك، ولنضعن شرفك.

وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.

وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به، لعنه الله وقبحه.

قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟

قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهآن من دون الله.

فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.

قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } 34 الآية.

فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الأرت، قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.

فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.

قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك؟

فأنزل الله تعالى { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } إلى قوله: { وَيَأْتِينَا فَرْدا } 35.

أخرجاه في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الأعمش به.

وفي لفظ البخاري: كنت قينا بمكة، فعملت للعاص ابن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث.

وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا بيان وإسماعيل.

قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟

فقعد وهو محمر الوجه.

فقال: «قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل»، زاد بيان «والذئب على غنمه».

وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» انفرد به البخاري دون مسلم.

وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر من هذا والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب.

قال: شكونا إلى النبي شدة الرمضاء فما أشكانا - يعني: في الصلاة - وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.

وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول الرمضاء فلم يشكنا، قال شعبة يعني: في الظهيرة.

ورواه مسلم، والنسائي، والبيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن وهب، عن خباب.

قال: شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء - زاد البيهقي - في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.

وفي رواية: شكونا إلى رسول الله الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.

ورووا ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي، عن خباب.

قال: شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء فلم يشكنا.

والذي يقع لي - والله أعلم - أن هذا الحديث مختصر من الأول وهو أنهم شكوا إليه ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره.

وسألوا منه أن يدعو الله لهم على المشركين، أو يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم، ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر، ويظهره، ويعلنه، وينشره، وينصره في الأقاليم والآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.

ولهذا قال: شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا، أي: لم يدع لنا في الساعة الراهنة، فمن استدل بهذا الحديث على عدم الإبراد، أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر والله أعلم.

باب مجادلة النبي صلى الله عليه وسلم الكفار وإقامة الحجة الدامغة عليهم

قال إسحاق بن راهوايه: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة عن ابن عباس.

أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا.

قال: لِمَ؟

قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتعرض ما قبله.

قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالا.

قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.

قال: وماذا أقول؟ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله أن لقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.

قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكر.

قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا } 36 الآيات.

هكذا رواه البيهقي، عن الحاكم، عن عبد الله بن محمد بن علي الصنعاني بمكة عن إسحاق به.

وقد رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة مرسلا.

فيه أنه قرأ عليه: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 37.

وقال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد ابن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير - أو عكرمة، عن ابن عباس - أن الوليد بن المغيرة اجتمع ونفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر المواسم فقال: إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قول بعضكم بعضا.

فقيل: يا أبا عبد شمس، فقل، وأقم لنا رأيا نقوم به.

فقال: بل أنتم فقولوا وأنا أسمع.

فقالوا: نقول كاهن؟

فقال: ما هو بكاهن رأيت الكهان.

فما هو بزمزمة الكهان.

فقالوا: نقول مجنون؟

فقال: ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بحنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.

فقال: نقول شاعر؟

فقال: ما هو بشاعر قد عرفنا الشعر برجزه، وهزجه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشعر.

قالوا: فنقول هو ساحر؟

قال: ما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا بعقده.

قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟

قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لجنىً فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول لأن تقولوا هذا ساحر، فتقولوا هو ساحر يفرِّق بين المرء ودينه، وبين المرء وأبيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك.

فجعلوا يجلسون للناس حتى قدموا الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا لهم أمره وأنزل الله في الوليد: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودا * وَبَنِينَ شُهُودا } 38 الآيات.

وفي أولئك النفر: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } 39.

قلت: وفي ذلك قال الله تعالى إخبارا عن جهلهم وقلة عقلهم: { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } 40 فحاروا ماذا يقولون فيه فكل شيء يقولونه باطل، لأن من خرج عن الحق مهما قاله أخطأ.

قال الله تعالى: { انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا } 41.

وقال الإمام عبد بن حميد في (مسنده): حدثني أبو بكر ابن أبي شيبة، حدثنا علي ابن مسهر عن الأجلح - هو ابن عبد الله الكندي - عن الذيال بن حرملة الأسدي، عن جابر بن عبد الله..

قال: اجتمع قريش يوما فقالوا: أنظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا، وشتت أمرنا وعاب ديننا فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟

فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.

فقالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله .

فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله .

قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك إنا والله ما رأينا سخلة قط أشأم على قومه منك فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا.

والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف حتى نتفانى: أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباه فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشرا.

فقال رسول الله : «فرغت؟»

قال: نعم!

فقال رسول الله : «بسم الله الرحمن الرحيم: { حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } إلى أن بلغ { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } 42».

فقال عتبة: حسبك ما عندك غير هذا؟

قال: لا.

فرجع إلى قريش فقالوا: ما وراءك؟

قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا كلمته.

قالوا: فهل أجابك؟

فقال: نعم!

ثم قال: لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود.

قالوا: ويلك يكلمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟

قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة.

وقد رواه البيهقي وغيره عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، عن محمد بن فضيل، عن الأجلح به.

وفيه كلام، وزاد: وإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسا ما بقيت وعنده أنه لما قال: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } أمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم.

فقال أبو جهل: والله يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة إصابته، انطلقوا بنا إليه فأتوه.

فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما جئنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره، فإن كان بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.

فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا.

وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته - وقص عليهم القصة - فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا بشعر ولا كهانة، قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } حتى بلغ: { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود }.

فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل عليكم العذاب.

ثم قال البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد مولى بني هاشم، عن محمد بن كعب قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا حليما.

قال - ذات يوم وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله جالس وحده في المسجد -: يا معشر قريش ألا أقوم إلى هذا فأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها ويكف عنا.

قالوا: بلى يا أبا الوليد!

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله فذكر الحديث فيما له عتبة وفيما عرض على رسول الله من المال والملك وغير ذلك.

وقال بن إسحاق: فقال عتبة: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمور لعله يقبل بعضها فنعطيه إياها ويكف عنا وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله يزيدون ويكثرون.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد! فقم إليه وكلمه.

فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة والمكان في النسب، وأنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم.

فاسمع مني حتى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قال: فقال له رسول الله : «يا أبا الوليد اسمع».

قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يتداوى منه - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة.

قال له النبي : «أفرغت يا أبا الوليد؟».

قال: نعم!

قال: «اسمع مني».

قال: أفعل!

فقال رسول الله : { حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون }.

فمضى رسول الله يقرأها فلما سمع بها عتبة انصت لها وألقى بيديه خلفه أو خلف ظهره معتمدا عليها ليسمع منه حتى انتهى رسول الله إلى السجدة فسجدها ثم قال: «سمعت يا أبا الوليد؟»

قال سمعت.

قال: «فأنت وذاك».

ثم قام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به..

فلما جلسوا إليه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا الكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي لكم فاصنعوا ما بدا لكم.

ثم ذكر يونس عن ابن إسحاق شعرا قاله أبو طالب يمدح فيه عتبة.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني أخبرنا أبو قتيبة سلمة بن الفضل الأدمي بمكة، حدثنا أبو أيوب أحمد بن بشر الطيالسي، حدثنا داود بن عمرو الضبي، حدثنا المثنى بن زرعة، عن محمد بن إسحاق، عن نافع عن ابن عمر.

قال: لما قرأ رسول الله على عتبة بن ربيعة: «حم * تنزيل من الرحمن الرحيم» أتى أصحابه فقال لهم: يا قوم أطيعوني في هذا الأمر اليوم، واعصوني فيما بعده، فوالله لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه.

وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

ثم روى البيهقي عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق حدثني الزهري.

قال: حدثت أن أبا جهل وأبا سفيان، والأخنس بن شريق خرجوا ليلةً ليسمعوا من رسول الله وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل رجلٍ منهم مجلسا ليستمع منه، وكلٍ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا أصبحوا وطلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا.

ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجلٍ منهم إلى مجلسه، فباتوا يستمعون له حتى طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، قال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا، فلما كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقالوا: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود.

فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟

فقال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها.

فقال الأخنس: وأنا والذي حلفت به.

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟

فقال: ماذا سمعت تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نسمع به أبدا ولا نصدقه.

فقام عنه الأخنس بن شريق ثم قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس، حدثنا أحمد، حدثنا يونس، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم عن المغيرة بن شعبة.

قال: إن أول يوم عرفت رسول الله أني أمشي أنا وأبو جهل بن هشام في بعض أزقة مكة، إذ لقينا رسول الله فقال رسول الله لأبي جهل: «يا أبا الحكم، هلمَّ إلى الله وإلى رسوله، أدعوك إلى الله».

فقال أبو جهل: يا محمد، هل أنت منته عن سب آلهتنا؟ هل تريد إلا أن نشهد أنك قد بلغت؟ فنحن نشهد أن قد بلغت؟ فوالله لو أني أعلم أن ما تقول حق لاتبعتك.

فانصرف رسول الله .

وأقبل علي فقال: والله إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن يمنعني شيء إن بني قصي قالوا: فينا الحجابة.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا السقاية.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا الندوة.

فقلنا: نعم.

ثم قالوا: فينا اللواء.

فقلنا: نعم.

ثم أطعموا وأطعمنا.

حتى إذا تحاكت الركب قالوا: منا نبي، والله لا أفعل.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ؛ قال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، حدثنا محمد ابن خالد، حدثنا أحمد بن خلف، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق.

قال: مرَّ النبي على أبي جهل، وأبي سفيان، وهما جالسان.

فقال أبو جهل: هذا نبيكم يا بني عبد شمس.

قال أبو سفيان: وتعجب أن يكون منا نبي؟ فالنبي يكون فيمن أقل منا وأذل.

فقال أبو جهل: أعجب أن يخرج غلام من بين شيوخ نبيا، ورسول الله يسمع.

فأتاهما فقال: «أما أنت يا أبا سفيان، فما لله ورسوله غضبت ولكنك حميت للأصل، وأما أنت يا أبا الحكم فوالله لتضحكن قليلا ولتبكين كثيرا».

فقال: بئسما تعدني يا ابن أخي من نبوتك.

هذا مرسل من هذا الوجه وفيه غرابة.

وقول أبي جهل - لعنه الله - كما قال الله تعالى مخبرا عنه وعن أضرابه: { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا } 43.

وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

قال: نزلت هذه الآية ورسول الله متوارٍ بمكة: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ } 44 قال: كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن.

فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن، وسبوا من أنزله، ومن جاء به، قال: فقال الله تعالى لنبيه محمد : { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } أي: بقراءتك، فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } وهكذا رواه صاحبا (الصحيح) من حديث أبي بشر جعفر بن أبي حية به.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رسول الله إذا جهر بالقرآن - وهو يصلي - تفرقوا عنه وأبوا أن يستمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله بعض ما يتلو، وهو يصلي استرق السمع، دونهم فَرَقاَ منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول الله ، لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا.

فأنزل الله تعالى: { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ } فيتفرقوا عنك، { وَلَا تُخَافِتْ بِهَا } فلا يسمع من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك، لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع، فينتفع به { وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا }.

باب هجرة أصحاب رسول الله من مكة إلى أرض الحبشة

قد تقدم ذكر أذية المشركين للمستضعفين من المؤمنين، وما كانوا يعاملونهم به من الضرب الشديد. والإهانة البالغة.

وكان الله عز وجل قد حجرهم عن رسوله ، ومنعه بعمه أبي طالب، كما تقدم تفصيله ولله الحمد والمنة.

وروى الواقدي: أن خروجهم إليها في رجب سنة خمس من البعثة، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البحر ما بين ماش وراكب فاستأجروا سفينة بنصف دينار إلى الحبشة.

وهم: عثمان بن عفان، وامرأته رقية بنت رسول الله ، وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته سهلة بنت سهيل، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم، وحاطب بن عمرو، وسهيل بن بيضاء، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن جرير وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلا، سوى نسائهم وأبنائهم، وعمار بن ياسر، نشكُّ، فإن كان فيهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا.

وقال محمد بن إسحاق: فلما رأى رسول الله ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله عز وجل، ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء.

قال لهم: «لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي - أرض صدق - حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه».

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة، وفرارا إلى الله بدينهم.

فكانت أول هجرة كانت في الإسلام، فكان أول من خرج من المسلمين عثمان بن عفان، وزوجته رقية بنت رسول الله .

وكذا روى البيهقي من حديث يعقوب بن سفيان، عن عباس العنبري، عن بشر بن موسى، عن الحسن بن زياد البرجمي، حدثنا قتادة.

قال: أول من هاجر إلى الله تعالى بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت النضر بن أنس يقول: سمعت أبا حمزة - يعني: أنس بن مالك - يقول: خرج عثمان بن عفان، ومعه امرأته رقية بنت رسول الله ، إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت: يا محمد، قد رأيت ختنك ومعه امرأته.

قال: على أي حال رأيتهما؟

قالت: رأيته قد حمل امرأته على حمار من هذا الدبابة، وهو يسوقها

فقال رسول الله : صحبهما الله، إن عثمان أول من هاجر بأهله بعد لوط عليه السلام».

قال ابن إسحاق: وأبو حذيفة بن عتبة، وزوجته سهلة بنت سهيل بن عمرو، - وولدت له بالحبشة محمد بن أبي حذيفة -، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وولدت له بها زينب، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة حليف آل الخطاب - وهو من بني عنز بن وائل - وامرأته ليلى بنت أبي حثمة، وأبو سبرة بن أبي رهم العامري، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو - ويقال أبو حاطب ابن عمرو بن عبد شمس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر - وهو أول من قدمها فيما قيل - وسهيل بن بيضاء - فهؤلاء العشرة أول من خرج من المسلمين إلى أرض الحبشة فيما بلغني.

قال ابن هشام: وكان عليهم عثمان بن مظعون، فيما ذكر بعض أهل العلم.

قال ابن إسحاق: ثم خرج جعفر بن أبي طالب، ومعه امرأته أسماء بنت عميس، وولدت له بها عبد الله بن جعفر، وتتابع المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة..

وقد زعم موسى بن عقبة أن الهجرة الأولى إلى أرض الحبشة كانت حين دخل أبو طالب، ومن حالفه مع رسول الله إلى الشعب، وفي هذا نظر والله أعلم.

وزعم: أن خروج جعفر بن أبي طالب إنما كان في الهجرة الثانية إليها.

وذلك بعد عود بعض من كان خرج أولا، حين بلغهم أن المشركين أسلموا وصلوا، فلما قدموا مكة - وكان فيمن قدم: عثمان بن مظعون - فلم يجدوا ما أخبروا به من إسلام المشركين صحيحا، فرجع من رجع منهم، ومكث آخرون بمكة.

وخرج آخرون من المسلمين إلى - أرض الحبشة، وهي الهجرة الثانية - كما سيأتي بيانه.

قال موسى بن عقبة: وكان جعفر بن أبي طالب فيمن خرج ثانيا.

وما ذكره ابن إسحاق من خروجه في الرعيل الأول أظهر، كما سيأتي بيانه والله أعلم.

لكنه كان في زمرة ثانية من المهاجرين أولا، وهو المقدم عليهم، والمترجم عنهم عند النجاشي، وغيره كما سنورده مبسوطا.

ثم إن ابن إسحاق سرد الخارجين صحبة جعفر رضي الله عنهم.

وهم: عمرو بن سعيد بن العاص، وامرأته فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن حمل بن شق الكناني.

وأخوه خالد، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد الخزاعي.

وولدت له بها سعيدا، وأمة التي تزوجها بعد ذلك الزبير، فولدت له عمرا وخالدا.

قال: وعبد الله بن جحش بن رئاب، وأخوه عبيد الله، ومعه امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان، وقيس بن عبد الله من بني أسد بن خزيمة، وامرأته بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وهو من موالي سعيد بن العاص، قال ابن هشام: وهو من دوس.

قال: وأبو موسى الأشعري عبد الله بن قيس حليف آل عتبة بن ربيعة.

وسنتكلم معه في هذا.

وعتبة بن غزوان ويزيد بن زمعة بن الأسود، وعمرو بن أمية بن الحارث بن أسد، وطليب بن عمير بن وهب بن أبي كثير بن عبد بن قصي، وسويبط بن سعد بن حرملة، وجهم بن قيس العبدوي، ومعه امرأته أم حرملة بنت عبد الأسود بن خذيمة، وولداه عمرو بن جهم، وخزيمة بن جهم، وأبو الروم بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

وفراس بن النضر بن الحارث بن كلدة، وعامر بن أبي وقاص أخو سعد، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري، وامرأته رملة بنت أبي عوف بن ضبيرة.

وولدت بها عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة، والمقداد بن الأسود، والحارث بن خالد بن صخر التيمي، وامرأته ريطة بنت الحارث بن جبلة، وولدت له بها موسى، وعائشة، وزينب، وفاطمة، وعمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد ابن تيم بن مرة..

وشماس بن عثمان بن الشريد المخزومي - قال: وإنما سمي شماسا لحسنه، وأصل اسمه عثمان بن عثمان - وهبار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وأخوه عبد الله، وهشام بن أبي حذيفة ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وسلمة بن هشام بن المغيرة، وعياش بن أبي ربيعة ابن المغيرة.

ومعتب بن عوف بن عامر - ويقال له: عيهامة - وهو من حلفاء بني مخزوم.

قال: وقدامة وعبد الله أخوا عثمان بن مظعون، والسائب بن عثمان بن مظعون، وحاطب بن الحارث بن معمر، ومعه امرأته فاطمة بنت المجلل، وابناه منها محمد، والحارث، وأخوه خطاب، وامرأته فكيهه بنت يسار، وسفيان بن معمر بن حبيب، وامرأته حسنة، وابناه منها جابر، وجنادة، وابنها من غيره، وهو شرحبيل بن عبد الله - أحد الغوث بن مزاحم بن تميم - وهو الذي يقال له: شرحبيل ابن حسنة، وعثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح.

وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وعبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم، وهشام بن العاص بن وائل بن سعيد، وقيس بن حذافة بن قيس بن عدي، وأخوه عبد الله، وأبو قيس ابن الحارث بن قيس بن عدي، وإخوته الحارث، ومعمر، والسائب، وبشر، وسعيد أبناء الحارث.

وسعيد بن قيس بن عدي لأمه وهو سعيد بن عمرو التميمي، وعمير بن رئاب بن حذيفة بن مهشم بن سعيد بن سهم، وحليف لبني سهم: وهو محمية بن جزء الزبيدي، ومعمر بن عبد الله العدوي، وعروة بن عبد العزى، وعدي بن نضلة بن عبد العزى، وابنه النعمان، وعبد الله بن مخرمة العامري.

وعبد الله ابن سهيل بن عمرو، وسليط بن عمرو، وأخوه السكران، ومعه زوجته سؤدة بنت زمعة، ومالك بن ربيعة، وامرأته عمرة بنت السعدى، وأبو حاطب بن عمرو العامري، وحليفهم سعد بن خولة - وهو من اليمن وأبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح الفهري، وسهيل بن بيضاء - وهي أمه، واسمها دعد بنت جحدم بن أمية بن ظرب بن الحارث بن فهر، وهو سهيل بن وهب بن ربيعة بن هلال بن ضبة بن الحارث، وعمرو بن أبي سرح بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحارث.

وعياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة، وعمرو بن الحارث بن زهير ابن أبي شداد بن ربيعة، وعثمان بن عبد غنم بن زهير أخوات، وسعيد بن عبد قيس بن لقيط، وأخوه الحارث الفهريون.

قال ابن إسحاق: فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين سوى أبنائهم، الذين خرجوا بهم صغارا وولدوا بها ثلاثة وثمانون رجلا، إن كان عمار بن ياسر فيهم، وهو يشكُّ فيه..

قلت: وذكر ابن إسحاق أبا موسى الأشعري فيمن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة غريب جدا.

وقد قال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود.

قال: بعثنا رسول الله إلى النجاشي، ونحن نحوا من ثمانين رجلا، فيهم: عبد الله بن مسعود، وجعفر، وعبد الله بن عرفطة، وعثمان بن مظعون، وأبو موسى فأتوا النجاشي.

وبعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية، فلما دخلا على النجاشي سجدا له، ثم ابتدراه عن يمينه، وعن شماله ثم قالا له: إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك، ورغبوا عنا وعن ملتنا.

قال: فأين هم؟

قالا: في أرضك، فابعث إليهم، فبعث إليهم

فقال جعفر: أنا خطيبكم اليوم فاتبعوه، فسلَّم ولم يسجد.

فقالوا له: مالك لا تسجد للملك؟

قال: إنا لا نسجد إلا لله عز وجل.

قال: وما ذاك؟

قال: إن الله بعث إلينا رسولا، ثم أمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عز وجل، وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو: فإنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.

قال: فما تقولون في عيسى بن مريم وأمه؟

قال: نقول كما قال الله: هو كلمته وروحه ألقاها إلى العذراء البتول، التي لم يمسها بشر، ولم يفرضها ولد.

قال: فرفع عودا من الأرض ثم قال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما سوى هذا، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، أشهد أنه رسول الله .

وأنه الذي نجد في الإنجيل.

وأنه الرسول الذي بشَّر به عيسى بن مريم، أنزلوا حيث شئتم، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه.

وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما، ثم تعجَّل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا.

وزعم: أن النبي استغفر له حين بلغه موته.

وهذا إسناد جيد قوي، وسياق حسن.

وفيه ما يقتضي أن أبا موسى كان ممن هاجر من مكة إلى أرض الحبشة، إن لم يكن ذكره مدرجا من بعض الرواة والله أعلم..

وقد روى عن أبي إسحاق السبيعي من وجه آخر.

فقال الحافظ أبو نعيم في (الدلائل): حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا إسرائيل.

وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن زكريا، حدثنا الحسن بن علوية القطان، حدثنا عباد بن موسى الختلي، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا إسرائيل.

وحدثنا أبو أحمد، حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى.

قال: أمرنا رسول الله أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، وقدما على النجاشي فأتياه بالهدية، فقبلها، وسجدا له، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم في أرضك.

قال لهم النجاشي: في أرضي؟

قالا: نعم!

فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد.

أنا خطيبكم اليوم، فانتهينا إلى النجاشي، وهو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون جلوس سماطين.

وقد قال له عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون لك.

فلما انتهينا، بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك.

فقال جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل.

فلما انتهينا إلى النجاشي.

قال: ما منعك أن تسجد؟

قال: لا نسجد إلا لله.

فقال له النجاشي: وما ذاك؟

قال: إن الله بعث فينا رسولا - وهو الرسول الذي بشر به عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام من بعده، اسمه أحمد - فأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، ونقيم الصلاة ونؤتي الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهانا عن المنكر.

فأعجب النجاشي قوله، فلما رأى ذلك عمرو بن العاص، قال: أصلح الله الملك، إنهم يخالفونك في عيسى بن مريم.

فقال النجاشي لجعفر: ما يقول صاحبكم في ابن مريم.

قال: يقول فيه قول الله: هو روح الله وكلمته أخرجه من العذراء البتول، التي لم يقربها بشر، ولم يفرضها ولد.

فتناول النجاشي عودا من الأرض فرفعه فقال: يا معشر القسيسين، والرهبان، ما يزيدون هؤلاء على ما نقول في ابن مريم، ولا وزن هذه.

مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشَّر به عيسى.

ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعليه، امكثوا في أرضي ما شئتم، وأمر لنا بطعام وكسوة.

وقال: ردوا على هذين هديتهما، وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر، فشربا ومع عمرو امرأته، فلما شربا

قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني.

فقال له عمرو: ألا تستحي؟

فأخذ عمارة عمرا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشد عمارة؛ حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرو في ذلك..

فقال عمرو للنجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك، فدعا النجاشي بعمارة، فنفخ في إحليله فطار مع الوحش.

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في (الدلائل) من طريق أبي علي الحسن بن سلام السواق، عن عبيد الله بن موسى فذكر بإسناده مثله إلى قوله: فأمر لنا بطعام وكسوة.

قال: وهذا إسناد صحيح، وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة، وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة.

والصحيح: عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى: أنهم بلغهم مخرج رسول الله وهم باليمن، فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلا في سفينة، فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي بأرض الحبشة، فوافقوا جعفر بن أبي طالب، وأصحابه عندهم، فأمره جعفر بالإقامة، فأقاموا عنده حتى قدموا على رسول الله زمن خيبر.

قال: وأبو موسى شهد ما جرى بين جعفر وبين النجاشي، فأخبر عنه.

قال: ولعل الراوي وهم في قوله: أمرنا رسول الله أن ننطلق والله أعلم.

وهكذا رواه البخاري في باب هجرة الحبشة.

حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة، حدثنا يزيد بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى.

قال: بلغنا مخرج النبي ونحن باليمن، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فأقمنا معه حتى قدمنا فوافينا النبي حين افتتح خيبر.

فقال النبي : «لكم أنتم أهل السفينة هجرتان».

وهكذا رواه مسلم عن أبي كريب، وأبي عامر عبد الله بن براد بن يوسف بن أبي بردة بن أبي موسى كلاهما عن أبي أسامة به، وروياه في مواضع أُخر مطولا والله أعلم.

وأما قصة جعفر مع النجاشي فإن الحافظ ابن عساكر رواها في ترجمة جعفر بن أبي طالب من (تاريخه) من رواية نفسه، ومن رواية عمرو بن العاص.

وعلى يديهما جرى الحديث، ومن رواية ابن مسعود كما تقدم.

وأم سلمة كما سيأتي.

فأما رواية جعفر فإنها عزيزة جدا.

رواها ابن عساكر عن أبي القاسم السمرقندي، عن أبي الحسين بن النقور، عن أبي طاهر المخلص، عن أبي القاسم البغوي.

قال: حدثنا أبو عبد الرحمن الجعفي، عن عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا أسد بن عمرو البجلي، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عبد الله بن جعفر، عن أبيه.

قال: بعثت قريش عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد بهدية من أبي سفيان إلى النجاشي.

فقالوا له - ونحن عنده -: قد صار إليك ناس من سفلتنا، وسفهائنا، فادفعهم إلينا.

قال: لا حتى اسمع كلامهم.

قال: فبعث إلينا، فقال: ما يقول هؤلاء؟.

قال: قلنا هؤلاء قوم يعبدون الأوثان، وإن الله بعث إلينا رسولا فآمنا به وصدقناه.

فقال لهم النجاشي: أعبيد هم لكم؟

قالوا: لا.

فقال: فلكم عليهم دين؟.

قالوا: لا.

قال: فخلوا سبيلهم.

قال فخرجنا من عنده.

فقال عمرو بن العاص: إن هؤلاء يقولون في عيسى غير ما تقول.

قال: إن لم يقولوا في عيسى مثل قولي لم أدعهم في أرضي ساعة من نهار.

فأرسل إلينا، فكانت الدعوة الثانية أشد علينا من الأولى

قال: ما يقول صاحبكم في عيسى بن مريم.

قلنا: يقول هو روح الله وكلمته ألقاها إلى عذراء بتول

قال: فأرسل.

فقال: ادعوا لي فلان القس، وفلان الراهب، فأتاه ناس منهم.

فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقالوا: أنت أعلمنا! فما تقول؟

قال النجاشي: - وأخذ شيئا من الأرض - قال: ما عدا عيسى ما قال هؤلاء مثل هذا، ثم قال: أيؤذيكم أحدا؟

قالوا: نعم!.

فنادى مناد: من آذى أحدا منهم فاغرموه أربعة دراهم

ثم قال: أيكفيكم؟

قلنا: لا، فأضعفها.

قال: فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، وظهر بها لنا له: إن رسول الله قد ظهر، وهاجر إلى المدينة، وقتل الذين كنا حدثناك عنهم، وقد أردنا الرحيل إليه، فردنا.

قال: نعم!.

فحملنا، وزودنا.

ثم قال: أخبر صاحبك بما صنعت إليكم، وهذا صاحبي معكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، وقل له: يستغفر لي.

قال جعفر: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله ، واعتنقني، ثم قال: «ما أدري أنا بفتح خيبر أفرح أم بقدوم جعفر؟»

ووافق ذلك فتح خيبر، ثم جلس فقال رسول النجاشي: هذا جعفر فسله ما صنع به صاحبنا؟

فقال: نعم فعل بنا كذا وكذا وحملنا وزودنا، وشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

وقال لي: قل له يستغفر لي، فقام رسول الله فتوضأ، ثم دعا ثلاث مرات «اللهم اغفر للنجاشي».

فقال المسلمون: آمين.

ثم قال جعفر للرسول: انطلق فأخبر صاحبك بما رأيت من رسول الله .

ثم قال ابن عساكر: حسن غريب.

وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن حارث بن هشام، عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت:.

لما ضاقت مكة، وأوذي أصحاب رسول الله ، وفتنوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه، ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره، ومما ينال أصحابه

فقال لهم رسول الله : «إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده فألحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه».

فخرجنا إليها إرسالا حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما، فلما رأت قريش أنا قد أصبنا دارا وأمنا، غاروا منا، فاجتمعوا على أن يبعثوا إلى النجاشي فينا ليخرجونا من بلاده، وليردنا عليهم، فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلا إلا هيئوا له هدية على حدة.

وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تتكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هداياه، فإن استطعتم أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا.

فقدما عليه فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه فقالوا له: إنما قدمنا على هذا الملك في سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم ولم يدخلوا في دينكم.

فبعثنا قومهم ليردهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل فقالوا: نفعل، ثم قدَّموا إلى النجاشي هداياه، وكان من أحب ما يهدون إليه من مكة الأدم - وذكر موسى بن عقبة: أنهم أهدوا إليه فرسا، وجبة ديباج - فلما أدخلوا عليه هداياه.

قالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجئوا إلى بلادك، وقد بعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لتردهم عليهم، فإنهم أعلا بهم عينا، فإنهم لن يدخلوا في دينك فتمنعهم لذلك.

فغضب ثم قال: لا لعمر الله! لا أردهم عليهم حتى أدعوهم، فأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجئوا إلى بلادي واختاروا جواري على جوار غيري فإن كانوا كما يقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعم عينا وذكر موسى بن عقبة أن أمراءه أشاروا عليه بأن يردهم إليهم.

فقال: لا والله!حتى أسمع كلامهم وأعلم على أي شيء هم عليه؟

فلما دخلوا عليه سلموا ولم يسجدوا له.

فقال: أيها الرهط ألا تحدثوني ما لكم لا تحيوني كما يحييني من أتانا من قومكم؟.

فأخبروني ماذا تقولون في عيسى وما دينكم؟أنصارى أنتم؟

قالوا: لا.

قال: أفيهود أنتم؟

قالوا: لا.

قال: فعلى دين قومكم؟

قالوا: لا.

قال: فما دينكم؟

قالوا: الإسلام.

قال: وما الإسلام؟

قالوا: نعبد الله لا نشرك به شيئا.

قال: من جاءكم بهذا؟.

قالوا: جاءنا به رجل من أنفسنا، قد عرفنا وجهه ونسبه، بعثه الله إلينا كما بعث الرسل إلى من قبلنا، فأمرنا بالبر والصدقة والوفاء وأداء الأمانة، ونهانا أن نعبد الأوثان وأمرنا بعبادة الله وحده لا شريك له، فصدقناه، وعرفنا كلام الله، وعلمنا أن الذي جاء به من عند الله فلما فعلنا ذلك عادانا قومنا، وعادوا النبي الصادق وكذبوه وأرادوا قتله، وأرادونا على عبادة الأوثان، ففررنا إليك بديننا ودمائنا من قومنا.

قال: والله إن هذا لمن المشكاة التي خرج منها أمر موسى.

قال جعفر: وأما التحية فإن رسول الله أخبرنا أن تحية أهل الجنة السلام، وأمرنا بذلك فحييناك بالذي يحيي بعضنا بعضا.

وأما عيسى بن مريم: فعبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وابن العذراء البتول.

فأخذ عودا وقال: والله ما زاد ابن مريم على هذا وزن هذا العود.

فقال عظماء الحبشة: والله لئن سمعت الحبشة لتخلعنك.

فقال: والله لا أقول في عيسى غير هذا أبدا، وما أطاع الله الناس في حين ردَّ علي ملكي فأطع الناس في دين الله. معاذ الله من ذلك.

وقال يونس عن ابن إسحاق: فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم ولم يكن شيء أبغض لعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم.

فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القوم فقالوا: ماذا تقولون؟

فقالوا: وماذا نقول، نقول والله ما نعرف.

وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا كائن من ذلك ما كان، فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.

فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية، ولا نصرانية.

فقال له جعفر: أيها الملك كنا قوما على الشرك ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار يستحل المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحل شيئا ولا نحرمه.

فبعث الله إلينا نبيا من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له ونصل الأرحام ونحمى الجوار ونصلي لله عز وجل ونصوم له، ولا نعبد غيره.

وقال زياد عن ابن إسحاق: فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الأرحام وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة، والزكاة والصيام.

قال: فعدوا عليه أمور الإسلام فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فعبدنا الله وحده لا شريك له ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا ليفتنونا عن ديننا ويردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك شي مما جاء به عن الله؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله.

فقال له جعفر: نعم.

قال: هلم فاتل علي مما جاء به، فقرأ عليه صدرا من كهيعص فبكى والله النجاشي حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.

ثم قال لهم: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها موسى، انطلقوا راشدين لا والله لا أردهم عليكم ولا أنعمكم عينا.

فخرجنا من عنده وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة.

فقال عمرو بن العاص: والله لآتينه غدا بما استأصل به خضراءهم، ولأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد.

فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل فإنهم وإن كانوا خالفونا فإن له رحما ولهم حقا.

فقال: والله لأفعلن! فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما، فأرسل إليهم فسلهم عنه فبعث والله إليهم ولم ينزل بنا مثلها.

فقال بعضنا لبعض: ماذا تقولون له في عيسى إن هو يسألكم عنه؟

فقالوا: نقول والله الذي قاله الله فيه، والذي أمرنا نبينا أن نقوله فيه فدخلوا عليه وعنده بطارقته فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟

فقال له جعفر: نقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

فدلى النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العويد.

فتناخرت بطارقته.

فقال: وإن تناخرتم والله! اذهبوا فأنتم سيوم في الأرض - السيوم الآمنون في الأرض ومن سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم، ثلاثا ما أحب أن لي دبرا وإني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسانهم: الذهب.

وقال زياد: عن ابن إسحاق: ما أحب أن لي دبرا من ذهب.

قال ابن هشام: ويقال زبرا وهو الجبل بلغتهم.

ثم قال النجاشي: فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين ردَّ علي ملكي، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.

ردُّوا عليهما هداياهم فلا حاجة لي بها.

واخرجا من بلادي فخرجا مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به.

قالت: فأقمنا مع خير جار في خير دار، فلم نشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه..

فوالله ما علمنا حزنا حزنا قط هو أشد منه، فرقا من أن يظهر ذلك الملك عليه فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي فخرج إليه سائرا فقال أصحاب رسول الله بعضهم لبعض: من يخرج فيحضر الوقعة حتى ينظر على من تكون؟

وقال الزبير - وكان من أحدثهم سنا - أنا، فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، فجعل يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس فحضر الوقعة فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه.

فجائا الزبير فجعل يليح لنا بردائه ويقول: ألا فأبشروا، فقد أظهر الله النجاشي.

قلت: فوالله ما علمنا أننا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا إلى مكة وأقام من أقام.

قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير عن أم سلمة.

فقال عروة: أتدري ما قوله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس في فأطيع الناس فيه؟

فقلت: لا! ما حدثني ذلك أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن أم سلمة.

فقال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لأب النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها، فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإن له اثنا عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك، لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملَّكوا أخاه.

فدخل النجاشي بعمه حتى غلب عليه فلا يدبر أمره غيره، وكان لبيبا حازما من الرجال، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن أن يملكه علينا وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا، فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الفتى منك وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه وإنا لا نأمن أن يملك علينا فيقتلنا، فأما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا.

قال: ويحكم قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم، بل أخرجه من بلادكم.

فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من التجار قذفه في سفينة بستمائة درهم أو بسبعمائة فانطلق به، فلما كان العشي هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير فمرج على الحبشة أمرهم..

فقال بعضهم لبعض: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره للذي بعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب، فخرجوا في طلبه فأدركوه فردوه فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه، فقال التاجر: ردوا علي مالي كما أخذتم مني غلامي، فقالوا: لا نعطيك.

فقال: إذا والله لأكلمنه، فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك، إني ابتعت غلاما فقبض مني الذي باعوه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي، فكان أول ما خبر به من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردن عليه ماله، أو لتجعلن يد غلامه في يده فليذهبن به حيث شاء.

فقالوا: بل نعطيه ماله فأعطوه إياه، فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة حين ردَّ علي ملكي، وما أطاع الناس في فأطيع الناس فيه.

وقال موسى بن عقبة: كان أبو النجاشي ملك الحبشة، فمات والنجاشي غلام صغير، فأوصى إلى أخيه أن إليك ملك قومك حتى يبلغ ابني، فإذا بلغ فله الملك، فرغب أخوه في الملك فباع النجاشي من بعض التجار، فمات عمه من ليلته وقضى، فردت الحبشة النجاشي حتى وضعوا التاج على رأسه، هكذا ذكره مختصرا، وسياق ابن إسحاق أحسن وأبسط فالله أعلم.

والذي وقع في سياق ابن إسحاق إنما هو ذكر عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، والذي ذكره موسى بن عقبة والأموي وغير واحد أنهما عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بن المغيرة وهو أحد السبعة الذين دعا عليهم رسول الله حين تضاحكوا يوم وضع سلا الجزور على ظهره وهو ساجد عند الكعبة.

وهكذا تقدم في حديث ابن مسعود وأبي موسى الأشعري.

والمقصود: أنهما حين خرجا من مكة كانت زوجة عمرو معه، وعمارة كان شابا حسنا فاصطحبا في السفينة وكان عمارة طمع في امرأة عمرو بن العاص، فألقى عمرا في البحر ليهلكه فسبح حتى رجع إليها.

فقال له عمارة: لو أعلم أنك تحسن السباحة لما ألقيتك، فحقد عمرو عليه فلما لم يقض لهما حاجة في المهاجرين من النجاشي، وكان عمارة قد توصل إلى بعض أهل النجاشي فوشى به عمرو فأمر به النجاشي فسحر حتى ذهب عقله وساح في البرية مع الوحوش.

وقد ذكر الأموي - قصة مطولة جدا - وأنه عاش إلى زمن أمارة عمر بن الخطاب، وأنه تقصده بعض الصحابة ومسكه فجعل يقول: أرسلني أرسلني وإلا مت، فلما لم يرسله مات من ساعته فالله أعلم.

وقد قيل: أن قريشا بعثت إلى النجاشي في أمر المهاجرين مرتين:

الأول: مع عمرو بن العاص وعمارة.

والثانية: مع عمرو وعبد الله بن أبي ربيعة.

نص عليه أبو نعيم في (الدلائل) والله أعلم.

وقد قيل: إن البعثة الثانية كانت بعد وقعة بدر قاله الزهري، لينالوا ممن هناك ثأرا فلم يجبهم النجاشي رضي الله عنه وأرضاه إلى شيء مما سألوا فالله أعلم.

وقد ذكر زياد، عن ابن إسحاق: أن أبا طالب لما رأى ذلك من صنيع قريش كتب إلى النجاشي أبياتا يحضه فيها على العدل وعلى الإحسان إلى من نزل عنده من قومه:

ألا ليت شعري كيف في النأي جعفر * وعمرو وأعداء العدو الأقارب

وما نالت أفعال النجاشي جعفرا * وأصحابه أو عاق ذلك شاغب

ونعلم، أبيت اللعن أنك ماجد * كريم فلا يشقى إليك المجانب

ونعلم بأن الله زادك بسطة * وأسباب خير كلها بك لازب

وقال يونس: عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: إنما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان رضي الله عنه، والمشهور: أن جعفرا هو المترجم رضي الله عنهم.

وقال زياد البكائي: عن ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور.

ورواه أبو داود، عن محمد بن عمرو الرازي، عن سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق به: لما مات النجاشي رضي الله عنه كنا نتحدث أنه لا يزال يُرى على قبره نور.

وقال زياد: عن محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن محمد، عن أبيه.

قال: اجتمعت الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك فارقت ديننا، وخرجوا عليه، فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيأ لهم سفنا.

وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا.

ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفوا له.

فقال: يا معشر الحبشة ألست أحق الناس بكم؟

قالوا: بلى!

قال: فكيف أنتم بسيرتي فيكم؟

قالوا: خير سيرة.

قال: فما بكم؟

قالوا: فارقت ديننا، وزعمت: أن عيسى عبده ورسوله.

قال: فما تقولون أنتم في عيسى؟

قالوا: نقول: هو ابن الله..

فقال النجاشي - ووضع يده على صدره على قبائه -: وهو يشهد أن عيسى بن مريم لم يزد على هذا، وإنما يعني على ما كتب فرضوا وانصرفوا.

فبلغ رسول الله ، فلما مات النجاشي صلى عليه واستغفر له.

وقد ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكـَّبر أربع تكبيرات.

وقال البخاري: موت النجاشي: حدثنا أبو الربيع، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر قال: قال رسول الله - حين مات النجاشي -: «مات اليوم رجل صالح، فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة».

وروى ذلك من حديث أنس بن مالك، وابن مسعود وغير واحد، وفي بعض الروايات تسميته أصحمة، وفي رواية مصحمة وهو أصحمة بن بحر، وكان عبدا صالحا لبيبا زكيا، وكان عادلا عالما رضي الله عنه وأرضاه.

وقال يونس عن ابن إسحاق: اسم النجاشي مصحمة وفي نسخة صححها البيهقي: أصحم - وهو بالعربية -: عطية.

قال: وإنما النجاشي اسم الملك: كقولك: كسرى، هرقل.

قلت: كذا ولعله يريد به قيصر، فإنه علم لكل من ملك الشام مع الجزيرة من بلاد الروم، وكسرى علم على من ملك الفرس، وفرعون علم لمن ملك مصر كافة، والمقوقس لمن ملك الإسكندرية وتبع لمن ملك اليمن والشحر، والنجاشي لمن ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك اليونان وقيل: الهند وخاقان لمن ملك الترك.

وقال بعض العلماء: إنما صلى عليه لأنه كان يكتم إيمانه من قومه، فلم يكن عنده يوم مات من يصلي عليه فلهذا صلى عليه .

قالوا: فالغايب إن كان قد صلي عليه ببلده لا تشرع الصلاة عليه ببلد أخرى، ولهذا لم يصل النبي في غير المدينة، لا أهل مكة ولا غيرهم، وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة لم ينقل أنه صلى على أحد منهم في غير البلدة التي صلى عليه فيها، فالله أعلم.

قلت: وشهود أبي هريرة رضي الله عنه الصلاة على النجاشي، دليل على أنه إنما مات بعد فتح خيبر التي قدم بقية المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يوم فتح خيبر، ولهذا روى أن النبي قال: «والله ما أدري بأيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر بن أبي طالب».

وقدموا معهم بهدايا وتحف من عند النجاشي رضي الله عنه إلى النبي وصحبتهم أهل السفينة اليمنية أصحاب أبي موسى الأشعري وقومه من الأشعريين رضي الله عنهم، ومع جعفر وهدايا النجاشي ابن أخي النجاشي: ذونخترا أو ذومخمرا أرسله ليخدم النبي عوضا عن عمه رضي الله عنهما وأرضاهما.

وقال السهيلي: توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة، وفي هذا نظر والله أعلم.

وقال البيهقي: أنبأنا الفقيه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الطوسي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا هلال بن العلاء الرقي، حدثنا أبي العلاء بن مدرك، حدثنا أبو هلال بن العلاء، عن أبيه، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله فقام يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.

فقال: «إنهم كانوا لأصحابي مكرمين وإني أحب أن أكافيهم».

ثم قال: وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصبهاني: أنبأنا أبو سعيد بن الأعرابي، حدثنا هلال بن العلاء، حدثنا أبي، حدثنا طلحة بن زيد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي قتادة قال: قدم وفد النجاشي على رسول الله فقام رسول الله يخدمهم، فقال أصحابه: نحن نكفيك يا رسول الله.

فقال: «إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين وإني أحب أن أكافيهم».

تفرد به طلحة بن زيد عن الأوزاعي.

وقال البيهقي: حدثنا أبو الحسين بن بشران، حدثنا أبو عمرو بن السماك، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا عمرو قال: لما قدم عمرو بن العاص من أرض الحبشة جلس في بيته فلم يخرج إليهم، فقالوا: ما شأنه ماله لا يخرج؟

فقال عمرو: إن أصحمة يزعم أن صاحبكم نبي.

قال ابن إسحاق: ولما قدم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة على قريش، ولم يدركوا ما طلبوا من أصحاب رسول الله ، وردَّهم النجاشي بما يكرهون، وأسلم عمر بن الخطاب وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول الله وبحمزة حتى غاظوا قريشا، فكان عبد الله بن مسعود يقول:

ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.

قلت: وثبت في (صحيح البخاري) عن ابن مسعود أنه قال: ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب.

وقال زياد البكائي: حدثني مسعر بن كدام عن سعد بن إبراهيم قال: قال ابن مسعود: إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا وما نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم عمر قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه.

قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله إلى الحبشة.

قال ابن إسحاق: حدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة قالت: والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر في بعض حاجتنا، إذ أقبل عمر فوقف علي وهو على شركه، فقالت: وكنا نلقى منه أذى لنا وشدة علينا، قالت: فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟

قلت: نعم! والله لنخرجن في أرض من أرض الله إذ آذيتمونا وقهرتمونا؟ حتى يجعل الله لنا مخرجا.

قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه - فيما أرى -خروجنا.

قالت: فجاء عامر بحاجتنا تلك، فقلت له: يا أبا عبد الله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا.

قال: أطمعت في إسلامه؟

قالت: قلت: نعم!

قال: لا يسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.

قالت: يأسا منه لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.

قلت: هذا يردُّ قول من زعم أنه كان تمام الأربعين من المسلمين؛ فإن المهاجرين إلى الحبشة كانوا فوق الثمانين اللهم إلا أن يقال: إنه كان تمام الأربعين بعد خروج المهاجرين.

ويؤيد هذا ما ذكره ابن إسحاق ههنا في قصة إسلام عمر وحده رضي الله عنه، وسياقها فإنه قال: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل كانت قد أسلمت، وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر.

وكان نعيم بن عبد الله النحام رجل من بني عدي قد أسلم أيضا، مستخفيا بإسلامه فرقا من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله ورهطا من أصحابه فذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا، وهم قريب من أربعين من بين رجال ونساء ومع رسول الله عمه حمزة، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، في رجال من المسلمين ممن كان أقام مع رسول الله بمكة، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر؟

قال: أريد محمدا هذا الصابي الذي فرق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسبَّ آلهتها فأقتله.

فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.

قال: وأي أهل بيتي؟

قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما، فرجع عمر عائدا إلى أخته فاطمة وعندها خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقريها إياها، فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب في مخدع لهم - أو في بعض البيت - وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى الباب قراءة خباب عليها، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟

قالا له: ما سمعت شيئا.

قال: بلى، والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد.

فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع وارعوى، وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي كنتم تقرؤن آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمدا؟ وكان عمر كاتبا، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها.

قال: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي إنك نجْس، على شركك، وإنه لا يمسَّه إلا المطهرون.

فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها (طه) فقرأها فلما قرأ منها صدرا قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.

فلما سمع ذلك خباب بن الأرت خرج إليه فقال له: والله يا عمر إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ؛ فإني سمعته أمس وهو يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» فالله الله يا عمر.

فقال له عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم.

فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله وأصحابه، فضرب عليهم الباب فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله فنظر من خلل الباب؛ فإذا هو بعمر متوشح بالسيف، فرجع إلى رسول الله وهو فزع فقال: يا رسول الله هذا عمر بن الخطاب متوشحا بالسيف.

فقال حمزة: فائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه.

فقال رسول الله : «ايذن له». فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله حتى لقيه في الحجرة، فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة فقال: «ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة».

فقال عمر: يا رسول الله جئتك لأومن بالله ورسوله، وبما جاء من عند الله.

قال: فكبر رسول الله تكبيرة فعرف أهل البيت أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب رسول الله من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله ، وينتصفون بهما من عدوهم.

قال ابن إسحاق: فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن إسلام عمر حين أسلم رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن أصحابه: عطاء، ومجاهد، وعمن روى ذلك أن إسلام عمر فيما تحدثوا به عنه أنه كان يقول: كنت للإسلام مباعدا، وكنت صاحب خمر في الجاهلية أحبها وأشربها.

وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزورة، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك فلم أجد فيه منهم أحدا، فقلت: لو أني جئت فلانا الخمار لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها، فخرجت فجئته فلم أجده قال: فقلت: لو أني جئت الكعبة فطفت سبعا أو سبعين.

قال: فجئت المسجد؛ فإذا رسول الله قائم يصلي، وكان إذا صلى استقبل الشام، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، وكان مصلاه بين الركنين الأسود واليماني.

قال: فقلت حين رأيته: والله لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فقلت: لئن دنوت منه لأستمع منه لأروعنه، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابها، فجعلت أمشي رويدا ورسول الله قائم يصلي يقرأ القرآن، حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة.

قال: فلما سمعت القرآن رق له قلبي وبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل في مكاني قائما حتى قضى رسول الله صلاته، ثم انصرف، وكان إذا انصرف خرج على دار ابن أبي حسين - وكان مسكنه في الدار الرقطاء التي كانت بيد معاوية -.

قال عمر: فتبعته حتى إذا دخل بين دار عباس، ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع حسي عرفني فظن أني إنما اتبعته لأوذيه، فنهمني ثم قال: ما جاء بك يا ابن الخطاب هذه الساعة؟

قال: قلت جئت لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.

قال: فحمد الله رسول الله ثم قال: «قد هداك الله يا عمر» ثم مسح صدري، ودعا لي بالثبات، ثم انصرفت ودخل رسول الله بيته.

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان.

قلت: وقد استقصيت كيفية إسلام عمر رضي الله عنه وما ورد في ذلك من الأحاديث والآثار مطولا في أول سيرته التي أفردتها على حدة، ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟

فقيل له: جميل بن معمر الجمحي فغدا عليه.

قال عبد الله بن عمر: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل - وأنا غلام أعقل كما رأيت - حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت، ودخلت في دين محمد ؟

قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه واتبعه عمر، واتبعته أنا حتى قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش - وهم في أنديتهم حول الكعبة - ألا إن ابن الخطاب قد صبا.

قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم.

قال: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف بالله أن لو قد كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا..

قال: فبينما هم على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم، فقال: ما شأنكم؟

فقالوا: صبأ عمر.

قال: فمه؟ رجل اختار لنفسه أمرا فماذا تريدون؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا؟ خلوا عن الرجل.

قال: فوالله لكأنما كانوا ثوبا كشط عنه.

قال: فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبة من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟

قال: ذاك أي بني العاص بن وائل السهمي.

وهذا إسناد جيد قوي، وهو يدل على تأخر إسلام عمر؛ لأن ابن عمر عرض يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة وكانت أحد في سنة ثلاث من الهجرة، وقد كان مميزا يوم أسلم أبوه، فيكون إسلامه قبل الهجرة بنحو من أربع سنين، وذلك بعد البعثة بنحو تسع سنين والله أعلم.

وقال البيهقي: حدثنا الحاكم، أخبرنا الأصم، أخبرنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس، عن ابن إسحاق قال: ثم قدم على رسول الله عشرون رجلا وهو بمكة - أو قريب من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره من أرض الحبشة، فوجدوه في المجلس، فكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة.

فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله عما أرادوا، دعاهم رسول الله إلى الله عز وجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع، ثم استجابوا له وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.

فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش فقال: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم - أو كما قال -: قالوا لهم: لا نجاهلكم سلام عليكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألون أنفسنا خيرا.

فيقال: إن النفر من نصارى نجران، والله أعلم أي ذلك كان.

ويقال: والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات { الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤن بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون * وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين }.

فصل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي

قال البيهقي في (الدلائل): باب ما جاء في كتاب النبي إلى النجاشي، ثم روى عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن ابن إسحاق قال: «هذا كتاب من رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولدا، وأن محمدا عبده ورسوله وأدعوك بدعاية الله فإني أنا رسوله فأسلم تسلم.

{ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك».

هكذا ذكره البيهقي بعد قصة هجرة الحبشة وفي ذكره ههنا نظر، فإن الظاهر أن هذا الكتاب إنما هو إلى النجاشي الذي كان بعد المسلم صاحب جعفر وأصحابه، وذلك حين كتب إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله عز وجل قبيل الفتح، كما كتب إلى هرقل عظيم الروم قيصر الشام، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى صاحب مصر، وإلى النجاشي.

قال الزهري: كانت كتب النبي إليهم واحدة؛ يعني نسخة واحدة، وكلها فيها هذه الآية وهي من سورة آل عمران، وهي مدنية بلا خلاف فإنه من صدر السورة، وقد نزل ثلاث وثمانون آية من أولها في وفد نجران كما قررنا ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.

فهذا الكتاب إلى الثاني لا إلى الأول، وقوله فيه إلى النجاشي الأصحم لعل الأصحم مقحم من الراوي بحسب ما فهم، والله أعلم.

وأنسب من هذا ههنا ما ذكره البيهقي أيضا عن الحاكم، عن أبي الحسن محمد بن عبد الله الفقيه - بمرو - حدثنا حماد بن أحمد، حدثنا محمد بن حميد، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: بعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخته، كما خلق آدم بيده ونفخه.

وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين فإذا جاؤوك فأقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى»..

فكتب النجاشي إلى رسول الله : بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم بن أبجر، سلام عليك يا نبي الله من الله ورحمة الله وبركاته لا إله إلا هو الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت.

وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقا ومصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله رب العالمين.

وقد بعثت إليك يا نبي الله بأربحا بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن ما تقول حق».

فصل ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وعبد المطلب في نصر رسول الله

في ذكر مخالفة قبائل قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله وتحالفهم فيما بينهم عليهم، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم حتى يسلِّموا إليهم رسول الله ، وحصرهم إياهم في شعب أبي طالب مدة طويلة، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق.

قال موسى بن عقبة عن الزهري: ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، وجمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله علانية.

فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله شعبهم، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله.

فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم، فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا.

فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله ، وأجمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلَّموا رسول الله للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق لا يقبلوا من بني هاشم صلحا أبدا، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل.

فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه، فاشتروه

يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله .

فكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم أمر رسول الله فاضطجع على فراشه حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له، فإذا نام الناس أمر أحد بنيه أو أخوته أو بني عمه فاضطجعوا على فراش رسول الله ، وأمر رسول الله أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه.

فلما كان رأس ثلاث سنين تلاوم رجال من بني عبد مناف ومن قصي ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم واستخفوا بالحق، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من الغدر والبراءة منه، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق.

ويقال: كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم، فذكر ذلك رسول الله لأبي طالب.

فقال أبو طالب: لا والثواقب ما كذبني، فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب حتى أتى المسجد، وهو حافل من قريش، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم أنكروا ذلك، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء، فأتوهم ليعطوهم رسول الله .

فتكلم أبو طالب فقال: قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها فعلَّه أن يكون بيننا وبينكم صلح، وإنما قال ذلك خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها لا يشكون أن رسول الله مدفوعا إليهم فوضعوها بينهم وقالوا: قد آن لكم أن تقبلوا وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم؛ فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم.

فقال أبو طالب: إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نَصَفٌ إن ابن أخي أخبرني - ولم يكذبني - إن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم، ومحا كل اسم هو له فيها، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا وتظاهركم علينا بالظلم، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي كما قال فأفيقوا فوالله لا نسلمه أبدا حتى يموت من عندنا آخرنا، وإن كان الذي قال باطلا دفعناه إليكم فقتلتموه أو استحييتم.

قالوا: قد رضينا بالذي تقول، ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر خبرها، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا: والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم، فارتكسوا وعادوا بشرِّ ما كانوا عليه من كفرهم، والشدة على رسول الله وعلى المسلمين، والقيام على رهطه بما تعاهدوا عليه.

فقال: أولئك النفر من بني عبد المطلب: إن أولى بالكذب والسحر غيرنا فكيف ترون فإنا نعلم إن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا، ولولا إنكم اجتمعتم على السحر لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم طمس الله ما كان فيها من اسمه وما كان فيها من بغي تركه أفنحن السحرة أم أنتم؟

فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم

منهم: أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وهشام بن عمرو، وكانت الصحيفة عنده وهو - من بني عامر بن لؤي - في رجال من أشرافهم ووجوههم: نحن برءاء مما في هذه الصحيفة.

فقال أبو جهل لعنه الله: هذا أمر قضى بليل وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ويمدح النفر الذين تبرؤا منها ونقضوا ما كان فيها من عهد ويمتدح النجاشي.

قال البيهقي: وهكذا روى شيخنا أبو عبد الله الحافظ - يعني من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير - يعني كسياق موسى بن عقبة رحمه الله - وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال: إنما كانت هجرة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله لهم في ذلك فالله أعلم.

قلت: والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية التي قدمنا ذكرها بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها ههنا أنسب والله أعلم.

ثم روى البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إسحاق. قال: لما مضى رسول الله على الذي بعث به وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه وأبوا أن يسلموه وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه إلا أنهم اتقوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه.

فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم وكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد عليهم البلاء وعظمت الفتنة وزلزلوا زلزالا شديدا.

ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع حتى كره عامة قريش ما أصابهم وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله فأخبر بذلك عمه أبو طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية موسى بن عقبة وأتم..

وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق: فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة مع رسول الله وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل فاجتمعوا وائتمروا على أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم.

فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم، وكان كاتب الصحيفة: منصور ابن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

قال ابن هشام: ويقال: النضر ابن الحارث، فدعا عليه رسول الله فشل بعض أصابعه.

وقال الواقدي: كان الذي كتب الصحيفة: طلحة بن أبي طلحة العبدوي.

قلت: والمشهور أنه: منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق، وهو الذي شلت يده فما كان ينتفع بها وكانت قريش تقول بينها: أنظروا إلى منصور بن عكرمة.

قال الواقدي: وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة.

قال ابن إسحاق: فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا إليه، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم.

وحدثني حسين بن عبد الله: أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة، حين فارق قومه، وظاهر عليهم قريشا.

فقال: يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى وفارقت من فارقها وظاهر عليها؟

قالت: نعم! فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة.

قال ابن إسحاق: وحدثت أنه كان يقول - في بعض ما يقول - يعدني محمد أشياء لا أراها يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يدي بعد ذلك، ثم ينفخ في يديه فيقول: تبا لكما لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد.

فأنزل الله تعالى: { تبت يدا أبي لهب وتب }.

قال ابن إسحاق: فلما اجتمعت على ذلك قريش وصنعوا فيه الذي صنعوا قال أبو طالب:

ألا أبلِغا عني على ذاتِ بيننا * لؤيا وخُصَّا من لؤي بني كعب

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خطَّ في أول الكتب

وأن عليه في العباد محبة * ولا خير ممن خصَّه الله بالحب

وأن الذي الصقتموا من كتابكم * لكم كائنٌ نحسا كراغيةِ السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن يحُفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب

ولا تتبعوا أمرَ الوشاة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حربا عوانا وربما * أمرَّ على من ذاقه حلب الحرب

فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا * لعزَّاء من عض الزمان ولا كرب

ولما تَبِن منا ومنكم سوالفٌ * وأيدٍ أترَّتْ بالقساسية الشهب

بمعتركِ ضيقٍ ترى كسر القنا * به والنسور الطخم يعكفن كالشرب

كأن مجال الخيل في حجراته * ومعمعة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره * وأوصى بنيه بالطِّعان وبالضرب

ولسنا نملُّ الحرب حتى تملنا * ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى * إذا طار أرواحُ الكماةِ من الرعب

قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا ولم يصل إليهم شيء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش، وقد كان أبو أجهل بن هشام - فيما يذكرون - لقي حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد، وهي عند رسول الله في الشعب فتعلق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ والله لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة، فجاءه أبو البختري بن هشام بن الحارث بن أسد.

فقال: مالك وله.

فقال: يحمل الطعام إلى بني هاشم.

فقال له أبو البختري: طعام كان لعمته عنده بعثت به إليه أتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلِّ سبيل الرجل.

قال: فأبى أبو جهل - لعنه الله - حتى نال أحدهما من صاحبه، فأخذ أبو البختري لحى بعير فضربه فشجه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله وأصحابه فيشمتون بهم ورسول الله على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا سرا وجهارا مناديا بأمر الله تعالى لا يتقي فيه أحدا من الناس..

المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم

فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.

فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } السورة بكاملها فيه.

والعاص بن وائل ونزول قوله: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } 45 فيه.

وقد تقدم شيء من ذلك.

وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي : لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد.

ونزول قول الله فيه: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ } 46 الآية.

والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها.

فأنزل الله تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } 47

وقوله: { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } 48.

قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله - فيما بلغنا - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله فعرض له النضر فكلَّمه رسول الله حتى أفحمه.

ثم تلا عليه وعليهم: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } 49.

ثم قام رسول الله وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس.

فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم..

فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده؟

فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى.

فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله .

فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته».

فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } 50 أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.

ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } 51 والآيات بعدها.

ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } 52 وهذا الجدل الذي سلكوه باطل.

وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيرا، ولا أحدا من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.

فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.

ثم قال: { إِنْ هُوَ } أي عيسى { إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي بنبوتنا { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة { وَرَحْمَةً مِنَّا } نرحم بها من نشاء.

وذكر ابن إسحاق: الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } 53 الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين.

ونزول قوله فيه: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } 54 والتي بعدها.

وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا؟ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -..

فأنزل الله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانا خَلِيلا } 55 والتي بعدها.

قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم.

فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله .

فقال: نعم! أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار.

وأنزل الله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } 56 إلى آخر السورة.

قال: واعترض رسول الله - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم.

فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.

فأنزل الله فيهم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } إلى آخرها.

ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم.

قال: أتدرون ما الزقوم؟ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال: هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى: { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ } 57.

قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسول الله ورسول الله يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الأعمى فكلم رسول الله وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره.

وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه فأنزل الله تعالى: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } إلى قوله { مرفوعة مطهرة } وقد قيل: إن الذي كان يحدث رسول الله حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم..

ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في (الصحيح) وغيره أن رسول الله : جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه: { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم } يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد.

فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } 58.

وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في (الصحيح).

قال البخاري: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس.

قال: سجد النبي بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس انفرد به البخاري دون مسلم.

وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله.

قال: قرأ النبي والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه.

قال: قرأ رسول الله بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرأها إلا سجد معه.

وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.

وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم.

والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها..

فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم؛ عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد بن حرملة.

وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة، وشماس بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا بمكة حتى مضت بدرا وأحدا والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا -.

ومعتب ابن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة.

وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا - وأبو سبرة بن أبي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم.

وقال البخاري: وقالت عائشة قال رسول الله : «أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين»..

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.

وفيه: عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في (الصحيحين)، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.

قال: كنا نسلِّم على النبي وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله: إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا؟

قال: «إن في الصلاة شغلا».

وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في (الصحيحين) كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } 59 فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.

على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.

وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وكان ممن دخل منهم بجوار؛ فيمن سمي لنا: عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب.

فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان.

قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.

قال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي.

فقال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.

قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية.

قال: فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري..

قال: صدق، قد وجدته وفيَّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.

ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *

فقال عثمان: صدقت.

فقال لبيد:

وكل نعيم لا محالة زائل *

فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.

فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟

فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان.

فقال: والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.

قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس.

فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد.

قال: لا!

قال ابن إسحاق: وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له: يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟

قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب.

فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد.

قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.

وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله ، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله :

إن امرءا أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يُسامُ المظالما

أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما

ولا تقبلنَّ الدهر ما عشتَ خطة * تسب بها إمَّا هبطت المواسما

وولِّ سبيل العجزِ غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما

وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما

وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما

جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما

بتفريقهم من بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جماعتنا كيما ينالوا المحارما

كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما

قال ابن هشام: وبقي منها بيت تركناه.

عزم الصديق على الهجرة إلى الحبشة

قال ابن إسحاق: وقد كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - كما حدثني محمد بن مسلم ابن شهابالزهري عن عروة عن عائشة، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله وأصحابه ما رأى، استأذن رسول الله في الهجرة فأذن له، فخرج أبو بكر رضي الله عنه مهاجرا، حتى إذا سار من مكة يوما - أو يومين - لقيه ابن الدغنة أخو بني الحارث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش.

قال الواقدي: اسمه الحارث بن يزيد أحد بني بكر من عبد مناة بن كنانة.

وقال السهيلي: اسمه مالك.

فقال: إلى أين يا أبا بكر؟

قال: أخرجني قومي وآذوني وضيقوا علي.

قال: ولم؟ فوالله إنك لتزين العشيرة، وتعين على النوائب، وتفعل المعروف وتكسب المعدوم، ارجع فإنك في جواري.

فرجع معه حتى إذا دخل مكة قام معه ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إني قد أجرت ابن أبي قحافة فلا يعرض له أحد إلا بخير.

قال: فكفوا عنه.

قالت: وكان لأبي بكر مسجد عند باب داره في بني جمح فكان يصلي فيه، وكان رجلا رقيقا إذا قرأ القرآن استبكى قالت: فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته، قالت: فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة..

فقالوا له: يا ابن الدغنة إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا، إنه رجل إذا صلى وقرأ ما جاء به محمد يرق وكانت له هيئة ونحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفائنا أن يفتنهم فأته فمره بأن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء

قالت: فمشى ابن الدغنة إليه فقال له: يا أبا بكر، إني لم أجرك لتؤذي قومك.

وقد كرهوا مكانك الذي أنت به، وتأذوا بذلك منك، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.

قال: أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله.

قال: فأردد علي جواري.

قال: قد رددته عليك.

قال: فقام ابن الدغنة فقال: يا معشر قريش، إن ابن أبي قحافة قد رد علي جواري فشأنكم بصاحبكم.

وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث متفردا به وفيه زيادة حسنة.

فقال: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية.

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد، لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟

فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي.

فقال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج مثله، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وأنا لك جار فارجع، فاعبد ربك ببلدك.

فرجع وارتحل معه ابن الدغنة، وطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟ فلم يكذب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره ويصلِّ فيها وليقرأ ما شاء، ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا.

فقال ابن الدغنة: ذلك لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره.

ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرزوكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه..

وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم.

فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره، فأعلن في الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتتن أبناؤنا ونساؤنا فإنه فإن أحب على أن يقتصر أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد عليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان.

قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي قد عاقدت عليه قريش فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترد إلى ذمتي، فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له.

فقال أبو بكر: فإني أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله عز وجل.

ثم ذكر تمام الحديث في هجرة أبي بكر رضي الله عنه مع رسول الله كما سيأتي مبسوطا.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: لقيه - يعني أبا بكر الصديق - حين خرج من جوار ابن الدغنة - سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا، فمرَّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة - أو العاص بن وائل - فقال له أبو بكر رضي الله عنه: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟

فقال: أنت فعلت ذلك بنفسك.

قال: وهو يقول أي رب ما أحلمك.

أي رب ما أحلمك.

أي رب ما أحلمك.

فصل تعليق على القصص

كل هذه القصص ذكرها ابن إسحاق معترضا بها بين تعاقد قريش على بني هاشم وبني المطلب وكتابتهم عليهم الصحيفة الظالمة وحصرهم إياهم في الشعب، وبين نقض الصحيفة وما كان من أمرها: وهي أمور مناسبة لهذا الوقت، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: من أراد المغازي فهو عيال على ابن إسحاق. نقض الصحيفة

قال ابن إسحاق: هذا وبنو هاشم وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم أنه قام في نقض تلك الصحيفة نفر من قريش، ولم يبل فيها أحدا أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن جذيمةبن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، وكان هشام لبني هاشم واصلا..

وكان ذا شرف في قومه، فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير، وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا قد أوقره طعاما، حتى إذا بلغ به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبيه، فدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزا فيفعل به مثل ذلك، ثم أنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب.

فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام، وتلبس الثياب، وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم، ما أجابك إليه أبدا.

قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها.

قال: قد وجدت رجلا، قال من هو؟

قال: أنا.

قال له زهير: أبغنا ثالثا، فذهب إلى المطعم بن عدي

فقال له: يا مطعم، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه، أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا، قال: ويحك فماذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد، قال: قد وجدت لك ثانيا.

قال: من؟ قال أنا.

قال: أبغنا ثالثا.

قال: قد فعلت.

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أمية.

قال: أبغنا رابعا، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال لهنحو ما قال للمطعم بن عدي.

فقال: وهل تجد أحدا يعين على هذا؟

قال: نعم!

قال: من هو؟

قال: زهير بن أبي أمية والمطعم بن عدي وأنا معك.

قال: أبغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه، وذكر له قرابتهم وحقهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟

قال: نعم ثم سمى القوم.

فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلا مكة فاجتمعوا هنالك، وأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها.

وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.

فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ثم أقبل على الناس.

فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل: - وكان في ناحية المسجد - والله لا تشق.

قال: زمعة بن الأسود أنت والله أكذب، ما رضينا كتابها حين كتبت.

قال أبو البختري: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به.

قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها.

قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.

قال أبو جهل: هذا أمر قد قضي بليلٍ، تشور فيه بغير هذا المكان، قال: وأبو طالب جالس في ناحية المسجد وقام المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا باسمك اللهم، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده فيما يزعمون.

قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله قال لأبي طالب: «يا عم إن الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان».

فقال: أربك أخبرك بهذا؟

قال: «نعم!».

قال: فوالله ما يدخل عليك أحد.

ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش، إن ابن أخي قد أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عنها، وإن كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي.

فقال القوم: قد رضينا فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا فإذا هي كما قال رسول الله فزادهم ذلك شرا، فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.

قال ابن إسحاق: فلما مزقت وبطل ما فيها، قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك القوم الذين قاموا في نقض الصحيفة يمدحهم:

ألا هل أتى بحريَّنا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أروَدُ

فيخبرهم أن الصحيفة مزِّقت * وأن كل ما لم يرضه الله مفسد

تراوحها إفك وسحر مجمَّع * ولم يلف سحرا آخرَ الدهر يصعد

تداعى لها من ليس فيها بقرقرٍ * فطائرها في رأسها يتردد

وكانت كفاء وقعة باثيمةٍ * ليقطع منها ساعدٌ ومقلد

ويظعن أهل المكَّتين فيهربوا * فرائصهم من خشية الشر تُرعد

ويترك حراثٌ يقلب أمره * أيتهم فيها عند ذلك وينجد

وتصعد بين الأخشبين كتيبة * لها حدج سهم وقوس ومرهد

فمن ينش من حضّار مكةَ عزةً * فعزتنا في بطن مكة أتلد

نشأنا بها والناس فيها قلائل * فلم ننفكك نزدادُ خيرا ونحمد

ونطعم حتى يترك الناس فضلهم * إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد

جزى الله رهطا بالحجون تجمعوا * على ملأٍ يهدي لحزمٍ ويرشد

قعودا لذي حطم الحجون كأنهم * مقاولةٌ بل هم أعز وأمجد

أعان عليها كل صقر كأنه * إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد

جريءٌ على جل الخطوب كأنه * شهاب بكفي قابسٍ يتوقد

من الأكرمين من لؤي بن غالب * إذا سيم خسفا وجهه يتربد

طويلُ النجاد خارجٌ نصف ساقه * على وجهه يسقي الغمام ويسعد

عظيم الرماد سيدٌ وابن سيد * يحضُّ على مقري الضيوف ويحشد

ويبني لأبناءِ العشيرة صالحا * إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد

ألظَّ بهذا الصلح كل مبرأ * عظيم اللواء أمره ثم يحمد

قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا * على مهلٍ وسائر الناس رقد

هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا * وسُرَّ أبو بكر بها ومحمد

متى شرك الأقوام في حل أمرنا * وكنا قديما قبلها نتودد

وكنا قديما لا نقر ظلامة * وندرك ما شئنا ولا نتشدد

فيالَ قصي هل لكم في نفوسكم * وهل لكم فيما يجيء به غد

فإني وإياكم كما قال قائلٌ * لديك البيان لو تكلمت أسود

قال السهيلي: أسود اسم جبل قتل به قتيل ولم يعرف قاتله

فقال أولياء المقتول: لديك البيان لو تكلمت أسود أي يا أسود لو تكلمت لأبنت لنا عمن قتله.

ثم ذكر ابن إسحاق شعر حسان يمدح المطعم بن عدي وهشام بن عمرو لقيامهما في نقض الصحيفة الظالمة الفاجرة الغاشمة.

وقد ذكر الأموي ههنا أشعارا كثيرة اكتفينا بما أورده ابن إسحاق.

وقال الواقدي: سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز متى خرج بنو هاشم من الشعب؟

قالا: في السنة العاشرة - يعني من البعثة - قبل الهجرة بثلاث سنين..

قلت: وفي هذه السنة بعد خروجهم توفي أبو طالب عم رسول الله وزوجته خديجة بنت خويلد رضي الله عنها كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.

فصل ذكر عداوة قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة

وقد ذكر محمد بن إسحاق - رحمه الله - بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله ، وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه، وإظهار الله المعجزات على يديه دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى، وتكذيبنا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول، والله غالب على أمره.

فذكر قصة الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة، وكان سيدا مطاعا شريفا في دوس، وكان قد قدم مكة فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله ونهوه أن يجتمع به أو يسمع كلامه، قال: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمعه.

قال: فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله قائم يصلي عند الكعبة، قال: فقمت منه قريبا فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله، قال: فسمعت كلاما حسنا، قال: فقلت في نفسي واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول! فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته، وإن كان قبيحا تركته.

قال: فمكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته فاتبعته حتى إذا دخل بيته دخلت عليه

فقلت: يا محمد، إن قومك قالوا لي كذا وكذا - الذي قالوا -.

قال: فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليَّ أمرك.

قال: فعرض عليَّ رسول الله الإسلام وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرا أعدل منه.

قال: فأسلمت وشهدت شهادة الحق.

وقلت: يا نبي الله إني امرؤ مطاع في قومي، وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه.

قال: فقال: «اللهم اجعل له آية».

قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر، وقع بين عيني نور مثل المصباح.

قال: فقلت: اللهم في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم.

قال: فتحول فوقع في رأس سوطي..

قال: فجعل الحاضرون يتراؤن ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أتهبط عليهم من الثنية، حتى جئتهم فأصبحت فيهم، فلما نزلت أتاني أبي - وكان شيخا كبيرا -.

فقلت: إليك عني يا أبة فلست منك ولست مني.

قال: ولم يا بني؟

قال: قلت: أسلمت وتابعت دين محمد .

قال: أي بني فدينك ديني.

فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت.

قال: فذهب فاغتسل وطهر ثيابه، ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.

قال: ثم أتتني صاحبتي.

فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني.

قالت: ولم؟ بأبي أنت وأمي.

قال: قلت: قد فرق بيني وبينك الإسلام، وتابعت دين محمد .

قالت: فديني دينك.

قال: فقلت: فاذهبي إلى حمى ذي الشرى فتطهري منه، وكان ذو الشرى صنما لدوس وكان الحمى حمى حموه حوله به وشل من ماء يهبط من جبل.

قالت: بأبي أنت وأمي أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا؟

قلت: لا، أنا ضامن لذلك.

قال: فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطؤا عليّ، ثم جئت رسول الله بمكة.

فقلت له: يا رسول الله: إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم.

قال: «اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم».

قال: فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله بمن أسلم معي من قومي ورسول الله بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين - أو ثمانين بيتا - من دوس فلحقنا برسول الله بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.

ثم لم أزل مع رسول الله حتى فتح الله عليه مكة.

فقلت يا رسول الله: ابعثني إلى ذي الكفين، صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.

قال ابن إسحاق: فخرج إليه فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار يقول:

ياذا الكفين لست من عبادكا * ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حشوت النار في فؤادكا

قال: ثم رجع إلى رسول الله فكان معه بالمدينة حتى قبض رسول الله .

فلما أرتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل..

فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق، وأنه خرج من فمي طائر، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ثم رأيته حبس عني؟

قالوا: خيرا.

قال: أما أنا والله فقد أولتها.

قالوا: ماذا؟

قال: أما حلق رأسي: فوضعه، وأما الطائر الذي خرج منه: فروحي، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها: فالأرض تحفر لي فأغيب فيها، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني: فإني أراه سيجتهد أن يصيبه ما أصابني.

فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة، ثم استبل منها ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله.

هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد، ولخبره شاهد في الحديث الصحيح.

قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: لما قدم الطفيل وأصحابه على رسول الله قال: إن دوسا قد استعصت قال: «اللهم اهد دوسا وائت بهم» رواه البخاري عن أبي نعيم عن سفيان الثوري.

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أنبأنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه.

فقالوا: يا رسول الله إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها.

قال أبو هريرة: فرفع رسول الله يديه فقلت: هلكت دوس.

فقال: «اللهم اهد دوسا، وائت بهم»، إسناد جيد ولم يخرجوه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر: أن الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي فقال: يا رسول الله هل لك في حصن حصين ومنعة؟ - قال: حصن كان لدوس في الجاهلية - فأبى ذلك رسول الله للذي ذخر الله للأنصار.

فلما هاجر النبي إلى المدينة هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه فما رقأ الدم حتى مات.

فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة، ورآه مغطيا يديه.

فقال له: ما صنع ربك بك؟

فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه

قال: فما لي أراك مغطيا يديك؟

قال: قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت..

قال: فقصها الطفيل على رسول الله .

فقال رسول الله : «اللهم وليديه فاغفر».

رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به.

فإن قيل: فما الجمع بين هذا الحديث وبين ما ثبت في (الصحيحين) من طريق الحسن عن جندب قال:

قال رسول الله : «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع، فأخذ سكينا فحز بها يده فما رقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه فحرمت عليه الجنة».

فالجواب من وجوه؛ أحدها: أنه قد يكون ذاك مشركا وهذا مؤمن، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار وإن كان شركه مستقلا إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته.

الثاني: قد يكون هذاك عالما بالتحريم وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام.

الثالث: قد يكون ذاك فعله مستحلا له وهذا لم يكن مستحلا بل مخطئا.

الرابع: قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور أن يقتل نفسه بخلاف هذا فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه وإنما أراد غير ذلك.

الخامس: قد يكون هذاك قليل الحسنات فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور فدخل النار، وهذا قد يكون كثير الحسنات فقاومت الذنب فلم يلج النار بل غفر له بالهجرة إلى نبيه .

ولكن بقي الشين في يده فقط وحسنت هيئة سائره فغطى الشين منه فلما رآه الطفيل بن عمرو مغطيا يديه قال له: مالك؟

قال: قيل لي لن يصلح منك ما أفسدت.

فلما قصها الطفيل على رسول الله دعا له فقال: «اللهم وليديه فاغفر» أي: فأصلح منها ما كان فاسدا.

والمحقق أن الله استجاب لرسول الله في صاحب الطفيل بن عمرو.

قصة أعشى بن قيس

قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد السدوسي وغيره من مشايخ بكر بن وائل عن أهل العلم أن أعشى بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل خرج إلى رسول الله يريد الإسلام، فقال يمدح النبي :

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا * وبتَّ كما بات السليم مسهَّدا

وما ذاك من عشق النساء وإنما * تناسيت قبل اليوم خلَّة مهْددا

ولكن أرى الدهر الذي هو خائن * إذا أصلحت كفَّاي عاد فأفسدا

كهولا وشبَّانا فقدتُ وثروةً * فلله هذا الدهر كي ترددا

وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع * وليدا وكهلا حين شبْتُ وأمردا

وأبتذل العيس المراقيل تعتلي * مسافة ما بين النجير فصرخدا

ألا أيهذا السائلي أين يمَّمت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

فإن تسألي عني فيا ربَّ سائل * حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا

أجدتُ برجليها النجاد وراجعت * يداها خنافا ليِّنا غير أحردا

وفيها إذا ما هجَّرتْ عجرفيّةٌ * إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا

وآليت لا آوي لها من كلالةٍ * ولا من حفى حتى تلاقي محمدا

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم * تراحي وتلقي من فواضله ندى

نبي يرى ما لا ترون وذكره * أغار لعمري في البلاد وأنجدا

له صدقات ما تغبُّ ونائل * فليس عطاء اليوم مانعه غدا

أجدَّك لم تسمع وصاة محمدٍ * نبي الإله حيث أوصى وأشهدا

إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى * ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله * فترصد للأمر الذي كان أرصدا

فإياك والميتات لا تقربنَّها * ولا تأخذن سهما حديدا لتقصدا

وذا النصب المنصوب لا تنسكنَّه * ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا

ولا تقربنَّ جارة كان سرها * عليك حراما فانكحن أو تأبدا

وذا الرحم القربى فلا تقطعنَّه * لعاقبة ولا الأسير المقيدا

وسبِّح على حين العشية والضحى * ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا

ولا تسخرن من بائسٍ ذي ضرارة * ولا تحسبنَّ المال للمرء مخلدا

قال ابن هشام: فلما كان بمكة - أو قريب منها - اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله ليسلم.

فقال له: يا أبا بصير إنه يحرم الزنا.

فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب.

فقال: يا أبا بصير إنه يحرم الخمر.

فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في نفسي منها العلالات، ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي .

هكذا أورد ابن هشام هذه القصة ههنا وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله..

فإن الخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة بني النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك وهو قوله:

ألا أيها ذا السائلي أين يممت * فإن لها في أهل يثرب موعدا

وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هاهنا والله أعلم.

قال السهيلي: وهذه غفلة من ابن هشام ومن تابعه فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا في المدينة بعد أحد.

وقد قال: وقيل إن القائل للأعشى هو أبو جهل بن هشام في دار عتبة بن ربيعة.

وذكر أبو عبيدة أن القائل له ذلك: هو عامر بن الطفيل في بلاد قيس وهو مقبل إلى رسول الله قال: وقوله ثم آته فأسلم لا يخرجه عن كفره بلا خلاف والله أعلم.

ثم ذكر ابن إسحاق هاهنا قصة الأراشي وكيف استعدى إلى رسول الله من أبي جهل في ثمن الجمل الذي ابتاعه منه، وكيف أذل الله أبا جهل وأرغم أنفه حتى أعطاه ثمنه في الساعة الراهنة وقد قدَّمنا ذلك في ابتداء الوحي وما كان من أذية المشركين عند ذلك.

قصة مصارعة ركانة وكيف أراه صلى الله عليه وسلم الشجرة التي دعاها فأقبلت

قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار قال: وكان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشا فخلا يوما برسول الله في بعض شعاب مكة، فقال له رسول الله : «يا ركانة ألا تتقي الله وتقبل ما أدعوك إليه؟».

قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك.

فقال له رسول الله : «أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟».

قال: نعم!

قال: «فقم حتى أصارعك».

قال: فقام ركانة إليه فصارعه فلما بطش به رسول الله أضجعه لا يملك من نفسه شيئا ثم قال: عد يا محمد فعاد فصرعه.

فقال: يا محمد والله إن هذا للعجب، أتصرعني؟

قال رسول الله : «وأعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري»؟

قال: وما هو؟

قال: «أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني».

قال: فادعها..

فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله .

فقال لها: ارجعي إلى مكانك فرجعت إلى مكانها.

قال: فذهب ركانة إلى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى والذي صنع.

هكذا روى ابن إسحاق هذه القصة مرسلةً بهذا البيان.

وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن ركانة عن أبيه.

أن ركانة صارع النبي فصرعه النبي .

ثم قال الترمذي: غريب ولا نعرف أبا الحسن ولا ابن ركانة.

قلت: وقد روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن يزيد بن ركانة صارع النبي فصرعه النبي ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم فلما كان في الثالثة قال: يا محمد ما وضع ظهري إلى الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك.

وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقام عنه رسول الله وردَّ عليه غنمه.

وأما قصة دعائه الشجرة فأقبلت فسيأتي في كتاب (دلائل النبوة) بعد السيرة من طرق جيدة صحيحة في مرات متعددة إن شاء الله وبه الثقة.

وقد تقدم عن أبي الأشدين أنه صارع النبي فصرعه رسول الله .

ثم ذكر ابن إسحاق قصة قدوم النصارى من أهل الحبشة نحوا من عشرين راكبا إلى مكة فأسلموا عن آخرهم، وقد تقدم ذلك بعد قصة النجاشي ولله الحمد والمنة.

قال ابن إسحاق: وكان رسول الله إذا جلس في المسجد، يجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب، وعمار، وأبو فكيهة، يسار، مولى صفوان بن أمية، وصهيب، وأشباههم من المسلمين.

هزئت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصهم الله به دوننا.

فأنزل الله عز وجل فيهم: { وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ * وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ * وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } 60..

قال: وكان رسول الله كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له: جبر، عبد لبنى الحضرمي، وكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلاجبر، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم: { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ } 61.

ثم ذكر نزول (سورة الكوثر) في العاص بن وائل حين قال عن رسول الله إنه أبتر أي: لا عقب له فإذا مات انقطع ذكره.

فقال الله تعالى: { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أي: المقطوع الذكر بعده، ولو خلف ألوفا من النسل والذرية وليس الذكر والصيت ولسان صدق بكثرة الأولاد والأنسال والعقب، وقد تكلمنا على هذه السورة في التفسير ولله الحمد.

وقد روي عن أبي جعفر الباقر: أن العاص بن وائل إنما قال ذلك حين مات القاسم بن النبي ، وكان قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة.

ثم ذكر نزول قوله: { وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر } وذلك بسبب قول أبي بن خلف وزمعة بن الأسود والعاص ابن وائل والنضر بن الحارث: لولا أنزل عليك ملك يكلم الناس عنك.

قال ابن إسحاق: ومر رسول الله فيما بلغنا بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف وأبي جهل ابن هشام فهمزوه واستهزؤا به، فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى في ذلك من أمرهم: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن }.

قلت: وقال الله تعالى: { ولقد استهزئ برسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين }.

وقال تعالى: { إنا كفيناك المستهزئين }.

قال سفيان: عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.

قال: المستهزؤن: الوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والحارث بن عيطل، والعاص بن وائل السهمي.

فأتاه جبريل فشكاهم إليه رسول الله فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأشار جبريل إلى أنمله وقال: كفيته.

ثم أراه الأسود بن المطلب فأومأ إلى عنقه وقال: كفيته.

ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه وقال: كفيته.

ثم أراه الحارث بن عيطل فأومأ إلى بطنه وقال: كفيته.

ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه وقال: كفيته..

فأما الوليد: فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا له فأصاب أنمله فقطعها، وأما الأسود بن عبد يغوث: فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الأسود بن المطلب: فعمي.

وكان سبب ذلك أنه نزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد قتلت فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا.

وجعل يقول: يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت، ها هو ذا الطعن بالشوك في عيني.

فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه.

وأما الحارث بن عيطل: فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها.

وأما العاص بن وائل: فبينما هو كذلك يوما إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت منها فمات منها.

وقال غيره في هذا الحديث: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة - يعني شوكة - فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.

رواه البيهقي بنحو من هذا السياق.

وقال ابن إسحاق: وكان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير خمسة نفر.

وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم؛ الأسود بن المطلب أبو زمعة دعا عليه رسول الله فقال: «اللهم أعم بصره وأثكله ولده».

والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة.

وذكر أن الله تعالى أنزل فيهم: { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } 62.

وذكر أن جبريل أتى رسول الله وهم يطوفون بالبيت، فقام وقام رسول الله إلى جنبه، فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي.

ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى باطنه فمات منه حبنا.

ومرَّ به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعبه كان أصابه قبل ذلك بسنين من مروره برجل يريش نبلا له من خزاعة فتعلق سهم بإزاره فخدشه خدشا يسيرا، فانتقض بعد ذلك فمات.

ومرَّ به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فربض به على شبرقة فدخلت في أخمص رجله شوكة فقتلته.

ومر به الحارث بن الطلاطل فأشار إلى رأسه فامتحض قيحا فقتله..

ثم ذكر ابن إسحاق: أن الوليد بن المغيرة لما حضره الموت أوصى بنيه الثلاثة وهم: خالد وهشام والوليد.

فقال لهم: أي بني، أوصيكم بثلاث، دمي في خزاعة فلا تطلوه، والله إني لأعلم أنهم منه براء ولكني أخشى أن تسبوا به بعد اليوم، ورباي في ثقيف، فلا تدعوه حتى تأخذوه، وعقري عند أبي أزيهر الدوسي فلا يفوتنكم به.

وكان أبو أزيهر قد زوج الوليد بنتا له ثم أمسكها عنه فلم يدخلها عليه حتى مات، وكان قد قبض عقرها منه - وهو صداقها -.

فلما مات الوليد وثبت بنو مخزوم على خزاعة يلتمسون منهم عقل الوليد، وقالوا: إنما قتله سهم صاحبكم، فأبت عليهم خزاعة ذلك حتى تقاولوا أشعارا وغلظ بينهم الأمر.

ثم أعطتهم خزاعة بعض العقل واصطلحوا وتحاجزوا.

قال ابن إسحاق: ثم عدا هشام بن الوليد على أبي أزيهر وهو بسوق ذي المجاز فقتله، وكان شريفا في قومه وكانت ابنته تحت أبي سفيان - وذلك بعد بدر - فعمد يزيد بن أبي سفيان فجمع الناس لبني مخزوم وكان أبوه غائبا، فلما جاء أبو سفيان غاظه ما صنع ابنه يزيد فلامه على ذلك وضربه وودى أبا أزيهر وقال لابنه: أعمدت إلى أن تقتل قريش بعضها بعضا في رجل من دوس؟

وكتب حسان بن ثابت قصيدة له يحض أبا سفيان في دم أبي أزيهر، فقال: بئس ما ظن حسان أن يقتل بعضنا بعضا وقد ذهب أشرافنا يوم بدر.

ولما أسلم خالد بن الوليد وشهد الطائف مع رسول الله سأله في ربا أبيه من أهل الطائف؟

قال ابن إسحاق: فذكر لي بعض أهل العلم: إن هؤلاء الآيات نزلن في ذلك: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } 63 وما بعدها.

قال ابن إسحاق: ولم يكن في بني أزيهر ثأر نعلمه حتى حجر الإسلام بين الناس، إلا أن ضرار بن الخطاب بن مرداس الأسلمي خرج في نفر من قريش إلى أرض دوس فنزلوا على امرأة يقال لها أم غيلان مولاة لدوس، وكانت تمشط النساء وتجهز العرائس، فأرادت دوس قتلهم بأبي أزيهر فقامت دونه أم غيلان ونسوة كن معها حتى منعتهم.

قال السهيلي: يقال إنها أدخلته بين درعها وبدنها.

قال ابن هشام: فلما كانت أيام عمر بن الخطاب أتته أم غيلان وهي ترى أن ضرارا أخوه.

فقال لها عمر: لست بأخيه إلا في الإسلام، وقد عرفت منتك عليه فأعطاها على أنها بنت سبيل.

قال ابن هشام: وكان ضرار بن الخطاب لحق عمر بن الخطاب يوم أحد فجعل يضربه بعرض الرمح ويقول: انج يا ابن الخطاب لا أقتلك فكان عمر يعرفها له بعد الإسلام رضي الله عنهما.

فصل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على قريش حين استعصت عليه

وذكر البيهقي ها هنا دعاء النبي على قريش حين استعصت عليه بسبع مثل سبع يوسف وأورد ما أخرجاه في (الصحيحين) من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن ابن مسعود.

قال: خمس مضين؛ اللزام والروم، والدخان، والبطشة، والقمر، وفي رواية عن ابن مسعود.

قال: إن قريشا، لما استعصت على رسول الله وأبطئوا عن الإسلام.

قال: «اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف».

قال: فأصابتهم سنة حتى فحصت كل شيء، حتى أكلوا الجيف والميتة وحتى أن أحدهم كان يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع.

ثم دعا فكشف الله عنهم، ثم قرأ عبد الله هذه الآية: { إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ } 64 قال: فعادوا فكفروا فأخروا إلى يوم القيامة - أو قال: فأخروا إلى يوم بدر -.

قال عبد الله: إن ذلك لو كان يوم القيامة كان لا يكشف عنهم: { يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ } 65 قال يوم بدر.

وفي رواية عنه.

قال: لما رأى رسول الله من الناس إدبارا.

قال: «اللهم سبع كسبع يوسف» فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام.

فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك بعثت رحمة وأن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم.

فدعا رسول الله فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر.

فقال: «اللهم حوالينا ولا علينا» فانجذب السحاب عن رأسه فسقى الناس حولهم.

قال: لقد مضت آية الدخان - وهو الجوع الذي أصابهم - وذلك قوله: { إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون } وآية الروم، والبطشة الكبرى، وانشقاق القمر، وذلك كله يوم بدر.

قال البيهقي: يريد - والله أعلم - البطشة الكبرى والدخان وآية اللزام كلها حصلت ببدر.

قال: وقد أشار البخاري إلى هذه الرواية.

ثم أورد من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس.

قال: جاء أبو سفيان إلى رسول الله يستغيث من الجوع لأنهم لم يجدوا شيئا حتى أكلوا العهن، فأنزل الله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } 66.

قال: فدعا رسول الله حتى فرج الله عنهم.

ثم قال الحافظ البيهقي: وقد روى في قصة أبي سفيان ما دل على أن ذلك بعد الهجرة، ولعله كان مرتين والله أعلم.

فصل قصة فارس والروم

ثم أورد البيهقي قصة فارس والروم ونزول قوله تعالى: { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } 67.

ثم روى من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي فقال له: «أما أنهم سيظهرون» فذكر أبو بكر ذلك للمشركين.

فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا فذكر ذلك أبو بكر للنبي .

فقال: «ألا جعلته أداة».

قال: دون العشر فظهرت الروم بعد ذلك.

وقد أوردنا طرق هذا الحديث في التفسير وذكرنا أن المباحث - أي: المراهن - لأبي بكر أمية بن خلف وأن الرهن كان على خمس قلايص، وأنه كان إلى مدة، فزاد فيها الصديق عن أمر رسول الله وفي الرهن.

وأن غلبة الروم على فارس كان يوم بدر - أو كان يوم الحديبية - فالله أعلم.

ثم روى من طريق الوليد بن مسلم حدثنا أسيد الكلابي أنه سمع العلاء بن الزبير الكلابي يحدث عن أبيه.

قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم وظهورهم على الشام والعراق، كل ذلك في خمس عشرة سنة.

فصل الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس

ذكر ابن عساكر أحاديث الإسراء في أوائل البعثة، وأما ابن إسحاق فذكرها في هذا الموطن بعد البعثة بنحو من عشر سنين، وروى البيهقي من طريق موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: أسري برسول الله قبل خروجه إلى المدينة بسنة.

قال: وكذلك ذكره ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة.

ثم روى الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس بن بكير عن أسباط بن نصر عن إسماعيل السدي.

أنه قال: فرض على رسول الله الخمس ببيت المقدس ليلة أُسري به قبل مهاجره بستة عشر شهرا، فعلى قول السدي يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري وعروة يكون في ربيع الأول.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عثمان عن سعيد ابن مينا عن جابر وابن عباس.

قالا: ولد رسول الله عام الفيل يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول.

وفيه بعث، وفيه عرج به إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات، فيه انقطاع.

وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في سيرته وقد أورد حديثا لا يصح سنده ذكرناه في فضائل شهر رجب أن الإسراء كان ليلة السابع والعشرين من رجب والله أعلم.

ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان أول ليلة جمعة من شهر رجب وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة ولا أصل لذلك والله أعلم.

وينشد بعضهم في ذلك:

ليلةَ الجمعةِ عُرِّج بالنبي * ليلةَ الجمعةِ أول رجب

وهذا الشعر عليه ركاكة وإنما ذكرناه استشهادا لمن يقول به.

وقد ذكرنا الأحاديث الواردة في ذلك مستقصاة عند قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } فلتكتب من هناك على ما هي عليه من الأسانيد والعزو، والكلام عليها ومعها ففيها مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة.

ولنذكر ملخص كلام ابن إسحاق رحمه الله فإنه قال بعد ذكر ما تقدم من الفصول: ثم أسري برسول الله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو بيت المقدس من إيلياء - وقد فشا الإسلام بمكة في قريش وفي القبائل كلها.

قال: وكان من الحديث - فيما بلغني - عن مسراه عن عبد الله بن مسعود وأبي سعيد الخدري وعائشة ومعاوية وأم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنهم والحسن بن أبي الحسن وابن شهاب الزهري وقتادة وغيرهم من أهل العلم ما اجتمع في هذا الحديث، كل يحدث عنه بعض ما ذكر لي من أمره.

وكان في مسراه وما ذكر لي منه بلاء وتمحيص، وأمر من أمر الله وقدرته وسلطانه، فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثبات لمن آمن وصدق، وكان من أمر الله على يقين، فأسرى به كيف شاء وكما شاء ليريه من آياته ما أراد، حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد.

وكان عبد الله بن مسعود - فيما بلغني - يقول: أتى رسول الله بالبراق - وهي الدابة التي كانت تحمل عليها الأنبياء قبله، تضع حافرها في موضع منتهى طرفها - فحُمل عليها ثم خرج به صاحبه يرى الآيات فيما بين السماء والأرض حتى انتهى إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له، فصلى بهم ثم أتى بثلاثة آنية: من لبن، وخمر، وماء.

فذكر أنه شرب إناء اللبن، فقال لي جبريل: هديت وهديت أمتك.

وذكر ابن إسحاق في سياق الحسن البصري مرسلا: أن جبريل أيقظه ثم خرج به إلى باب المسجد الحرام فأركبه البراق وهو دابة أبيض، بين البغل والحمار، وفي فخذيه جناحان يحفز بهما رجليه، يضع حافره في منتهى طرفه، ثم حملني عليه ثم خرج معي لا يفوتني ولا أفوته.

قلت: وفي الحديث وهو عن قتادة فيما ذكره ابن إسحاق أن رسول الله لما أراد ركوب البراق شمس به فوضع جبريل يده على معرفته ثم قال: ألا تستحي يا براق مما تصنع، فوالله ما ركبك عبد لله قبل محمد أكرم عليه منه.

قال: فاستحى حتى أرفض عرقا ثم قرَّ حتى ركبته.

قال الحسن في حديثه: فمضى رسول الله ومضى معه جبريل حتى انتهى به إلى بيت المقدس، فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء فأمهم رسول الله فصلى بهم، ثم ذكر اختياره إناء اللبن على إناء الخمر وقول جبريل له: هديت وهديت أمتك وحرمت عليكم الخمر.

قال: ثم انصرف رسول الله إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك فذكر أنه كذبه أكثر الناس وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق وقال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشية أفلا أصدقه في بيت المقدس وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس فذكرها له رسول الله قال: فيومئذ سمي أبو بكر الصديق.

قال الحسن: وأنزل الله في ذلك: { وماجعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } الآية.

وذكر ابن إسحاق فيما بلغه عن أم هانئ.

أنها قالت: ما أسري برسول الله إلا من بيتي نام عندي تلك الليلة بعد ما صلى العشاء الآخرة، فلما كان قبيل الفجر أهبنا فلما صلى الصبح وصلينا معه.

قال يا أم هانئ: «لقد صليت معكم العشاء الآخرة في هذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم قد صليت الغداة معكم الآن كما ترين».

ثم قام ليخرج فأخذت بطرف ردائه فقلت: يا نبي الله لا تحدث بهذا الحديث الناس فيكذبونك ويؤذونك.

قال: «والله لأحدثنهموه» فأخبرهم فكذبوه.

فقال: وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حس الدابة فندَّلهم بعير فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت حتى إذا كنت بضجنان مررت بعير بني فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان.

وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم البيضاء يقدمها جمل أورق عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء.

قال: فابتدر القوم الثنية فلم يلقهم أول من الجمل الذي وصف لهم، وسألوهم عن الإناء وعن البعير فأخبروهم كما ذكر صلوات الله وسلامه عليه.

وذكر يونس بن بكير عن أسباط عن إسماعيل السدي أن الشمس كادت أن تغرب قبل أن يقدم ذلك العير، فدعا الله عز وجل فحبسها حتى قدموا كما وصف لهم.

قال: فلم تحتبس الشمس على أحد إلا عليه ذلك اليوم وعلى يوشع بن نون. رواه البيهقي.

قال ابن إسحاق: وأخبرني من لا أتهم عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله يقول: لما فرغت مما كان في بيت المقدس أتى بالمعراج ولم أر شيئا قط أحسن منه، وهو الذي يمد إليه ميتكم عينيه إذا حضر، فأصعدني فيه صاحبي، حتى انتهى بي إلى باب من أبواب السماء، يقال له: باب الحفظة عليه بريد من الملائكة يقال له: إسماعيل، تحت يده اثنا عشر ألف ملك، تحت يد كل ملك منهم اثنا عشر ألف ملك.

قال: يقول رسول الله إذا حدث بهذا الحديث { وما يعلم جنود ربك إلا هو }.

ثم ذكر بقية الحديث وهو مطول جدا وقد سقناه بإسناده ولفظه بكماله في التفسير وتكلمنا عليه فإنه من غرائب الأحاديث وفي إسناده ضعف، وكذا في سياق حديث أم هانئ فإن الثابت في (الصحيحين) من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس أن الإسراء كان من المسجد من عند الحجر وفي سياقه غرابة أيضا من وجوه قد تكلمنا عليها هناك.

ومنها قوله: وذلك قبل أن يوحى إليه، والجواب أن مجيئهم أول مرة كان قبل أن يوحى إليه فكانت تلك الليلة ولم يكن فيها شيء ثم جاءه الملائكة ليلة أخرى ولم يقل في ذلك، وذلك قبل أن يوحى إليه بل جاءه بعد ما أوحي إليه فكان الإسراء قطعا بعد الإيحاء إما بقليل كما زعمه طائفة، أو بكثير نحو من عشر سنين كما زعمه آخرون وهو الأظهر.

وغسل صدره تلك الليلة قبل الإسراء غسلا ثانيا - أو ثالثا - على قول أنه مطلوب إلى الملأ الأعلى والحضرة الإلهية ثم ركب البراق رفعة له وتعظيما وتكريما فلما جاء بيت المقدس ربطه بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء ثم دخل بيت المقدس فصلى في قبلته تحية المسجد.

وأنكر حذيفة رضي الله عنه دخوله إلى بيت المقدس وربطه الدابة وصلاته فيه وهذا غريب، والنص المثبت مقدم على النافي.

ثم اختلفوا في اجتماعه بالأنبياء وصلاته بهم أكان قبل عروجه إلى السماء كما دل عليه ما تقدم أو بعد نزوله منها كما دل عليه بعض السياقات وهو أنسب كما سنذكره على قولين فالله أعلم.

وقيل: أن صلاته بالأنبياء كانت في السماء، وهكذا تخيره من الآنية اللبن والخمر والماء هل كانت ببيت المقدس كما تقدم أو في السماء كما ثبت في الحديث الصحيح والمقصود أنه لما فرغ من أمر بيت المقدس نصب له المعراج وهو السلم فصعد فيه إلى السماء ولم يكن الصعود على البراق كما قد يتوهمه بعض الناس بل كان البراق مربوطا على باب مسجد بيت المقدس ليرجع عليه إلى مكة.

فصعد من سماء إلى سماء في المعراج حتى جاوز السابعة وكلما جاء سماء تلقته منها مقربوها ومن فيها من أكابر الملائكة والأنبياء وذكر أعيان من رآه من المرسلين: كآدم في سماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية وإدريس في الرابعة، وموسى في السادسة - على الصحيح - وإبراهيم في السابعة مسندا ظهره إلى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه صلاة وطوافا ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.

ثم جاوز مراتبهم كلهم حتى ظهر لمستوى يسمع فيه صريف الأقلام، ورفعت لرسول الله سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، ونبقها كقلال هجر، وغشيها عند ذلك أمور عظيمة ألوان متعددة باهرة وركبتها الملائكة مثل الغربان على الشجرة كثرة وفراش من ذهب وغشيها من نور الرب جل جلاله، ورأى هناك جبريل عليه السلام له ستمائة جناح ما بين كل جناحين كما بين السماء والأرض وهو الذي يقول الله تعالى: { ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى } أي: ما زاغ يمينا ولا شمالا ولا ارتفع عن المكان الذي حدَّ له النظر إليه.

وهذا هو الثبات العظيم والأدب الكريم وهذه الرؤيا الثانية لجبريل عليه السلام على الصفة التي خلقه الله تعالى عليها، كما نقله ابن مسعود وأبو هريرة وأبو ذر وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

والأولى هي: قوله تعالى: { علَّمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } وكان ذلك بالأبطح، تدلى جبريل على رسول الله سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض حتى كان بينه وبينه قاب قوسين أو أدنى، هذا هو الصحيح في التفسير كما دل عليه كلام أكابر الصحابة المتقدم ذكرهم رضي الله عنهم.

فأما قول شريك عن أنس في حديث الإسراء: ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فقد يكون من فهم الراوي فأقحمه في الحديث والله أعلم.

وإن كان محفوظا فليس بتفسير للآية الكريمة بل هو شيء آخر غير ما دلت عليه الآية الكريمة والله أعلم.

وفرض الله سبحانه وتعالى على عبده محمد وعلى أمته الصلوات ليلتئذ خمسين صلاة في كل يوم وليلة، ثم لم يزل يختلف بين موسى وبين ربه عز وجل حتى وضعها الرب جل جلاله وله الحمد والمنة إلى خمس.

وقال: هي خمس وهي خمسون الحسنة بعشر أمثالها فحصل له التكليم من الرب عز وجل ليلتئذ، وأئمة السنة كالمطبقين على هذا، واخلفوا في الرؤية فقال بعضهم: رآه بفؤاده مرتين قاله ابن عباس وطائفة: وأطلق ابن عباس وغيره الرؤية وهو محمول على التقييد.

وممن أطلق الرؤية: أبو هريرة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وصرح بعضهم بالرؤية بالعينين وأختاره ابن جرير وبالغ فيه وتبعه على ذلك آخرون من المتأخرين.

وممن نص على الرؤية بعيني رأسه: الشيخ أبو الحسن الأشعري فيما نقله السهيلي عنه، واختاره الشيخ أبو زكريا النووي في (فتاويه).

وقالت طائفة: لم يقع ذلك لحديث أبي ذر في صحيح مسلم.

قلت يا رسول الله: هل رأيت ربك؟

فقال: «نورٌ أنَّى أراه».

وفي رواية: «رأيت نورا».

قالوا: ولم يكن رؤية الباقي بالعين الفانية ولهذا قال الله تعالى لموسى فيما روي في بعض الكتب الإلهية: «يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده».

والخلاف في هذه المسألة مشهور بين السلف والخلف والله أعلم.

ثم هبط رسول الله إلى بيت المقدس والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة كما هي عادة الوافدين لا يجتمعون بأحد قبل الذي طلبوا إليه، ولهذا كان كلما مرَّ على واحد منهم يقول له جبريل - عندما يتقدم ذاك للسلام عليه -: هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده لما احتاج إلى تعرف بهم مرة ثانية.

ومما يدل على ذلك أنه قال: فلما حانت الصلاة: أممتهم.

ولم يحن وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل، فاستفاد بعضهم من هذا أن الإمام الأعظم يقدم في الإمامة على رب المنزل حيث كان بيت المقدس محلتهم ودار إقامتهم.

ثم خرج منه فركب البراق وعاد إلى مكة فأصبح بها وهو في غاية الثبات والسكينة والوقار..

وقد عاين في تلك الليلة من الآيات والأمور التي لو رآها - أو بعضها - غيره لأصبح مندهشا أو طائش العقل، ولكنه أصبح واجما -أي: ساكنا - يخشى إن بدأ فأخبر قومه بما رأى أن يبادروا إلى تكذيبه، فتلطف بإخبارهم أولا بأنه جاء بيت المقدس في تلك الليلة وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - رأى رسول الله في المسجد الحرام وهو جالس واجم.

فقال له: هل من خبر؟

فقال: نعم!

فقال: ما هو؟

فقال: إني أسري بي الليلة إلى بيت المقدس.

قال: إلى بيت المقدس!

قال: نعم.

قال: أرأيت إن دعوت قومك لك لتخبرهم أتخبرهم بما أخبرتني به؟

قال: نعم!

فأراد أبو جهل جمع قريش ليسمعوا منه ذلك وأراد رسول الله جمعهم ليخبرهم ذلك ويبلغهم.

فقال أبو جهل: هيا معشر قريش وقد اجتمعوا من أنديتهم.

فقال: أخبر قومك بما أخبرتني به.

فقص عليهم رسول الله خبر ما رأى وأنه جاء بيت المقدس هذه الليلة وصلى فيه، فمن بين مصفق وبين مصفر تكذيبا له واستبعادا لخبره وطار الخبر بمكة وجاء الناس إلى أبي بكر رضي الله عنه فأخبروه أن محمدا يقول كذا وكذا.

فقال: إنكم تكذبون عليه.

فقالوا: والله إنه ليقوله.

فقال: إن كان قاله فلقد صدق.

ثم جاء إلى رسول الله وحوله مشركي قريش فسأله عن ذلك فأخبره فاستعلمه عن صفات بيت المقدس ليسمع المشركون ويعلموا صدقه فيما أخبرهم به.

وفي (الصحيح) أن المشركين هم الذين سألوا رسول الله عن ذلك.

قال: فجعلت أخبرهم عن آياته فالتبس علي بعض الشيء، فجلى الله لي بيت المقدس حتى جعلت أنظر إليه دون دار عقيل وأنعته لهم.

فقال: أما الصفة: فقد أصاب.

وذكر ابن إسحاق ما تقدم من إخباره لهم بمروره بعيرهم وما كان من شربه مائهم، فأقام الله عليهم الحجة واستنارت لهم المحجة، فآمن من آمن على يقين من ربه وكفر من كفر بعد قيام الحجة عليه.

كما قال الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } 68 أي: اختبارا لهم وامتحانا.

قال ابن عباس: هي رؤيا عين أُريها رسول الله وهذا مذهب جمهور السلف والخلف من أن الإسراء كان ببدنه وروحه صلوات الله وسلامه عليه كما دل على ذلك ظاهر السياقات من ركوبه وصعوده في المعراج وغير ذلك.

ولهذا قال فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ } 69 والتسبيح إنما يكون عند الآيات العظيمة الخارقة فدلَّ على أنه بالروح والجسد والعبد عبارة عنهما..

وأيضا فلو كان مناما لما بادر كفار قريش إلى التكذيب به والاستبعاد له إذ ليس في ذلك كبير أمر، فدلَّ على أنه أخبرهم بأنه أسري به يقظة لا مناما.

وقوله في حديث شريك عن أنس: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر معدود في غلطات شريك أو محمول على أن الانتقال من حال إلى حال يسمى يقظة كما سيأتي في حديث عائشة رضي الله عنها حين ذهب رسول الله الطائف فكذبوه، قال: فرجعت مهموما فلم استفق إلا بقرن الثعالب.

وفي حديث أبي أسيد حين جاء بابنه إلى رسول الله ليحنكه فوضعه على فخذ رسول الله واشتغل رسول الله بالحديث مع الناس فرفع أبو أسيد ابنه، ثم استيقظ رسول الله فلم يجد الصبي فسأل عنه فقالوا: رفع فسماه المنذر، وهذا الحمل أحسن من التغليط والله أعلم.

وقد حكى ابن إسحاق فقال: حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أم المؤمنين أنها كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله ولكن الله أسرى بروحه.

قال: وحدثني يعقوب بن عتبة أن معاوية كان إذا سئل عن مسرى رسول الله قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

قال ابن إسحاق: فلم ينكر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك: { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } وكما قال إبراهيم عليه السلام: { يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } وفي الحديث: «تنام عيني وقلبي يقظان».

قال ابن إسحاق: فالله أعلم أي ذلك كان، قد جاءه، وعاين فيه ما عاين من أمر الله تعالى، على أي حالة كان نائما أو يقظانا كل ذلك حق وصدق.

قلت: وقد توقف ابن إسحاق في ذلك وجوَّز كلا من الأمرين من حيث الجملة، ولكن الذي لا يشك فيه ولا يتمارى أنه كان يقظانا لا محالة لما تقدم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أن جسده ما فقد، وإنما كان الإسراء بروحه أن يكون مناما كما فهمه ابن إسحاق، بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقة وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السموات وعاين ما عاين حقيقة ويقظة لا مناما.

لعل هذا مراد عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، ومراد من تابعها على ذلك، لا ما فهمه ابن إسحاق من أنهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم..

تنبيه: ونحن لا ننكر وقوع منام قبل الإسراء طبق ما وقع بعد ذلك، فإنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد تقدم مثل ذلك في حديث بدء الوحي أنه رأى مثل ما وقع له يقظة مناما قبله ليكون ذلك من باب الإرهاص والتوطئة والتثبت والإيناس والله أعلم.

ثم قد اختلف العلماء في أن الإسراء والمعراج هل كانا في ليلة واحدة أو كل في ليلة على حدة؟

فمنهم من يزعم أن: الإسراء في اليقظة، والمعراج: في المنام.

وقد حكى المهلب بن أبي صفرة في شرحه البخاري عن طائفة أنهم ذهبوا إلى أن: الإسراء مرتين مرة بروحه مناما، ومرة ببدنه وروحه يقظة.

وقد حكاه الحافظ أبو القاسم السهيلي عن شيخه أبي بكر بن العربي الفقيه.

قال السهيلي: وهذا القول يجمع الأحاديث فإن في حديث شريك عن أنس وذلك فيما يرى قلبه وتنام عيناه ولا ينام قلبه.

وقال في آخره: ثم استيقظت فإذا أنا في الحجر وهذا منام، ودلَّ غيره على اليقظة، ومنهم من يدعي تعدد الإسراء في اليقظة أيضا حتى قال بعضهم: إنها أربع إسراءات.

وزعم بعضهم: أن بعضها كان بالمدينة، وقد حاول الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله أن يوفق بين اختلاف ما وقع في روايات حديث الإسراء بالجمع المتعدد فجعل ثلاث إسراءات، مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السماء على البراق أيضا لحديث حذيفة، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.

فنقول: إن كان إنما حمله على القول بهذه الثلاث اختلاف الروايات فقد اختلف لفظ الحديث في ذلك على أكثر من هذه الثلاث صفات ومن أراد الوقوف على ذلك فلينظر فيما جمعناه مستقصيا في كتابنا التفسير عند قوله تعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } وإن كان إنما حمله أن التقسيم انحصر في ثلاث صفات بالنسبة إلى بيت المقدس وإلى السموات فلا يلزم من الحصر العقلي والوقوع كذلك في الخارج إلا بدليل والله أعلم.

والعجب أن الإمام أبا عبد الله البخاري رحمه الله ذكر الإسراء بعد ذكره موت أبي طالب فوافق ابن إسحاق في ذكره المعراج في أواخر الأمر، وخالفه في ذكره بعد موت أبي طالب، وابن إسحاق أخَّر ذكر موت أبي طالب على الإسراء، فالله أعلم أي ذلك كان.

والمقصود أن البخاري فرَّق بين الإسراء وبين المعراج فبوب لكل واحد منهما بابا على حدة.

فقال: باب حديث الإسراء وقول الله سبحانه وتعالى: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }.

حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول: «لما كذبتني قريش كنت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أحدثهم عن آياته وأنا أنظر إليه».

وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر به.

ورواه مسلم والنسائي والترمذي من حديث عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي بنحوه.

ثم قال البخاري: باب حديث المعراج: حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا همام، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة أن النبي حدثهم عن ليلة أسري به.

قال: «بينما أنا في الحطيم - وربما قال في الحجر - مضجعا إذ أتاني آت»

فقال: وسمعته يقول: «فشق ما بين هذه إلى هذه».

فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به.

قال: من نقرة نحره إلى شعرته، وسمعته يقول: من قصه إلى شعرته.

«فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض».

فقال الجارود: وهو البراق يا أبا حمزة؟

قال أنس: نعم!: «يضع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، فانطلق بي جبرائيل حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم.

فقال: هذا أبوك آدم، فسلِّم عليه فسلمت عليه فردَّ السلام.

ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم.

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة.

قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما فسلمت عليهما فردا.

ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبرائيل.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قال: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

ففتح فلما خلصت إذا يوسف قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد..

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قال: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا إدريس، قال: هذا إدريس فسلِّم عليه فسلمت فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا هارون قال: هذا هارون فسلِّم عليه فسلمت عليه فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح.

فقيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد أرسل إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا موسى قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد.

ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

فلما تجاوزت بكى، فقيل له: ما يبكيك؟

قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي.

ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبرائيل.

قيل: من هذا؟

قال: جبرائيل.

قيل: ومن معك؟

قال: محمد.

قيل: وقد بعث إليه؟

قال: نعم!

قيل: مرحبا به فنعم المجيء جاء.

فلما خلصت إذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام.

ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم رفعت إلى سدرة المنتهى وإذا أربعة أنهار؛ نهران ظاهران، ونهران باطنان.

فقلت: ما هذا يا جبرائيل؟

قال: أما الباطنان: فنهران في الجنة، وأما الظاهران: فالنيل والفرات.

ثم رفع لي البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن.

قال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك.

ثم فرض عليَّ الصلوات خمسون صلاة كل يوم، فرجعت فمررت على موسى فقال: بما أمرت؟

قال: أمرت بخمسين صلاة كل يوم.

قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني والله جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة؛ فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرا.

فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فقال مثله، فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم.

فرجعت إلى موسى فقال: بم أمرت؟

فقلت: بخمس صلوات كل يوم.

قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك.

قال: سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم.

قال: فلما جاوزت ناداني مناد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي».

هكذا روى البخاري هذا الحديث ههنا.

وقد رواه في مواضع أخر من (صحيحه) ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن قتادة عن أنس بن مالك بن صعصعة..

ورويناه من حديث أنس بن مالك عن أبي بن كعب.

ومن حديث أنس عن أبي ذر.

ومن طرق كثيرة عن أنس عن النبي .

وقد ذكرنا ذلك مستقصى بطرقه وألفاظه في التفسير، ولم يقع في هذا السياق ذكر بيت المقدس، وكان بعض الرواة يحذف بعض الخبر للعلم به، أو ينساه أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوقه كله، وتارة يحذف عن مخاطبه بما هو الأنفع عنده.

ومن جعل كل رواية إسراد على حدة كما تقدم عن بعضهم فقد أبعد جدا.

وذلك أن كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كل منها يعرفه بهم، وفي كلها يفرض عليه الصلوات.

فكيف يمكن أن يدعي تعدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة والله أعلم.

ثم قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ } 70 قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله ليلة أسري به إلى بيت المقدس، والشجرة الملعونة في القرآن، قال: هي شجرة الزقوم.

فصل نزول فرضية الصلاة صبيحة الإسراء

ولما أصبح رسول الله من صبيحة ليلة الإسراء جاءه جبرائيل عند الزوال فبين له كيفية الصلاة وأوقاتها، وأمر رسول الله أصحابه فاجتمعوا وصلى به جبرائيل في ذلك اليوم إلى الغد، والمسلمون يأتمون بالنبي وهو يقتدي بجبرائيل كما جاء في الحديث عن ابن عباس وجابر: «أمني جبرائيل عند البيت مرتين».

فبيـَّن له الوقتين الأول والآخر فهما وما بينهما الوقت الموسع، ولم يذكر توسعة في وقت المغرب.

وقد ثبت ذلك في حديث أبي موسى، وبريدة، وعبد الله بن عمرو، وكلها في (صحيح مسلم) وموضع بسط ذلك في كتابنا (الأحكام) ولله الحمد.

فأما ما ثبت في (صحيح البخاري) عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: «فرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر».

وكذا رواه الأوزاعي عن الزهري، ورواه الشعبي عن مسروق عنها وهذا مشكل من جهة أن عائشة كانت تتم الصلاة في السفر وكذا عثمان بن عفان وقد تكلمنا على ذلك عند قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } 71..

قال البيهقي: وقد ذهب الحسن البصري إلى أن صلاة الحضر أول ما فرضت أربعا كما ذكره مرسلا من صلاته عليه السلام صبيحة الإسراء: الظهر أربعا، والعصر أربعا، والمغرب ثلاثا يجهر في الأوليين، والعشاء أربعا يجهر في الأوليين، والصبح ركعتين يجهر فيهما.

قلت: فلعل عائشة أرادت أن الصلاة كانت قبل الإسراء تكون ركعتين ركعتين، ثم لما فرضت الخمس فرضت حضرا على ما هي عليه، ورخص في السفر أن يصلى ركعتين كما كان الأمر عليه قديما وعلى هذا لا يبقى إشكال بالكلية والله أعلم.

فصل في انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم

وجعل الله له آية على صدق رسول الله فيما جاء به من الهدى ودين الحق حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة، قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ } 72.

وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة من طرق متعددة تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها.

ونحن نذكر من ذلك ما تيسر إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد تقصينا ذلك في كتابنا التفسير فذكرنا الطرق والألفاظ محررة، ونحن نشير ههنا إلى أطراف من طرقها ونعزوها إلى الكتب المشهورة بحول الله وقوته.

وذلك مروي عن أنس بن مالك، وجبير بن مطعم، وحذيفة، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

أما أنس فقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي آية فانشق القمر بمكة مرتين.

فقال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } 73.

ورواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وهذا من مرسلات الصحابة.

والظاهر أنه تلقاه عن الجم الغفير من الصحابة، أو عن النبي ، أو عن الجميع، وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق شيبان.

زاد البخاري وسعيد بن أبي عروبة، وزاد مسلم وشعبة ثلاثتهم عن قتادة عن أنس: أن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، لفظ البخاري.

وأما جبير بن مطعم فقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سليمان بن كثير، عن حصين ابن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فرقتين، فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل.

فقالوا: سحرنا محمد!

فقالوا: إن كان سحرنا؛ فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

تفرد به أحمد.

وهكذا رواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل وغيره عن حصين به.

وقد رواه البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، وهشيم كلاهما عن حصين بن عبد الرحمن، عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه عن جده به فزاد رجلا في الإسناد.

وأما حذيفة بن اليمان: فروى أبو نعيم في (الدلائل) من طريق عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن السلمي.

قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } 74. ألا وإن الساعة قد اقتربت، ألا وإن القمر قد انشق، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق، ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق.

فلما كانت الجمعة الثانية انطلقت مع أبي إلى الجمعة فحمد الله وقال مثله وزاد ألا وإن السابق من سبق إلى الجمعة، فلما كنا في الطريق قلت لأبي: ما يعني بقوله - غدا السباق - قال: من سبق إلى الجنة.

وأما ابن عباس فقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا بكر عن جعفر بن ربيعة، عن عراك بن مالك، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: إن القمر انشق في زمان النبي .

ورواه البخاري أيضا ومسلم من حديث بكر - وهو ابن مضر - عن جعفر قوله: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } 75.

قال: قد مضى ذلك كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه..

وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو من مرسلاته.

وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهيل، حدثنا عبد الغني بن سعيد، حدثنا موسى بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، وعن مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.

قال ابن عباس: اجتمع المشركون إلى رسول الله منهم: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل، والعاص بن هشام، والأسود ابن عبد يغوث، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث، ونظراؤهم كثير فقالوا للنبي : إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان.

فقال لهم النبي : «إن فعلت تؤمنوا؟».

قالوا: نعم! وكانت ليلة بدر، فسأل الله عز وجل أن يعطيه ما سألوا، فأمسى القمر وقد سلب نصفا على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان، ورسول الله ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا.

ثم قال أبو نعيم: وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الحسن بن العباس الرازي عن الهيثم بن العمان، حدثنا إسماعيل بن زياد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى رسول الله فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟

فهبط جبرائيل فقال يا محمد: قل لأهل مكة أن يحتفلوا هذه الليلة فسيروا آية إن انتفعوا بها.

فأخبرهم رسول الله بمقالة جبرائيل فخرجوا ليلة الشق ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا، ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها، ثم أعادوا النظر فنظروا، ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا: يا محمد ما هذا إلا سحر واهب، فأنزل الله: { اقتربت الساعة وانشق القمر }.

ثم روى الضحاك عن ابن عباس قال: جاءت أحبار اليهود إلى رسول الله فقالوا: أرنا آية حتى نؤمن بها، فسأل ربه فأراهم القمر قد انشق بجزئين؛ أحدهما على الصفا والآخر على المروة، قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب.

فقالوا: هذا سحر مفترى.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن عمرو الرزاز، حدثنا محمد بن يحيى القطعي، حدثنا محمد بن بكر، حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله فقالوا: سحر القمر فنزلت: { اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر }.

وهذا إسناد جيد وفيه أنه: كسف تلك الليلة فلعله حصل له انشقاق في ليلة كسوفه، ولهذا خفي أمره على كثير من أهل الأرض، ومع هذا قد شوهد ذلك في كثير من بقاع الأرض.

ويقال: إنه أرخ ذلك في بعض بلاد الهند، وبني بناء تلك الليلة وأرخ بليلة انشقاق القمر.

وأما ابن عمر: فقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد به.

قال مسلم: كرواية مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود.

وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

وأما عبد الله بن مسعود فقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله شقتين حتى نظروا إليه، فقال رسول الله : «اشهدوا».

وهكذا أخرجاه من حديث سفيان - وهو ابن عيينة - به.

ومن حديث الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن عبد الله بن سمرة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن مع رسول الله بمنى، فقال النبي : «اشهدوا».

وذهبت فرقة نحو الجبل. لفظ البخاري.

ثم قال البخاري: وقال أبو الضحاك، عن مسروق، عن عبد الله - بمكة - وتابعه محمد بن مسلم، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله رضي الله عنه.

وقد أسند أبو داود الطيالسي حديث أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد رسول الله فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة.

فقالوا: انظروا ما يأتيكم به السفار؟ فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.

قال: فجاء السفار فقالوا ذلك.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، ثنا أبو العباس، حدثنا العباس بن محمد الدوري، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا هشيم، حدثنا مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة حتى صار فرقتين، فقال كفار قريش لأهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحر سحركم به.

قال فسئل السفار قال - وقدموا من كل وجهة - فقالوا رأينا.

وهكذا رواه أبو نعيم: من حديث جابر، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله به.

وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - قال: انشق القمر على عهد رسول الله حتى رأيت الجبل بين فرجتي القمر.

وهكذا رواه ابن جرير: من حديث أسباط، عن سماك به.

وقال الحافظ أبو نعيم: حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو حصين محمد بن الحسين الوادعي، حدثنا يحيى الحماني، حدثنا يزيد، عن عطاء، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا مع النبي بمنى وانشق القمر حتى صار فرقتين فرقة خلف الجبل، فقال النبي : «اشهدوا اشهدوا».

وقال أبو نعيم: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي، حدثنا آدم بن أبي إياس، ثنا الليث بن سعد، حدثنا هشام بن سعد، عن عتبة، عن عبد الله بن عتبة، عن ابن مسعود قال: انشق القمر ونحن بمكة، فلقد رأيت أحد شقيه على الجبل الذي بمنى ونحن بمكة.

وحدثنا أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو بكر بن أبي عاصم، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: انشق القمر بمكة فرأيته فرقتين.

ثم روى من حديث علي بن سعيد بن مسروق، حدثنا موسى بن عمير، عن منصور بن المعتمر، عن زيد بن وهب، عن عبد الله بن مسعود قال: رأيت القمر والله منشقا باثنتين بينهما حراء.

وروى أبو نعيم من طريق السدي الصغير، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: انشق القمر فلقتين فلقة ذهبت، وفلقة بقيت.

قال ابن مسعود: لقد رأيت جبل حراء بين فلقتي القمر، فذهب فلقة، فتعجب أهل مكة من ذلك وقالوا: هذا سحر مصنوع سيذهب.

وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد قال: انشق القمر على عهد رسول الله فصار فرقتين فقال النبي لأبي بكر: «فاشهد يا أبا بكر».

وقال المشركون: سحر القمر حتى انشق.

فهذه طرق متعددة قوية الأسانيد تفيد القطع لمن تأملها، وعرف عدالة رجالها، وما يذكره بعض القصَّاص من أن القمر سقط إلى الأرض حتى دخل في كم النبي وخرج من الكم الآخر فلا أصل له، وهو كذب مفترى ليس بصحيح.

والقمر حين انشق لم يزايل السماء، غير أنه حين أشار إليه النبي انشق عن إشارته فصار فرقتين، فسارت واحدة حتى صارت من وراء حراء، ونظروا إلى الجبل بين هذه وهذه كما أخبر بذلك ابن مسعود أنه شاهد ذلك.

وما وقع في رواية أنس في (مسند أحمد): فانشق القمر بمكة مرتين فيه نظر، والظاهر أنه أراد فرقتين، والله أعلم.

فصل في وفاة أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم

ثم من بعده خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله ورضي الله عنها.

وقيل: بل هي توفيت قبله والمشهور الأول، وهذان المشفقان؛ هذا في الظاهر وهذه في الباطن، هذاك كافر وهذه مؤمنة صديقة رضي الله عنها وأرضاها.

قال ابن إسحاق: ثم إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الابتلاء يسكن إليها، وبهلك عمه أبي طالب وكان عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه.

وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين، فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا.

فحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: فدخل رسول الله بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته تغسله وتبكي، ورسول الله يقول: «لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك».

ويقول بين ذلك: «ما نالتني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب».

وذكر ابن إسحاق قبل ذلك: أن أحدهم ربما طرح الأذى في برمته إذا نصبت له.

قال: فكان إذا فعلوا ذلك كما حدثني عمر بن عبد الله، عن عروة يخرج بذلك الشيء على العود فيقذفه على بابه ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا، ثم يلقيه في الطريق».

قال ابن إسحاق: ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريشا ثقله قالت قريش بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا.

قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد بن عباس، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما مشوا إلى أبي طالب وكلموه - وهم أشراف قومه - عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب في رجال من أشرافهم.

فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت، وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ لنا منه، وخذ له منا ليكف عنا ولنكف عنه، وليدعنا وديننا ولندعه ودينه..

فبعث إليه أبو طالب، فجاءه فقال يا ابن أخي: هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك.

قال: فقال رسول الله : «يا عم كلمة واحدة تعطونها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم».

فقال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات.

قال: «تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه».

فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد: أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟! إن أمرك لعجب.

قال: ثم قال بعضهم لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه، ثم تفرقوا.

قال: فقال أبو طالب: والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططا.

قال: فطمع رسول الله فيه فجعل يقول له: «أي عم فأنت قلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة».

فلما رأى حرص رسول الله قال: يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها، لا أقولها إلا لأسرك بها.

قال: فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه، قال فقال: يا ابن أخي والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.

قال: فقال رسول الله : «لم أسمع».

قال: وأنزل الله تعالى في أولئك الرهط: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } 76 الآيات. وقد تكلمنا على ذلك في التفسير، ولله الحمد والمنة.

وقد استدل بعض من ذهب من الشيعة وغيرهم من الغلاة إلى أن أبا طالب مات مسلما بقول العباس هذا الحديث؛ يا ابن أخي، لقد قال الكلمة التي أمرته أن يقولها - يعني لا إله إلا الله -

والجواب عن هذا من وجوه:

أحدها: أن في السند مبهما لا يعرف حاله وهو قوله عن بعض أهله وهذا إبهام في الاسم والحال، ومثله يتوقف فيه لو انفرد.

وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن جرير نحوا من هذا السياق من طريق أبي أسامة، عن الأعمش، حدثنا عباد، عن سعيد بن جبير فذكره، ولم يذكر قول العباس.

ورواه الثوري أيضا عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة الكوفي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس فذكره بغير زيادة قول العباس.

ورواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير أيضا.

ولفظ الحديث من سياق البيهقي فيما رواه من طريق الثوري، عن الأعمش، عن يحيى بن عمارة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:

مرض أبو طالب فجاءت قريش، وجاء النبي عند رأس أبي طالب، فجلس رجل، فقام أبو جهل كي يمنعه ذاك وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟

فقال: «يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها الجزية العجم، كلمة واحدة»..

قال: ما هي؟

قال: «لا إله إلا الله».

قال: فقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب!

قال: ونزل فيهم: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } الآيات إلى قوله: { إِلَّا اخْتِلَاقٌ } 77.

ثم قد عارضه - أعني سياق ابن إسحاق - ما هو أصح منه، وهو ما رواه البخاري قائلا: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبيه رضي الله عنه: أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل فقال: «أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج بها عند الله».

فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلماه حتى قال آخر ما كلمهم به: على ملة عبد المطلب.

فقال النبي : «لأستغفر لك مالم أُنهَ عنك».

فنزلت: { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } 78.

ونزلت: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } 79.

ورواه مسلم: عن إسحاق بن إبراهيم، وعبد الله، عن عبد الرزاق.

وأخرجاه أيضا من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبيه بنحوه، وقال فيه: فلم يزل رسول الله يعرضها عليه ويعودان له بتلك المقالة حتى قال آخر ما قال: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.

فقال النبي : «أما لأستغفرن لك مالم أُنهَ عنك».

فأنزل الله - يعني بعد ذلك -: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى }

ونزل في أبي طالب: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }

وهكذا روى الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، من حديث يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله فقال: «يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة».

فقال: لولا أن تعيرني قريش يقولون ما حمله عليه إلا فزع الموت لأقررت بها عينك، ولا أقولها إلا لأقر بها عينك.

فأنزل الله عز وجل: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } 80.

وهكذا قال عبد الله بن عباس، وابن عمر، ومجاهد، والشعبي، وقتادة: إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله أن يقول لا إله إلا الله فأبى أن يقولها، وقال: هو على ملة الأشياخ، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب.

ويؤكد هذا كله ما قال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى بن محمد بن يحيى، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، حدثني عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثنا العباس بن عبد المطلب أنه قال: قلت للنبي : ما أغنيت عن عمك فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟

قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».

ورواه مسلم في (صحيحه): من طرق عن عبد الملك بن عمير به.

وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث الليث: حدثني يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد أنه سمع النبي ذكر عنده عمه فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه». لفظ البخاري.

وفي رواية: «تغلي منه أم دماغه».

وروى مسلم: عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان، عن ابن عباس: أن رسول الله قال: «أهون أهل النار عذابا أبو طالب منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه».

وفي (مغازي) يونس بن بكير «يغلي منهما دماغه حتى يسيل على قدميه». ذكره السهيلي.

وقال الحافظ أبو بكر البزار في (مسنده): حدثنا عمرو - هو ابن إسماعيل بن مجالد - حدثنا أبي، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر.

قال: سئل رسول الله - أو قيل له - هل نفعت أبا طالب؟

قال: «أخرجته من النار إلى ضحضاح منها».

تفرد به البزار.

قال السهيلي: وإنما لم يقبل النبي شهادة العباس أخيه أنه قال الكلمة وقال: «لم أسمع» لأن العباس كان إذ ذاك كافرا غير مقبول الشهادة.

قلت: وعندي أن الخبر بذلك ما صح لضعف سنده كما تقدم.

ومما يدل على ذلك: أنه سأل النبي بعد ذلك عن أبي طالب فذكر له ما تقدم، وبتعليل صحته لعله قال ذلك عند معاينة الملك بعد الغرغرة حين لا ينفع نفسا إيمانها والله أعلم.

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق: سمعت ناجية بن كعب يقول: سمعت عليا يقول: لما توفي أبي أتيت رسول الله فقلت: إن عمك قد توفي.

فقال: «اذهب فواره».

فقلت: إنه مات مشركا.

فقال: «اذهب فواره» ولا تحدثن شيئا حتى تأتي.

ففعلت فأتيته، فأمرني أن أغتسل.

ورواه النسائي: عن محمد بن المثنى، عن غندر، عن شعبة.

ورواه أبو داود، والنسائي من حديث سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناجية، عن علي: لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله: إن عمك الشيخ الضال قد مات فمن يواريه؟

قال: «اذهب فوار أباك ولا تحدثن شيئا حتى تأتيني». فأتيته فأمرني فاغتسلت ثم دعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بهن ما على الأرض من شيء.

وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعد الماليني، حدثنا أبو أحمد بن عدي، حدثنا محمد بن هارون بن حميد، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، حدثنا الفضل، عن إبراهيم بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبي عاد من جنازة أبي طالب فقال: «وصلتك رحم، وجزيت خيرا يا عم».

قال: وروي عن أبي اليمان الهوزني، عن النبي مرسلا، وزاد ولم يقم على قبره.

قال: وإبراهيم بن عبد الرحمن هذا هو الخوارزمي تكلموا فيه.

قلت: قد روى عنه غير واحد منهم: الفضل بن موسى السيناني، ومحمد بن سلام البيكندي، ومع هذا قال ابن عدي: ليس بمعروف، وأحاديثه عن كل من روى عنه ليست بمستقيمة.

وقد قدمنا ما كان يتعاطاه أبو طالب من المحاماة والمحاجة والممانعة عن رسول الله ، والدفع عنه وعن أصحابه، وما قاله فيه من الممادح والثناء، وما أظهره له ولأصحابه من المودة والمحبة والشفقة في أشعاره التي أسلفناها، وما تضمنته من العيب والتنقيص لمن خالفه وكذبه بتلك العبارة الفصيحة البليغة الهاشمية المطلبية التي لا تدانى ولا تسامى، ولا يمكن عربيا مقاربتها ولا معارضتها.

وهو في ذلك كله يعلم أن رسول الله صادق بار راشد، ولكن مع هذا لم يؤمن قلبه.

وفرق بين علم القلب وتصديقه كما قررنا ذلك في شرح كتاب الإيمان من (صحيح البخاري) وشاهد ذلك قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون }

وقال تعالى في قوم فرعون: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم }

وقال موسى لفرعون: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا }

وقول بعض السلف في قوله تعالى: { وهم ينهون عنه وينأون عنه } أنها نزلت في أبي طالب حيث كان ينهى الناس عن أذية رسول الله ، وينأى هو عما جاء به الرسول من الهدى ودين الحق.

فقد روي عن ابن عباس، والقاسم بن مخيمرة، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار، ومحمد بن كعب، وغيرهم، ففيه نظر والله أعلم.

والأظهر والله أعلم: الرواية الأخرى عن ابن عباس؛ وهم ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به.

وبهذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وغير واحد - وهو اختيار ابن جرير - وتوجيهه أن هذا الكلام سيق لتمام ذم المشركين حيث كانوا يصدون الناس عن اتباعه ولا ينتفعون هم أيضا به.

ولهذا قال: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } 81..

وهذا اللفظ وهو قوله (وهم) يدل على أن المراد بهذا جماعة وهم المذكورون في سياق الكلام.

وقوله: { وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون } يدل على تمام الذم، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة، بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال، ونفس ومال، ولكن مع هذا لم يقدِّر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة العظيمة، والحجة القاطعة البالغة الدامغة التي يجب الإيمان بها والتسليم لها.

ولولا ما نهانا الله عنه من الاستغفار للمشركين لاستغفرنا لأبي طالب وترحمنا عليه.

فصل موت خديجة بنت خويلد

وذكر شيء من فضائلها ومناقبها رضي الله عنها وأرضاها، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها، وقد فعل ذلك لا محالة بخبر الصادق المصدوق حيث بشَّرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

قال يعقوب بن سفيان: حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال:

قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة.

ثم روى من وجه آخر عن الزهري أنه قال: توفيت خديجة بمكة قبل خروج رسول الله إلى المدينة، وقبل أن تفرض الصلاة.

وقال محمد بن إسحاق: ماتت خديجة وأبو طالب في عام واحد.

وقال البيهقي: بلغني أن خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.

ذكره عبد الله بن منده في كتاب (المعرفة)، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ.

قال البيهقي: وزعم الواقدي أن خديجة وأبا طالب ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين عام خرجوا من الشعب، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة.

قلت: مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء، وكان الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب وخديجة قبل الإسراء كما ذكره البيهقي وغير واحد، ولكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك، فإن الكلام به ينتظم ويتسق الباب كما تقف على ذلك إن شاء الله.

وقال البخاري: حدثنا قتيبة، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة.

قال: أتى جبرائيل إلى رسول الله فقال يا رسول الله: هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

وقد رواه مسلم من حديث محمد بن فضيل به.

وقال البخاري: حدثنا مسدد، حدثنا يحيى، عن إسماعيل قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى: بشَّر النبي خديجة؟

قال: نعم! ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

ورواه البخاري أيضا، ومسلم من طرق، عن إسماعيل بن أبي خالد به.

قال السهيلي: وإنما بشَّرها ببيت في الجنة من قصب - يعني قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان، لا صخب فيه ولا نصب لأنها لم ترفع صوتها على النبي ولم تتعبه يوما من الدهر فلم تصخب عليه يوما ولا آذته أبدا.

وأخرجاه في (الصحيحين) من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما غرت على امرأة للنبي ما غرت على خديجة، وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها - وأمره الله أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن. لفظ البخاري.

وفي لفظ عن عائشة: ما غرت على امرأة ما غرت على خديجة من كثرة ذكر رسول الله إياها، وتزوجني بعدها بثلاث سنين وأمره ربه - أو جبرائيل - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب.

وفي لفظ له قالت: ما غرت على أحد من نساء النبي ما غرت على خديجة - وما رأيتها - ولكن كان يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة فيقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول: «إنها كانت وكانت وكان لي منها ولد»..

ثم قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن خليل، أخبرنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله فعرف استئذان خديجة فارتاع، فقال: «اللهم هالة».

قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين، هلكت في الدهر، قد أبدلك الله خيرا منها.

وهكذا روى مسلم، عن سويد بن سعيد، عن علي بن مسهر به.

وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة إما فضلا وإما عشرةً إذا لم ينكر عليها ولا يرد عليها. ذلك كما هو ظاهر سياق البخاري رحمه الله.

ولكن قال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل أبو عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة عن عبد الملك - هو ابن عمير -، عن موسى بن طلحة عن عائشة قالت: ذكر رسول الله يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة، فقلت: لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين.

قال: فتغير وجه رسول الله تغيرا لم أره تغير عند شيء قط إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى يعلم رحمةً أو عذابا.

وكذا رواه عن بهز بن أسد، وعثمان بن مسلم، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن عبد الملك بن عمير به.

وزاد بعده قوله: حمراء الشدقين، هلكت في الدهر الأول.

قال: قال: فتمعر وجهه تمعرا ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي أو عند المخيلة حتى ينظر رحمة أو عذابا.

تفرد به أحمد، وهذا إسناد جيد.

وقال الإمام أحمد أيضا: عن ابن إسحاق: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة.

قالت: كان النبي إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء.

قالت: فغرت يوما فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدقين، قد أبدلك الله خيرا منها.

قال: «ما أبدلني الله خيرا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبنني، وآستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

تفرد به أحمد أيضا، وإسناده لا بأس به.

ومجالد روى له مسلم متابعة، وفيه كلام مشهور، والله أعلم.

ولعل هذا أعني قوله: «ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء».

كان قبل أن يولد إبراهيم بن النبي من مارية، وقبل مقدمها بالكلية وهذا معين.

فإن جميع أولاد النبي كما تقدم وكما سيأتي من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها.

وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على تفضيل خديجة على عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وتكلم آخرون في إسناده وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة وهو محتمل أو ظاهر.

وسببه أن عائشة تمت بشبابها وحسنها وجميل عشرتها، وليس مرادها بقولها قد أبدلك الله خيرا منها أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة؛ فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل كما قال: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } 82.

وقال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } 83 الآية..

وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا، وبجانبها طرقا يقتصر عليها أهل الشيع وغيرهم ولا يعدلون بخديجة أحدا من النساء لسلام الرب عليها، وكون ولد النبي جميعهم - إلا إبراهيم - منها، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت إكراما لها وتقدير إسلامها، وكونها من الصدِّيقات ولها مقام صدق في أول البعثة، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله .

وأما أهل السنة فمنهم من يغلو أيضا ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة لكونها ابنة الصديق، ولكونها أعلم من خديجة؛ فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها، ولم يكن الرسول يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها، ونزلت براءتها من فوق سبع سموات، وروت بعده عنه عليه السلام علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه.

حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور: «خذوا شطر دينكم عن الحميراء».

والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره، والأحسن التوقف في ذلك إلى الله عز وجل.

ومن ظهر له دليل يقطع به، أو يغلب على ظنه في هذا الباب فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ومن حصل له توقف في هذه المسألة أو في غيرها فالطريق الأقوم، والمسلك الأسلم أن يقول الله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي والنسائي، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائها خديجة بنت خويلد» أي: خير زمانهما.

وروى شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه قرة بن إياس رضي الله عنه.

قال: قال رسول الله : «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»..

رواه ابن مردويه في (تفسيره) وهذا إسناد صحيح إلى شعبة وبعده.

قالوا: والقدر المشترك بين الثلاث نسوة؛ آسية ومريم وخديجة أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا، وأحسنت الصحبة في كفالتها وصدقته.

فآسية: ربت موسى وأحسنت إليه وصدقته حين بعث.

ومريم: كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها وصدقته حين أرسل.

وخديجة: رغبت في تزويج رسول الله بها، وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز وجل.

وقوله: «وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» هو ثابت في (الصحيحين) من طريق شعبة أيضا، عن عمرو بن مرة، عن مرة الطيب الهمداني، عن أبي موسى الأشعري.

قال: قال رسول الله : «كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام».

والثريد: هو الخبز واللحم جميعا، وهو أفخر طعام العرب كما قال بعض الشعراء:

إذا ما الخبز تأدمه بلحم * فذاك أمانة الله الثريد

ويحمل قوله: «وفضل عائشة على النساء» أن يكون محفوظا فيعم النساء المذكورات وغيرهن، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوف يحتمل التسوية بينهن، فيحتاج من رجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج والله أعلم.

فصل في تزويجه صلى الله عليه وسلم بعد خديجة رضي الله عنها بعائشة بنت الصديق وسودة بنت زمعة رضي الله عنهما

والصحيح أن عائشة تزوجها أولا كما سيأتي.

قال البخاري في باب تزويج عائشة: حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن النبي قال لها: «أريتك في المنام، مرتين أرى أنك في سرقة من حرير ويقول هذه امرأتك، فأكشف عنها فإذا هي أنت، فأقول إن كان هذا من عند الله يمضه».

قال البخاري باب نكاح الأبكار.

وقال ابن أبي مليكة: قال ابن عباس لعائشة: لم ينكح النبي بكرا غيرك.

حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله أرأيت لو نزلت واديا وفيه شجرة قد أكل منها، ووجدت شجرة لم يؤكل منها في أيها كنت ترتع بعيرك؟

قال: «في التي لم يرتع منها» تعني أن النبي لم يتزوج بكرا غيرها.

انفرد به البخاري ثم قال: حدثنا عبيد بن إسماعيل، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: قال لي رسول الله : «أريتك في المنام فيجيء بك الملك في سرقة من حرير فقال لي: هذه امرأتك، فكشفت عن وجهك الثوب؛ فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه».

وفي رواية: «أريتك في المنام ثلاث ليال».

وعند الترمذي: أن جبريل جاءه بصورتها في خرقة من حرير خضراء فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.

وقال البخاري في باب تزويج الصغار من الكبار؛ حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث بن يزيد، عن عراك، عن عروة: أن رسول الله خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك.

فقال: «أنت أخي في دين الله وكتابه وهي لي حلال».

هذا الحديث ظاهر سياقه كأنه مرسل، وهو عند البخاري والمحققين متصل لأنه من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها.

وهذا من إفراد البخاري رحمه الله.

وقال يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

قال: تزوج رسول الله عائشة بعد خديجة بثلاث سنين، وعائشة يومئذ ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع، ومات رسول الله وعائشة ابنة ثمانية عشرة سنة، وهذا غريب.

وقد روى البخاري، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه.

قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي بثلاث سنين فلبث سنتين - أو قريبا من ذلك - ونكح عائشة وهي بنت ست سنين، ثم بنى بها وهي بنت تسع سنين.

وهذا الذي قاله عروة مرسل في ظاهر السياق كما قدمنا، ولكنه في حكم المتصل في نفس الأمر.

وقوله: تزوجها وهي ابنة ست سنين وبنى بها وهي ابنة تسع ما لا خلاف فيه بين الناس - وقد ثبت في (الصحاح) وغيرها - وكان بناؤه بها عليه السلام في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة.

وأما كون تزويجها كان بعد موت خديجة بنحو ثلاث سنين ففيه نظر.

فإن يعقوب بن سفيان الحافظ قال: حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: تزوجني رسول الله متوفى خديجة قبل مخرجه من مكة، وأنا ابنة سبع - أو ست سنين - فلما قدمنا المدينة جاءني نسوة وأنا ألعب في أرجوحة وأنا مجممة، فهيآنني وصنعنني، ثم أتين بي إلى رسول الله فبنى بي وأنا ابنة تسع سنين.

فقوله في هذا الحديث: - متوفى خديجة - يقتضي أنه على أثر ذلك قريبا، اللهم إلا أن يكون قد سقط من النسخة بعد متوفى خديجة فلا ينفي ما ذكره يونس بن بكير، وأبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، والله أعلم.

وقال البخاري: حدثنا فروة بن أبي المغراء، حدثنا علي بن مسهر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: تزوجني النبي وأنا بنت ست سنين، فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج

فوعكت فتمزق شعري، وقد وفت لي جميمة، فأتتني أمي أم رومان، وإني لفي أرجوحة ومعي صواحب لي، فصرخت بي فأتيتها ما أدري ما تريد مني، فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار، وإني لأنهج حتى سكن بعض نفسي، ثم أخذت شيئا من ماء فمست به وجهي ورأسي، ثم أدخلتني الدار.

قال: فإذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فأسلمتني إليهن فأصلحن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله ضحىً، فأسلمنني إليه وأنا يومئذٍ بنت تسع سنين.

وقال الإمام أحمد في مسند عائشة أم المؤمنين: حدثنا محمد بن بشر، حدثنا بشر، حدثنا محمد بن عمرو، حدثنا أبو سلمة ويحيى قالا: قالت عائشة: لما هلكت خديجة جاءت خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون فقالت: يا رسول الله ألا تزوج؟

قال: «من؟».

قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.

قال: «فمن البكر؟».

قالت: أحب خلق الله إليك عائشة ابنة أبي بكر.

قال: «ومن الثيب؟».

قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.

قال: «فاذهبي فاذكريهما علي».

فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟

قالت: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة.

قالت: انظري أبا بكر حتى يأتي، فجاء أبو بكر فقلت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟

قال: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله أخطب عليه عائشة.

قال: وهل تصلح له إنما هي ابنة أخيه، فرجعت إلى رسول الله فذكرت ذلك له.

قال: «ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لي».

فرجعت فذكرت ذلك له.

قال: انتظري وخرج.

قالت أم رومان: إن مطعم بن عدي قد ذكرها على ابنه، ووالله ما وعد أبو بكر وعدا قط فأخلفه، فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الصبي فقالت: يا ابن أبي قحافة لعلك مصبي صاحبنا تدخله في دينك الذي أنت عليه إن تزوج إليك؟

فقال أبو بكر للمطعم ابن عدي: أقول هذه تقول؟

قال: إنها تقول ذلك.

فخرج من عنده وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عِدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله ، فدعته فزوجها إياه وعائشة يومئذٍ بنت ست سنين.

ثم خرجت فدخلت على سودة بنت زمعة فقالت: ما أدخل الله عليك من الخير والبركة؟

قالت: وما ذاك؟

قالت: أرسلني رسول الله أخطبك إليه.

قالت: وددت، ادخلي إلى أبي - بكر - فاذكري ذلك له - وكان شيخا كبيرا قد أدركه السن قد تخلف عن الحج - فدخلت عليه فحييته بتحية الجاهلية.

فقال: من هذه؟

قالت: خولة بنت حكيم.

قال: فما شأنك؟

قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة.

فقال: كفؤ كريم ماذا تقول صاحبتك؟

قالت: تحب ذلك.

قال: ادعيها إلي، فدعتها.

قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل بخطبتك وهو كفؤ كريم، أتحبين أن أزوجك به؟

قالت: نعم.

قال: ادعيه لي، فجاء رسول الله فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجاء يحثي على رأسه التراب.

فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيه يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله سودة بنت زمعة.

قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنح.

قالت: فجاء رسول الله فدخل بيتنا واجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتني أمي وأنا لفي أرجوحة بين عذقين يرجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جميمة ففرقتها، ومسحت وجهي بشيء من الماء.

ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الأنصار، فأجلستني في حجرة ثم قالت: هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهم، وبارك لهم فيك.

فوثب الرجال والنساء فخرجوا، وبنى بي رسول الله في بيتنا ما نحرت علي جزور، ولا ذبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله إذا دار إلى نسائه، وأنا يومئذٍ ابنة تسع سنين.

وهذا السياق كأنه مرسل وهو متصل لما رواه البيهقي من طريق أحمد بن عبد الجبار: حدثنا عبد الله بن إدريس الأزدي، عن محمد بن عمرو، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قالت عائشة: لما ماتت خديجة جاءت خولة بنت حكيم فقالت يا رسول الله: ألا تزوج؟

قال: «ومن؟».

قالت: إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا.

قال: «من البكر ومن الثيب؟».

قالت: أما البكر فابنة أحب خلق الله إليك: عائشة، وأما الثيب: فسودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك.

قال: «فاذكريهما علي». وذكر تمام الحديث نحو ما تقدم.

وهذا يقتضي أن عقده على عائشة كان متقدما على تزويجه بسودة بنت زمعة، ولكن دخوله على سودة كان بمكة، وأما دخوله على عائشة فتأخر إلى المدينة في السنة الثانية كما تقدم، وكما سيأتي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود، حدثنا شريك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة.

قالت: لما كبرت سودة وهبت يومها لي، فكان رسول الله يقسم لي بيومها مع نسائه.

قالت: وكانت أول امرأة تزوجها بعدي.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثني شهر، حدثني عبد الله بن عباس: أن رسول الله خطب امرأة من قومه يقال لها سودة، وكانت مصبية كان لها خمس صبية - أو ست من بعلها - مات.

فقال رسول الله : «ما يمنعك مني؟».

قالت: والله يا نبي الله ما يمنعني منك أن لا تكون أحب البرية إلي، ولكني أكرمك أن يمنعوا هؤلاء الصبية عند رأسك بكرة وعشية.

قال: «فهل منعك مني غير ذلك؟».

قالت: لا والله.

قال لها رسول الله : «يرحمك الله إن خير نساء ركبن أعجاز الإبل، صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على بعل بذات يده».

قلت: وكان زوجها قبله عليه السلام السكران بن عمرو أخو سهيل بن عمرو، وكان ممن أسلم وهاجر إلى الحبشة كما تقدم.

ثم رجع إلى مكة فمات بها قبل الهجرة رضي الله عنه.

هذه السياقات كلها دالة على أن العقد على عائشة كان متقدما على العقد بسودة، وهو قول عبد الله بن محمد بن عقيل.

ورواه يونس، عن الزهري، واختار ابن عبد البر أن العقد على سودة قبل عائشة، وحكاه عن قتادة وأبي عبيد.

قال: ورواه عقيل عن الزهري.

فصل اجتراء قريش على رسول الله بعد وفاة عمه أبي طالب

قد تقدم ذكر موت أبي طالب عم رسول الله ، وأنه كان ناصرا له وقائما في صفه ومدافعا عنه بكل ما يقدر عليه من نفس ومال ومقال وفعال، فلما مات اجترأ سفهاء قريش على رسول الله ، ونالوا منه ما لم يكونوا يصلون إليه ولا يقدرون عليه.

كما قد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم: حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله بن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق، عمن حدثه، عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن جعفر.

قال: لما مات أبو طالب عرض لرسول الله سفيه من سفهاء قريش، فألقى عليه ترابا، فرجع إلى بيته فأتت امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: «أي بنية لا تبكين فإن الله مانع أباك».

ويقول ما بين ذلك: «ما نالت قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا».

قد رواه زياد البكائي، عن محمد بن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه مرسلا، والله أعلم.

وروى البيهقي أيضا، عن الحاكم وغيره، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله قال: «ما زالت قريش كاعين حتى مات أبو طالب».

ثم رواه عن الحاكم، عن الأصم، عن عباس الدوري، عن يحيى بن معين، حدثنا عقبة المجدر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي .

قال: «ما زالت قريش كاعة حتى توفي أبو طالب».

وقد روى الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي بسنده عن ثعلبة بن صغير، وحكيم بن حزام أنهما قالا: لما توفي أبو طالب وخديجة - وكان بينهما خمسة أيام - اجتمع على رسول الله مصيبتان، ولزم بيته وأقل الخروج، ونالت منه قريش ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاءه فقال: يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيا فاصنعه، لا واللات لا يوصل إليك حتى أموت.

وسبَّ ابن الغيطلة رسول الله فأقبل إليه أبو لهب فنال منه، فولى يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة، فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب، ولكني أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد.

فقالوا: لقد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم، فمكث رسول الله كذلك أياما يأتي ويذهب لا يعرض له أحد من قريش، وهابوا أبا لهب إذ جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل إلى أبي لهب فقالا له: أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟

فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟

قال: «مع قومه».

فخرج إليهما فقال: قد سألته فقال: مع قومه.

فقالا: يزعم أنه في النار.

فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟

فقال رسول الله : «ومن مات على ما مات عليه عبد المطلب دخل النار»

فقال: أبو لهب - لعنه الله - والله لا برحت لك إلا عدوا أبدا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار، واشتد عند ذلك أبو لهب وسائر قريش عليه.

قال ابن إسحاق: وكان النفر الذين يؤذون رسول الله في بيته: أبو لهب، والحكم بن أبي العاص بن أمية، وعقبة بن أبي معيط، وعدي بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي - وكانوا جيرانه - لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص.

وكان أحدهم - فيما ذكر لي - يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول الله حجرا يستتر به منهم إذا صلى، فكان إذا طرحوا شيئا من ذلك يحمله على عود، ثم يقف به على بابه، ثم يقول: «يا بني عبد مناف أي جوار هذا؟» ثم يلقيه في الطريق.

قلت: وعندي أن غالب ما روي مما تقدم من طرحهم سلا الجزور بين كتفيه وهو يصلي.

كما رواه ابن مسعود وفيه أن فاطمة جاءت فطرحته عنه وأقبلت عليهم فشتمتهم، ثم لما انصرف رسول الله دعا على سبعة منهم كما تقدم.

وكذلك ما أخبر به عبد الله بن عمرو بن العاص من خنقهم له عليه السلام خنقا شديدا حتى حال دونه أبو بكر الصديق قائلا: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟

وكذلك عزم أبي جهل - لعنه الله - على أن يطأ على عنقه وهو يصلي فحيل بينه وبين ذلك، وما أشبه ذلك كان بعد وفاة أبي طالب، والله أعلم.

فذكرها ههنا أنسب وأشبه.

فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله

قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي.

قال: انتهى رسول الله إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف.

وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.

فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.

وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟

وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.

فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: «إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي».

وكره رسول الله أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه.

ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.

وقد لقي رسول الله - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك؟».

فلما اطمأن قال - فيما ذكر -: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك».

قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا يقال له: عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس.

ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله ، ثم قال له: كل.

فلما وضع رسول الله يده فيه قال: «بسم الله».

ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.

فقال له رسول الله : «ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك؟».

قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.

فقال رسول الله : «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى».

فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟

فقال رسول الله : «ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي».

فأكب عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه.

قال: يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟

قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.

قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.

وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء، وزاد: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.

ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم.

وقد روى الإمام أحمد، عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه: أنه أبصر رسول الله في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: { والسماء والطارق } حتى ختمها.

قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام.

قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟

فقرأتها عليهم.

فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.

وثبت في (الصحيحين) من طريق عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته: أنها قالت لرسول الله : هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟

قال: «ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال:

إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم علي ثم قال: يا محمد! قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين؟».

فقال رسول الله : «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».

فصل سماع الجن لقراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام

وقد ذكر محمد بن إسحاق سماع الجن لقراءة رسول الله ، وذلك مرجعه من الطائف حين بات بنخلة وصلى بأصحابه الصبح، فاستمع الجن الذين صرفوا إليه قراءته هنالك.

قال ابن إسحاق: وكانوا سبعة نفر من جن أهل نصيبين وأنزل الله تعالى فيهم قوله: { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرا مِنَ الْجِنِّ } 84.

قلت: وقد تكلمنا على ذلك مستقصى في التفسير، وتقدم قطعة من ذلك والله أعلم.

ثم دخل رسول الله مكة مرجعه من الطائف في جوار المطعم بن عدي، وازداد قومه عليه حنقا وغيظا وجرأةً وتكذيبا وعنادا، والله المستعان وعليه التكلان.

وقد ذكر الأموي في (مغازيه): أن رسول الله بعث أريقط إلى الأخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة.

فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها، ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي، فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره فقال: نعم قل له: فليأت.

فذهب إليه رسول الله فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة - أو سبعة - متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد وقال لرسول الله : طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم فقال: أمجير أو تابع؟

قال: لا بل مجير.

قال: إذا لا تخفر، فجلس معه حتى قضى رسول الله طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه وذهب أبو سفيان إلى مجلسه.

قال: فمكث أياما، ثم أذن له في الهجرة فلما هاجر رسول الله إلى المدينة توفي مطعم بن عدي بعده بيسير.

فقال حسان بن ثابت: والله لأرثينه فقال فيما قال:

فلو كان مجد مخلد اليوم واحد * من الناس نحي مجده اليوم مطعما

أجرت رسول الله منهم فأصبحوا * عبادك ما لبى محل وأحرما

فلو سئلت عنه معد بأسرها * وقحطان أو باقي بقية جرهما

لقالوا هو الموفي بخفرة جاره * وذمته يوما إذا ما تجشما

وما تطلع الشمس المنيرة فوقهم * على مثله فيهم أعز وأكرما

إباءً إذا يأبى وألين شيمة * وأنوم عن جار إذا الليل أظلما

قلت: ولهذا قال النبي يوم أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النقباء لوهبتهم له».

فصل في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على أحياء العرب

قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله مكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله يعرض نفسه في المواسم - إذا كانت - على قبائل العرب يدعوهم إلى الله عز وجل، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.

قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا من لا أتهم، عن زيد بن أسلم، عن ربيعة بن عباد الدؤلي - ومن حدثه أبو الزناد عنه - وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال: سمعت ربيعة عباد يحدثه أبي قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله يقف على منازل القبائل من العرب فيقول: «يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به».

قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية، فإذا فرغ رسول الله من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

قال: فقلت لأبي يا أبت من هذا الرجل الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟

قال: هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب.

وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث عن إبراهيم بن أبي العباس: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: أخبرني رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الدئل وكان جاهليا فأسلم.

قال: رأيت رسول الله في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا». والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب يتبعه حيث ذهب.

فسألت عنه فقالوا: هذا عمه أبو لهب.

ورواه البيهقي من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة الدئلي: رأيت رسول الله بسوق ذي المجاز يتبع الناس في منازلهم يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول تقد وجنتاه وهو يقول: أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم.

قلت: من هذا؟

قالوا: هذا أبو لهب.

وكذا رواه أبو نعيم في (الدلائل) من طريق ابن أبي ذئب، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام كلاهما عن محمد بن المنكدر به نحوه.

ثم رواه البيهقي من طريق شعبة، عن الأشعث بن سليم، عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول الله بسوق ذي المجاز وهو يقول: «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».

وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب فإذا هو أبو جهل وهو يقول: يا أيها الناس لا يغرنكم هذا عن دينكم، فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى.

كذا قال في هذا السياق أبو جهل.

وقد يكون وهما ويحتمل أن يكون تارة يكون ذا، وتارة يكون ذا، وأنهما كانا يتناوبان على إذائه .

قال ابن إسحاق: وحدثني ابن شهاب الزهري: أنه عليه السلام أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه، فأبوا عليه.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول: «يا بني عبد الله إن الله قد أحسن اسم أبيكم»، فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.

وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه، فلم يك أحد من العرب أقبح ردا عليه منهم.

وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس: والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

ثم قال له: أرأيت إن نحن تابعناك في أمرك ثم أظهرك الله على من يخالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟

قال: «الأمر لله يضعه حيث يشاء».

قال: فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا! لا حاجة لنا بأمرك فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم، قد كان أدركه السن حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم.

فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا.

قال: فوضع الشيخ يده على رأسه، ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف؟ هل لذناباها من مطلب؟ والذي نفس فلان بيده ما تقوَّلها إسماعيلي قط، وإنها لحق فأين رأيكم كان عنكم؟

وقال موسى بن عقبة عن الزهري: فكان رسول الله في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم لا يسألهم مع ذلك إلا أن يؤوه ويمنعوه، ويقول: «لا أُكره أحدا منكم على شيء من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد أن تحرزوني فيما يراد لي من القتل حتى أبلغ رسالة ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء».

فلم يقبله أحد منهم وما يأت أحدا من تلك القبائل إلا قال: قوم الرجل أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه ولفظوه؟! وكان ذلك مما ذخره الله للأنصار وأكرمهم به.

وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال: قال لي رسول الله : «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس».

وكانت مجمع العرب قال: فقلت: هذه كندة ولفها وهي أفضل من يحج البيت من اليمن وهذه منازل بكر بن وائل، وهذه منازل بني عامر بن صعصعة، فاختر لنفسك؟

قال: فبدأ بكندة فأتاهم، فقال: «ممن القوم؟».

قالوا: من أهل اليمن.

قال: «من أي اليمن؟».

قالوا: من كندة.

قال: «من أي كندة؟».

قالوا: من بني عمرو بن معاوية.

قال: «فهل لكم إلى خير؟».

قالوا: وما هو؟

قال: «تشهدون أن لا إله إلا الله وتقيمون الصلاة وتؤمنون بما جاء من عند الله».

قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟

فقال رسول الله : «إن الملك لله يجعله حيث يشاء».

فقالوا: لا حاجة لنا فيما جئتنا به.

وقال الكلبي: فقالوا: أجئتنا لتصدنا عن آلهتنا وننابذ العرب، الحق بقومك فلا حاجة لنا بك.

فانصرف من عندهم فأتى بكر بن وائل فقال: «ممن القوم؟».

قالوا: من بكر بن وائل.

فقال: «من أي بكر بن وائل؟».

قالوا: من بني قيس بن ثعلبة.

قال: «كيف العدد؟».

قالوا: كثير مثل الثرى.

قال: «فكيف المنعة؟».

قالوا: لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم.

قال: «فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين».

قالوا: ومن أنت؟

قال: «أنا رسول الله».

ثم انطلق فلما ولى عنهم قال الكلبي: وكان عمه أبو لهب يتبعه فيقول للناس: لا تقبلوا قوله، ثم مر أبو لهب فقالوا: هل تعرف هذا الرجل؟

قال: نعم هذا في الذروة منا فعن أي شأنه تسألون؟

فأخبروه بما دعاهم إليه وقالوا: زعم أنه رسول الله.

قال: ألا لا ترفعوا برأسه قولا فإنه مجنون يهذي من أم رأسه.

قالوا: قد رأينا ذلك حين ذكر من أمر فارس ما ذكر.

قال الكلبي: فأخبرني عبد الرحمن المعايري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول الله ونحن بسوق عكاظ فقال: «ممن القوم؟».

قلنا: من بني عامر بن صعصعة.

قال: «من أي بني عامر بن صعصعة؟».

قالوا: بنو كعب بن ربيعة.

قال: «كيف المنعة فيكم؟».

قلنا: لا يرام ما قبلنا، ولا يسطلى بنارنا.

قال: فقال لهم: «إني رسول الله وآتيكم لتمنعوني حتى أبلغ رسالة ربي ولاأُكره أحدا منكم على شيء».

قالوا: ومن أي قريش أنت؟

قال: «من بني عبد المطلب».

قالوا: فأين أنت من عبد مناف؟

قال: «هم أول من كذبني وطردني».

قالوا: ولكنا لا نطردك ولا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلغ رسالة ربك.

قال: فنزل إليهم والقوم يتسوقون، إذ أتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال: من هذا الرجل أراه عندكم أنكره؟.

قالوا: محمد بن عبد الله القرشي.

قال: فما لكم وله؟

قالوا: زعم لنا أنه رسول الله فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلغ رسالة ربه.

قال: ماذا رددتم عليه؟

قالوا: بالترحيب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك ما نمنع به أنفسنا.

قال بحيرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشد من شيء ترجعون به بدأ تم ثم لتنابذوا الناس وترميكم العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به لو آنسوا منه خيرا لكانوا أسعد الناس به، أتعمدون إلى زهيق قد طرده قومه وكذبوه فتؤوونه وتنصرونه فبئس الرأي رأيتم.

ثم أقبل على رسول الله فقال: قم فالحق بقومك، فوالله لولا أنك عند قومي لضربت عنقك.

قال: فقام رسول الله إلى ناقته فركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول الله فألقته.

وعند بني عامر يومئذٍ ضباعة ابنة عامر بن قرط، كانت من النسوة اللاتي أسلمن مع رسول الله بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا آل عامر - ولا عامر لي - أيصنع هذا برسول الله بين أظهركم لا يمنعه أحد منكم؟

فقام ثلاثة من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه، فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما، فقال رسول الله : «اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء»

قال: فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء وهم: غطيف، وغطفان ابنا سهل، وعروة - أو عذرة - بن عبد الله بن سلمة رضي الله عنهم.

وقد روى هذا الحديث بتمامه الحافظ سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في (مغازيه) عن أبيه به.

وهلك الآخرون: وهم بيحرة بن فراس، وحزن بن عبد الله بن سلمة بن قشير، ومعاوية بن عبادة أحد بني عقيل - لعنهم الله لعنا كثيرا -، وهذا أثر غريب كتبناه لغرابته والله أعلم.

وقد روى أبو نعيم له شاهدا من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة عامر بن صعصعة وقبيح ردهم عليه وأغرب من ذلك وأطول ما رواه أبو نعيم والحاكم والبيهقي - والسياق لأبي نعيم رحمهم الله - من حديث أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس حدثني علي بن أبي طالب

قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدما في كل خير، وكان رجلا نسابة.

فقال: ممن القوم؟

قالوا: من ربيعة.

قال: وأي ربيعة أنتم أمن هامها أم من لهازمها؟.

قالوا: بل من هامها العظمى.

قال أبو بكر: فمن أي هامتها العظمى أنتم؟

فقالوا: ذهل الأكبر.

قال لهم أبو بكر: منكم عوف الذي كان يقال له لاحر بوادي عوف؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم بسطام بن قيس: أبو اللواء ومنتهى الأحياء؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم الحوفزان بن شريك قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم جساس بن مرة بن ذهل حامي الذمار ومانع الجار؟

قالوا: لا.

قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟

قالوا: لا.

قال: فأنتم أصهار الملوك من لخم؟

قالوا: لا.

قال لهم أبو بكر رضي الله عنه: فلستم بذهل الأكبر بل أنتم من ذهل الأصغر.

قال: فوثب إليه منهم غلام يدعى دغفل بن حنظلة الذهلي - حين بقل وجهه - فأخذ بزمام ناقة أبي بكر وهو يقول:

إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا نعرفه أو نحمله

يا هذا إنك سألتنا فأخبرناك ولم نكتمك شيئا، ونحن نريد أن نسألك فمن أنت؟

قال: رجل من قريش.

فقال الغلام: بخ بخ أهل السؤدد والرئاسة قادمة العرب وهاديها فمن أنت من قريش؟

فقال له: رجل من بني تيم بن مرة.

فقال له الغلام: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة؟ أفمنكم قصي بن كلاب الذي قتل بمكة المتغلبين عليها وأجلى بقيتهم، وجمع قومه من كل أوب حتى أوطنهم مكة، ثم استولى على الدار، وأنزل قريشا منازلها فسمته العرب بذلك مجمعا وفيه يقول الشاعر:

أليس أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عبد مناف الذي انتهت إليه الوصايا وأبو الغطاريف السادة؟

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عمرو بن عبد مناف هاشم الذي هشم الثريد لقومه ولأهل مكة ففيه يقول الشاعر:

عمرو العلا هشم الثريد لقومه * ورجال مكة مسنون عجاف

سنُّوا إليه الرحلتين كليهما * عند الشتاء ورحلة الأصياف

كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخُّ خالصةٌ لعبد مناف

الرايشين وليس يعرف رايشٌ * والقائلين هلمَّ للأضياف

والضاربين الكبش يبرق بيضه * والمانعين البيض بالأسياف

لله درك لو نزلت بدارهم * منعوك من أزل ومن إقراف

فقال أبو بكر: لا.

قال: فمنكم عبد المطلب شيبة الحمد، وصاحب عير مكة، ومطعم طير السماء والوحوش والسباع في الفلا الذي كأن وجهه قمر يتلألأ في الليلة الظلماء؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الإفاضة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الندوة أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل السقاية أنت؟

قال: لا.

قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟

قال: لا.

قال: فمن المفيضين أنت؟

قال: لا.

ثم جذب أبو بكر رضي الله عنه زمام ناقته من يده

فقال له الغلام:

صادف درَّ السيلِ درٌّ يدفعه * يَهيضه حينا وحينا يرفعه

ثم قال: أما والله يا أخا قريش لو ثبت لخبرتك أنك من زمعات قريش ولست من الذوائب.

قال: فأقبل إلينا رسول الله يتبسم.

قال علي: فقلت له: يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة

فقال: أجل يا أبا الحسن إنه ليس من طامة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكل بالقول.

قال: ثم انتهينا إلى مجلس عليه السكينة والوقار، وإذا مشايخ لهم أقدار وهيئات، فتقدم أبو بكر فسلم - قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير - فقال لهم أبو بكر: ممن القوم؟

قالوا: من بني شيبان بن ثعلبة.

فالتفت إلى رسول الله فقال: بأبي أنت وأمي ليس بعد هؤلاء من عز في قومهم.

وفي رواية: ليس وراء هؤلاء عذر من قومهم، وهؤلاء غرر في قومهم، وهؤلاء غرر الناس.

وكان في القوم مفروق ابن عمرو، وهانئ بن قبيصة، والمثنى بن حارثة، والنعمان بن شريك، وكان أقرب القوم إلى أبي بكر مفروق بن عمرو، وكان مفروق بن عمرو قد غلب عليهم بيانا ولسانا، وكانت له غديرتان تسقطان على صدره، فكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر.

فقال له أبو بكر: كيف العدد فيكم؟

فقال له: إنا لنزيد على ألف ولن تغلب ألف من قلة.

فقال له: فكيف المنعة فيكم؟

فقال: علينا الجهد ولكل قوم جد.

فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟

فقال مفروق: إنا أشدُّ ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا أخرى لعلك أخو قريش؟

فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو هذا..

فقال مفروق: قد بلغنا أنه يذكر ذلك فإلى ما تدعو يا أخا قريش، ثم التفت إلى رسول الله ، فجلس وقام أبو بكر يظله بثوبه فقال : «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به، فإن قريشا قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد».

قال له: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟

فتلا رسول الله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا } إلى قوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } 85.

فقال له مفروق: وإلى ما تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فوالله ما هذا من كلام أهل الأرض، ولو كان من كلامهم لعرفناه.

فتلا رسول الله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } 86.

فقال له مفروق: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك، وكأنه أحب أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة.

فقال: وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا.

فقال له هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وصدقت قولك، وإني أرى أن تركنا ديننا واتِّباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لم نتفكر في أمرك، وننظر في عاقبة ما تدعو إليه زلة في الرأي، وطيشة في العقل، وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة، وإن من ورائنا قوما نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى بن حارثة.

فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.

فقال المثنى: قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش، وأعجبني ما تكلمت به.

والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة وتركنا ديننا واتِّباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا وإنا إنما نزلنا بين صريين أحدهما اليمامة، والآخر السماوة.

فقال له رسول الله : وما هذان الصريان؟

فقال له: أما أحدهما: فطفوف البر وأرض العرب، وأما الآخر: فأرض فارس وأنهار كسرى، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا، ولا نؤوي محدثا.

ولعل هذا الأمر الذي تدعونا إليه مما تكرهه الملوك، فأما ما كان مما يلي بلاد العرب فذنب صاحبه مغفور، وعذره مقبول، وأما ما كان يلي بلاد فارس فذنب صاحبه غير مغفور، وعذره غير مقبول.

فإن أردت أن ننصرك ونمنعك مما يلي العرب فعلنا.

فقال رسول الله : «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق إنه لا يقوم بدين الله إلا من حاطه من جميع جوانبه».

ثم قال رسول الله : «أرأيتم إن لم تلبثوا إلا يسيرا حتى يمنحكم الله بلادهم وأموالهم ويفرشكم بناتهم أتسبحون الله وتقدسونه؟».

فقال له النعمان ابن شريك: اللهم وإن ذلك لك يا أخا قريش!

فتلا رسول الله : { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا وَمُبَشِّرا وَنَذِيرا * وَدَاعِيا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجا مُنِيرا } 87.

ثم نهض رسول الله قابضا على يدي أبي بكر.

قال علي: ثم التفت إلينا رسول الله

فقال يا علي: «أية أخلاق للعرب كانت في الجاهلية - ما أشرفها - بها يتحاجزون في الحياة الدنيا».

قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي .

قال علي: وكانوا صدقاء صبراء فسرَّ رسول الله من معرفة أبي بكر رضي الله عنه بأنسابهم.

قال: فلم يلبث رسول الله إلا يسيرا حتى خرج إلى أصحابه فقال لهم: «احمدوا الله كثيرا فقد ظفرت اليوم أبناء ربيعة بأهل فارس، قتلوا ملوكهم واستباحوا عسكرهم وبي نصروا».

قال: وكانت الوقعة بقراقر إلى جنب ذي قار وفيها يقول الأعشى:

فدى لبني ذُهلِ بن شيبان ناقتي * وراكبها عند اللقاء وقلَّت

هموا ضربوا بالحنو حنو قراقر * مقدمة الهامرز حتى تولت

فلله عينا من رأى من فوارسٍ * كذهل بن شيبان بها حين ولت

فثاروا وثرنا والمودة بيننا * وكانت علينا غمرة فتجلت

هذا حديث غريب جدا كتبناه لما فيه من دلائل النبوة ومحاسن الأخلاق ومكارم الشيم وفصاحة العرب، وقد ورد هذا من طريق أخرى

وفيه: أنهم لما تحاربوا هم وفارس والتقوا معهم بقراقر مكان قريب من الفرات جعلوا شعارهم: اسم محمد فنصروا على فارس بذلك، وقد دخلوا بعد ذلك في الإسلام.

وقال الواقدي: أخبرنا عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول الله في منازلنا بمنى ونحن نازلون بإزاء الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف، وهو على راحلته مردفا خلفه زيد بن حارثة، فدعانا فوالله ما استجبنا له ولا خير لنا، قال: وقد كنا سمعنا به وبدعائه في المواسم، فوقف علينا يدعونا فلم نستجب له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا: أحلف بالله لو قد صدقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحل به وسط بلادنا لكان الرأي.

فأحلف بالله ليظهرن أمره حتى يبلغ كل مبلغ.

فقال القوم: دعنا منك لا تعرضنا لما لا قِبل لنا به.

وطمع رسول الله في ميسرة فكلمه.

فقال ميسرة: ما أحسن كلامك وأنوره، ولكن قومي يخالفونني وإنما الرجل بقومه فإذا لم يعضدوه فالعدى أبعد.

فانصرف رسول الله وخرج القوم صادرين إلى أهليهم.

فقال لهم ميسرة: ميلوا نأتي فدك فإن بها يهودا نسائلهم عن هذا الرجل.

فمالوا إلى يهود فأخرجوا سِفرا لهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول الله النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزي بالكسرة ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بالجعد ولا بالسبط، في عينيه حمرة مشرق اللون.

فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه، وإنا منه في مواطن بلاء عظيم ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه وإلا قاتله فكونوا ممن يتبعه.

فقال ميسرة: يا قوم ألا إن هذا الأمر بيـِّن.

فقال القوم: نرجع إلى الموسم ونلقاه فرجعوا إلى بلادهم وأبى ذلك عليهم رجالهم فلم يتبعه أحد منهم.

فلما قدم رسول الله المدينة مهاجرا وحج حجة الوداع لقاه ميسرة فعرفه.

فقال يا رسول الله: والله ما زلت حريصا على اتباعك من يوم أنخت بنا حتى كان ما كان وأبى الله إلا ما ترى من تأخر إسلامي، وقد مات عامة النفر الذين كانوا معي فأين مدخلهم يا رسول الله؟

فقال رسول الله : «كل من مات على غير دين الإسلام فهو في النار».

فقال الحمد لله الذي أنقذني، فأسلم وحسن إسلامه، وكان له عند أبي بكر مكان.

وقد استقصى الإمام محمد بن عمر الواقدي فقص خبر القبائل واحدة واحدة، فذكر عرضه عليه السلام نفسه على بني عامر، وغسان، وبني فزارة، وبني مرة، وبني حنيفة، وبني سليم، وبني عبس، وبني نضر بن هوازن، وبني ثعلبة بن عكابة، وكندة، وكلب، وبني الحارث بن كعب، وبني عذرة، وقيس بن الحطيم وغيرهم.

وسياق أخبارها مطولة وقد ذكرنا من ذلك طرفا صالحا ولله الحمد والمنة..

وقال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، أنا إسرائيل بن يونس، عن عثمان - يعني: ابن المغيرة - عن سالم ابن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله.

قال: كان النبي يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول: «هل من رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل؟»، فأتاه رجل من همدان، فقال: ممن أنت؟

قال الرجل: من همدان.

قال: فهل عند قومك من منعة؟

قال: نعم! ثم إن الرجل خشي أن يخفره قومه فأتى رسول الله فقال: آتيهم فأخبرهم ثم آتيك من عام قابل!

قال: نعم! فانطلق وجاء وفد الأنصار في رجب.

وقد رواه أهل السنن الأربعة من طرق عن إسرائيل به.

وقال الترمذي: حسن صحيح.

فصل قدوم وفد الأنصار لمبايعة رسول الله عليه الصلاة والسلام

في قدوم وفد الأنصار عاما بعد عام حتى بايعوا رسول الله بيعة بعد بيعة، ثم بعد ذلك تحول إليهم رسول الله إلى المدينة.

حديث سويد بن صامت الأنصاري

وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمه: ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم.

فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله .

قال محمد بن إسحاق بن يسار: وكان رسول الله على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده.

قال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ من قومه.

قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا - أو معتمرا - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول:

ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري

مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر

يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر

تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشَّزر

فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني * وخير الموالي من يريشُ ولا يبري

قال: فتصدى له رسول الله حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي.

فقال له رسول الله : «وما الذي معك؟»

قال: مجلة لقمان - يعني: حكمة لقمان -.

فقال رسول الله : «أعرضها علي»، فعرضها عليه.

فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدىً ونور».

فتلا عليه رسول الله القرآن ودعاه إلى الإسلام.

فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن.

ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج.

فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث.

وقد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.

إسلام إياس بن معاذ

قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن لبيد، قال: لما قدم أبو الحيسر، أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله فأتاهم فجلس إليهم، فقال لهم: «هل لكم في خير مما جئتم له؟»

قال: قالوا: وما ذاك؟

قال: «أنا رسول الله إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل عليَّ الكتاب».

ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. : 181)

قال: فقال إياس بن معاذ - وكان غلاما حدثا -: يا قوم هذا والله خير مما جئتم له.

فأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنة من تراب البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا.

قال: فصمت إياس وقام رسول الله عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.

قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك.

قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضرني من قومه أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أنه قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس، حين سمع من رسول الله ما سمع.

قلت: كان يوم بعاث - وبعاث موضع بالمدينة - كانت فيه وقعة عظيمة قتل فيها خلق من أشراف الأوس والخزرج وكبرائهم، ولم يبق من شيوخهم إلا القليل.

وقد روى البخاري في (صحيحه)، عن عبيد بن إسماعيل، عن أبي أمامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان يوم بعاث يوما قدَّمه الله لرسوله، قدم رسول الله إلى المدينة وقد افترق ملاؤهم، وقتل سراتهم.

باب بدء إسلام الأنصار رضي الله عنهم

قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له، خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينا هو عند العقبة لقي رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.

فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله قال لهم: «من أنتم؟»

قالوا: نفر من الخزرج.

قال: «أمن موالي يهود؟»

قالوا: نعم!

قال: «أفلا تجلسون أكلمكم؟»

قالوا: بلى.

فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن.

قال: وكان مما صنع الله بهم في الإسلام أن يهود كانوا معهم في بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم ببلادهم، فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا: إن نبيا مبعوث الآن قد أظل زمانه نتبعه نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

فلما كلَّم رسول الله أولئك النفر ودعاهم إلى الله.

قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله إنه النبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه، فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله راجعين إلى بلادهم قد آمنوا وصدقوا.

قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي ستة نفر كلهم من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار.

قال أبو نعيم: وقد قيل: إنه أول من أسلم من الأنصار من الخزرج.

ومن الأوس: أبو الهيثم بن التيهان.

وقيل: إن أول من أسلم: رافع بن مالك، ومعاذ بن عفراء والله أعلم.

وعوف بن الحارث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم بن مالك بن النجار - وهو ابن عفراء - النجاريان، ورافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق الزرقي، وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غنم بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج السلمي.

ثم من بني سواد، وعقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني حرام، وجابر بن عبد الله بن رئاب بن النعمان بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة السلمي أيضا، ثم من بني عبيد رضي الله عنهم.

وهكذا روي عن الشعبي والزهري وغيرهما: أنهم كانوا ليلتئذٍ ستة نفر من الخزرج.

وذكر موسى بن عقبة فيما رواه عن الزهري، وعروة بن الزبير: أن أول اجتماعه عليه السلام بهم كانوا ثمانية وهم: معاذ بن عفراء، وأسعد بن زرارة، ورافع بن مالك، وذكوان - وهو ابن عبد قيس -، وعبادة بن الصامت، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، وأبو الهيثم بن التيهان، وعويم بن ساعدة.

فأسلموا وواعدوه إلى قابل.

فرجعوا إلى قومهم فدعوهم إلى الإسلام، وأرسلوا إلى رسول الله معاذ بن عفراء ورافع بن مالك: أن ابعث إلينا رجلا يفقهنا.

فبعث إليهم مصعب بن عمير فنزل على أسعد بن زرارة وذكر تمام القصة كما سيوردها ابن إسحاق أتم من سياق موسى بن عقبة. والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله ، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثني عشر رجلا.

وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم ذكره، وعوف بن الحارث المتقدم، وأخوه معاذ - وهما ابنا عفراء -، ورافع بن مالك المتقدم أيضا، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق الزرقي.

قال ابن هشام: وهو أنصاري مهاجري.

وعبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غنم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج، وحليفهم أبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم البلوي، والعباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن يزيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج العجلاني، وعقبة بن عامر بن نابي المتقدم، وقطبة بن عامر بن حديدة المتقدم، فهؤلاء عشرة من الخزرج.

ومن الأوس: اثنان، وهما: عويم بن ساعدة، وأبو الهيثم مالك بن التيهان.

قال ابن هشام: التيهان يخفف ويثقل كميت وميت.

قال السهيلي: أبو الهيثم بن التيهان: اسمه مالك بن مالك بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن عامر بن زعون بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.

قال: وقيل: إنه أراشي.

وقيل: بلوي.

وهذا لم ينسبه ابن إسحاق ولا ابن هشام.

قال: والهيثم فرخ العقاب، وضرب من النبات، والمقصود: أن هؤلاء الاثني عشر رجلا شهدوا الموسم عامئذٍ وعزموا على الاجتماع برسول الله فلقوه بالعقبة فبايعوه عندها بيعة النساء، وهي: العقبة الأولى.

وروى أبو نعيم: أن رسول الله قرأ عليهم من قوله في سورة إبراهيم: { وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا } إلى آخرها.

وقال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن أبي مرثد بن عبد الله اليزني عن عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة - وهو ابن الصامت - قال: كنت ممن حضر العقبة الأولى، وكنا اثني عشر رجلا.

فبايعنا رسول الله على بيعة النساء، وذلك قبل أن يفترض الحرب، على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف.

فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأمركم إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.

وقد روى البخاري ومسلم هذا الحديث من طريق الليث بن سعد، عن يزيد ابن أبي حبيب به نحوه.

قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن عائذ الله أبي إدريس الخولاني: أن عبادة بن الصامت حدثه

قال: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر.

وهذا الحديث مخرج في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الزهري به نحوه.

وقوله: على بيعة النساء - يعني: وفق على ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية - وكان هذا مما نزل على وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة.

وليس هذا عجيب فإن القرآن نزل بموافقة عمر بن الخطاب في غير ما موطن كما بيناه في سيرته وفي التفسير، وإن كانت هذه البيعة وقعت عن وحي غير متلو فهو أظهر. والله أعلم.

قال ابن إسحاق: فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي.

وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.

وقد روى البيهقي، عن ابن إسحاق قال: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رسول الله إنما بعث مصعبا حين كتبوا إليه أن يبعثه إليهم، وهو الذي ذكره موسى بن عقبة كما تقدم، إلا أنه جعل المرة الثانية هي الأولى.

قال البيهقي: وسياق ابن إسحاق أتم.

وقال ابن إسحاق: فكان عبد الله بن أبي بكر يقول: لا أدري ما العقبة الأولى.

ثم يقول ابن إسحاق: بلى لعمري قد كانت عقبة وعقبة.

قالوا كلهم: فنزل مصعب على أسعد بن زرارة فكان يسمى بالمدينة المقرئ.

قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أنه كان يصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض رضي الله عنهم أجمعين.

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كنت قائد أبي حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع الأذان بها صلى على أبي أمامة أسعد بن زرارة.

قال: فمكث حينا على ذلك لا يسمع لأذان الجمعة إلا صلى عليه واستغفر له.

قال: فقلت في نفسي: والله إن هذا بي لعجز، ألا أسأله؟

فقلت: يا أبت مالك إذا سمعت الأذان للجمعة صليت على أبي أمامة؟

فقال: أي بني، كان أول من جمع بنا بالمدينة في هزم النبيت من حرة بني بياضة في بقيع يقال له: بقيع الخضمات.

قال: قلت: وكم أنتم يومئذٍ؟

قال: أربعون رجلا.

وقد روى هذا الحديث أبو داود، وابن ماجه من طريق محمد بن إسحاق رحمه الله.

وقد روى الدار قطني، عن ابن عباس: أن رسول الله كتب إلى مصعب بن عمير يأمره بإقامة الجمعة، وفي إسناده غرابة والله أعلم.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب، وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل، ودار بني ظفر، وكان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطا من حوائط بني ظفر على بئر يقال له: بئر مرق، فجلسا في الحائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلم، وسعد بن معاذ وأسيد بن الحضير، يومئذٍ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه.

فلما سمعا به، قال سعد لأسيد: لا أبالك، انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا، فازجرهما، وإنههما أن يأتيا دارينا فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما.

قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه.

قال مصعب: إن يجلس أكلمه.

قال: فوقف عليهما متشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة.

وقال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه.

قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟

قال: أنصفت، قال: ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن، فقالا - فيما يذكر عنهما - والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟

قالا له تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وتشهَّد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن، سعد بن معاذ.

ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟

قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا.

وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك، قال: فقام سعد بن معاذ مغضبا مبادرا تخوفا للذي ذكر له من بني حارثة، وأخذ الحربة في يده ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئا.

ثم خرج إليهما سعد فلما رآهما مطمئنين، عرف أن أسيدا إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف عليهما متشمتما ثم قال لأسعد بن زرارة: والله يا أبا أمامة والله لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نكره؟

قال: وقد قال أسعد لمصعب: جاءك والله سيد مَنْ ورائه قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان.

قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمرا رغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره؟

قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن.

وذكر موسى بن عقبة: أنه قرأ عليه أول الزخرف.

قال: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه وتسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟

قالا: تغتسل فتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين.

قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عائدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن الحضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال يا بني عبد الأشهل: كيف تعلمون أمري فيكم؟

قالوا: سيدنا وأوصلنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما أو مسلمة.

ورجع سعد ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف، وتلك أوس وهم من الأوس بن حارثة وذلك أنهم كان فيهم أبو قيس بن الأسلت واسمه صيفي.

وقال الزبير بن بكار: اسمه الحارث، وقيل: عبيد الله واسم أبيه الأسلت عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.

وكذا نسبه الكلبي أيضا.

وكان شاعرا لهم قائدا يستمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى كان بعد الخندق.

قلت: وأبو قيس بن الأسلت هذا ذكر له ابن إسحاق أشعارا بائية حسنة تقرب من أشعار أمية بن أبي الصلت الثقفي.

قال ابن إسحاق فيما تقدم: ولما انتشر أمر رسول الله في العرب وبلغ البلدان ذكر بالمدينة ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله حين ذكر، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج، وذلك لما كان يسمعون من أحبار يهود.

فلما وقع أمره بالمدينة وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف قال أبو قيس بن الأسلت أخو بني واقف.

قال السهيلي: هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس واسم أبي أنس قيس بن صرمة بن مالك بن عدي بن عمرو بن غنم بن عدي ابن النجار، قال: وهو الذي أنزل فيه وفي عمر { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } الآية.

قال ابن إسحاق: وكان يحب قريشا، وكان لهم صهرا.

كانت تحته أرنب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي وكان يقيم عندهم السنين بامرأته.

قال قصيدة يعظم فيها الحرمة وينهى قريشا فيها عن الحرب ويذكر فضلهم وأحلامهم ويذكرهم بلاء الله عندهم ودفعه عنهم الفيل وكيده ويأمرهم بالكف عن رسول الله :

أيا راكبا إما عرضت فبلغن * مغلغلةً عني لؤي بن غالب

رسولَ امرئٍ قد راعه ذاتُ بينكم * على النأي محزون بذلك ناصب

وقد كان عندي للهموم معرّس * ولم اقض منها حاجتي ومآربي

نُبِيتُكم شرجين، كل قبيلة * لها أزمل من بين مُذْكٍ وحاطب

أعيذكم بالله من شر صنعكم * وشر تباغيكم ودسِّ العقارب

وإظهار أخلاقٍ ونجوى سقيمة * كوخز الأشافي وقعها حق صائب

فذكرهم بالله أول وهلة * واحلال إحرام الظباء الشوازب

وقل لهم والله يحكم حكمه * ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحِب

متى تبعثوها تبعثوها ذميمةً * هي الغول للأقصين أو للأقارب

تقطع أرحاما وتهلك أمة * وتبري السديف من سنام وغارب

وتستبدلوا بالأتحمية بعدها * شليلا وأصداء ثيابَ المحارب

وبالمسك والكافور غُبرا سوابغا * كأن قتيريها عيونُ الجنادب

فإياكم والحرب لاتعلقنكم * وحوضا وخيم الماء مرَّ المشارب

تزين للأقوام ثم يرونها * بعاقبةٍ إذ بيّتت أمُّ صاحب

تحرق لا تشوي ضعيفا وتنتحي * ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس * فتعتبروا أو كان في حرب حاطب

وكم ذا أصابت من شريف مسود * طويل العماد ضيفه غير خائب

عظيم رماد النار يحمد أمره * وذي شيمة محض كريم المضارب

وماء هُريق في الضلال كأنما * أذاعت به ريح الصبا والجنائب

يخبركم عنها امرؤ حقَّ عالمٍ * بأيامها والعلمُ علمُ التجارب

فبيعوا الحراب ملمُحارب واذكروا * حسابكم والله خير محاسب

وليُّ امرئ فاختار دينا فلا يكن * عليكم رقيبٌ غير رب الثواقب

أقيموا لنا دينا حنيفا فأنتموا * لنا غاية، قد يهتدى بالذوائب

وأنتم لهذا الناس نورٌ وعصمة * تؤمون والأحلام غير عوازب

وأنتم إذا ما حصَّل الناس جوهرٌ * لكم سرة البطحاء شمُّ الأرانب

تصونون أنسابا كراما عتيقةً * مهذبة الأنسابِ غير أشائب

يرى طالبُ الحاجات نحو بيوتكم * عصائبَ هلكى تهتدي بعصائب

لقد علم الأقوام أن سُراتكم * على كل حال خير أهل الجباجب

وأفضله رأيا وأعلاه سُنةً * وأقولُه للحقِّ وسط المواكب

فقوموا فضلوا ربكم وتمسحوا * بأركان هذا البيت بين الأخاشب

فعندكم منه بلاءٌ ومصدقٌ * غداةَ أبي يكسوم هادي الكتائب

كتيبته بالسهل تمشي ورجله * على القاذفات في رءوس المناقب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم * جنود المليك بين سافٍ وحاصب

فولّوا سراعا هاربين ولم يؤب * إلى أهله مِلحُبشِ غيرُ عصائب

فإن تهلكوا نهلِكْ وتهلكْ مواسمٌ * يعاشُ بها قول امرئٍ غيرِ كاذب

وحرب داحس الذي ذكرها أبو قيس في شعره كانت في زمن الجاهلية مشهورة، وكان سببها فيما ذكره أبو عبيد معمر بن المثنى وغيره: أن فرسا يقال له: داحس كانت لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة الغطفاني، أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤبة الغطفاني أيضا يقال لها: الغبراء، فجاءت داحس سابقا فأمر حذيفة من ضرب وجهه فوثب مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء، فقام حمل بن بدر فلطم مالكا.

ثم أن أبا جنيدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله، فشبت الحرب بين بني عبس وفزارة فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر وجماعات آخرون.

وقالوا في ذلك أشعارا كثيرة يطول بسطها وذكرها.

قال ابن هشام: وأرسل قيس داحسا والغبراء وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء، والأول أصح.

قال: وأما حرب حاطبفيعني: حاطب بن الحارث بن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

كان قتل يهوديا جارا للخزرج، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن مالك بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وهو الذي يقال له: ابن قسحم في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا وكان الظفر للخزرج.

وقتل يومئذ الأسود بن الصامت الأوسي، قتله المجذر بن ذياد حليف بني عوف بن الخزرج، ثم كانت بينهم حروب يطول ذكرها أيضا.

والمقصود: أن أبا قيس بن الأسلت مع علمه وفهمه لم ينتفع بذلك حين قدم مصعب بن عمير المدينة ودعا أهلها إلى الإسلام، فأسلم من أهلها بشر كثير ولم يبق دار - أي: محلة - من دور المدينة إلا وفيها مسلم ومسلمات غير دار بني واقف قبيلة أبي قيس، ثبطهم عن الإسلام وهو القائل أيضا:

أربَّ الناسِ أشياءٌ ألمتْ * يلفّ الصعبُ منها بالذلول

أرب الناس إما أن ضللنا * فيسرنا لمعروفِ السبيل

فلولا ربنا كنا يهودا * وما دين اليهود بذي شكول

ولولا ربنا كنا نصارى * مع الرهبان في جبل الجليل

ولكنا خُلقنا إذ خُلقنا * حنيفا دينُنا عن كل جيل

نسوق الهديَ ترسُفُ مذعناتٍ * مكشَّفة المناكبِ في الجلول

وحاصل ما يقول: أنه حائر فيما وقع من الأمر الذي قد سمعه من بعثة رسول الله فتوقف الواقفي في ذلك مع علمه ومعرفته.

وكان الذي ثبطه عن الإسلام أولا عبد الله بن أبيّ بن سلول بعدما أخبره أبو قيس أنه الذي بُشر به يهود فمنعه عن الإسلام.

قال ابن إسحاق: ولم يسلم إلى يوم الفتح هو وأخوه وخرج، وأنكر الزبير بن بكار أن يكون أبو قيس أسلم، وكذا الواقدي.

قال: كان عزم على الإسلام أول ما دعاه رسول الله ، فلامه عبد الله بن أبي فحلف لا يسلم إلى حول فمات في ذي القعدة.

وقد ذكر غيره فيما حكاه ابن الأثير في كتابه (أسد الغابة): أنه لما حضره الموت دعاه النبي إلى الإسلام فسمع يقول: لا إله إلا الله.

وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بن مالك: أن رسول الله عاد رجلا من الأنصار، فقال: «يا خال! قل لا إله إلا الله».

فقال: أخال أم عم؟

قال: «بل خال».

قال: فخير لي أن أقول لا إله إلا الله؟

فقال رسول الله : «نعم!»

تفرد به أحمد رحمه الله.

وذكر عكرمة وغيره: أنه لما توفي أراد ابنه أن يتزوج امرأته كبيشة بنت معن بن عاصم، فسألت رسول الله في ذلك فأنزل الله: { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } الآية 88.

وقال ابن إسحاق، وسعيد بن يحيى الأموي في (مغازيه): كان أبو قيس هذا قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وفارق الأوثان، واغتسل من الجنابة، وتطهر من الحائض من النساء، وهمَّ بالنصرانية ثم أمسك عنها ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا لا يدخل عليه فيه حائض ولا جنب وقال: أعبد إله إبراهيم حين فارق الأوثان وكرهها، حتى قدم رسول الله فأسلم فحسن إسلامه، وكان شيخا كبيرا وكان قوّالا بالحق معظما لله في جاهليته.

يقول في ذلك أشعارا حسانا وهو الذي يقول:

يقول أبو قيس وأصبح عاديا * ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا

فأوصيكم بالله والبر والتقى * وأعراضِكم والبرِّ بالله أول

وإن قومُكم سادوا فلا تحسدنهم * وإن كنتم أهل الرئاسة فاعدلوا

وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم * فأنفسكم دون العشيرة فاجعلوا

وإن ناب غُرْمٌ فادحُ فارفقوهم * وما حمَّلوكم في الملمات فاحملوا

وإن أنتم أمعزتم فتعففوا * وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا

وقال أبو قيس أيضا:

سبحوا الله شرقَ كل صباح * طلعت شمسُه وكلِّ هلال

عالم السر والبيان جميعا * ليس ما قال ربنا بضلال

وله الطير تستزيد وتأوي * في وكور من آمنات الجبال

وله الوحشُ بالفلاةِ تراها * في حقافٍ وفي ظلال الرمال

وله هوّدت يهودُ ودانت * كلَّ دينٍ مخافةً من عُضال

وله شمس النصارى وقاموا * كلَّ عيدٍ لربهم واحتفال

وله الراهبُ الحبيسُ تراه * رهنَ بؤسٍ وكان أنعمَ بال

يا بني الأرحام لا تقطعوها * وصِلُوها قصيرةً من طوال

واتقوا الله في ضعاف اليتامى * وبما يستحلّ غير الحلال

واعلموا أن لليتيم وليا * عالما يهتدي بغير سؤال

ثم مال اليتيم لا تأكلوه * إن مال اليتيم يرعاه والي

يا بني التخوم لا تخزلوها * إن جزل التخوم ذو عقّال

يا بني الأيام لا تأمنوها * واحذروا مكرها ومرَّ الليالي

واعلموا أن مرها لنفاد * الخلق ما كان من جديدٍ وبالي

واجمعوا أمركم على البر والتقـ * ـوى وتركِ الخنا وأخذِ الحلال

قال ابن إسحاق: وقال أبو قيس صرمة أيضا يذكر ما أكرمهم الله به من الإسلام، وما خصهم به من نزول رسول الله عندهم:

ثوى في قريشٍ بضعَ عشرةَ حجةً * يذكر لو يلقى صديقا مُواتيا

وسيأتي ذكرها بتمامها فيما بعد إن شاء الله وبه الثقة.

قصة بيعة العقبة الثانية

قال ابن إسحاق: ثم أن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.

فحدثني معبد بن كعب بن مالك: أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله بها -.

قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟

قلنا: وما ذاك؟

قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني: الكعبة - وأن أصلي إليها.

قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه.

فقال: إني لمصلٍّ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.

قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة.

قال: وقد كنا قد عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك.

فلما قدمنا مكة، قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه.

قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك -فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله قال: هل تعرفانه؟

فقلنا: لا.

فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟

قال: قلنا: نعم! وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.

قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه؛ فقال رسول الله للعباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟»

قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله الشاعر؟

قال: «نعم!»

فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى؟

قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»

قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله فصلى معنا إلى الشام، قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا: نحن أعلم به منهم.

قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله فيها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا.

ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله إيانا العقبة قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا.

وقد روى البخاري: حدثني إبراهيم، حدثنا هشام: أن ابن جريج أخبرهم: قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة.

قال عبد الله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهم: البراء بن معرور.

حدثنا علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهد بي خالاي العقبة.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: مكث رسول الله بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه.

فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.

ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا.

فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟

قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة».

فقمنا إليه نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.

فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.

قالوا: أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا.

قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.

وقد رواه الإمام أحمد أيضا، والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي إدريس به نحوه.

وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.

وقال البزار: وروى غير واحد، عن ابن خثيم ولا نعلمه يروي عن جابر إلا من هذا الوجه.

وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله : «أخذت وأعطيت».

وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان - هو الثوري -، عن جابر - يعني: الجعفي - عن داود - وهو ابن أبي هند، - عن الشعبي، عن جابر - يعني: ابن عبد الله - قال: قال رسول الله للنقباء من الأنصار: «تؤوني وتمنعوني؟».

قالوا: نعم.

قالوا: فما لنا؟

قال: «الجنة».

ثم قال: لا نعلمه يروي إلا بهذا الإسناد عن جابر.

ثم قال ابن إسحاق: عن معبد، عن عبد الله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي: أم منيع.

وقد صرح ابن إسحاق - في رواية يونس بن بكير عنه - بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الأحاديث: أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر.

وقال عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة، قال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم، قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله.

قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.

فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.

قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام.

قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم».

قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم! فوالذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.

قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله ، أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟

قال: فتبسم رسول الله ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».

قال كعب: وقد قال رسول الله : «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم».

فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم.

والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم.

وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج.

فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الأوس ثلاثة: وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك ابن الأوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس.

ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.

قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق.

واختاره السهيلي وابن الأثير في (أسد الغابة).

ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الإثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال:

أبلغ أبيا أنه فال رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع

أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع

وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نورٌ من هدى الله ساطع

فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألَّبْ وجمِّع كل ما أنت جامع

ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهطُ حين تبايعوا

أباه البراءُ وابن عمرٍ كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع

وسعد أباه الساعدي ومنذر * لأنفك إن حاولت ذلك جادع

وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلّمه لا يطمعن ثم طامع

وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفارُه من دونه السمُّ ناقع

وفاء به، والقوقلي بن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع

أبو هيثم أيضا وفيٌّ بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع

وما ابن حضير إن أردت بمْطِمِعٍ * فهل أنت عن أحموقة الغي نازع

وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح لما حاولت ملأمر مانع

أولاك نجوم لا يغبَّك منهم * عليك بنحسٍ في دجى الليل طالع

قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة.

قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.

وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك.

قال: كان الأنصار ليلة العقبة سبعون رجلا، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

وحدثني شيخ من الأنصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة، رواه البيهقي.

وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن رسول الله قال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يعني: المسلمين -».

قالوا: نعم!

وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟

قالوا: نعم!

قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.

قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟

قال: «الجنة».

قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.

قال عاصم ابن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم.

وزعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر القوم البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان.

قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده.

وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.

قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك.

قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.

وقال ابن الأثير في (أسد الغابة): وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.

وقد ثبت في (صحيح البخاري ومسلم)من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.

قال: ولقد شهدت مع رسول الله ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرا أكثر في الناس منها.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسول الله مع العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: «ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم».

فقال قائلهم - وهو أبو أمامة -: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت.

ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.

قال: «أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم».

قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟

قال: «لكم الجنة».

قالوا: فلك ذلك.

ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.

وقال أحمد: عن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي، حدثنا زهير، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه.

قال: قدَّمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.

فهذه بيعة رسول الله التي بايعناه عليها، وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.

وقد روى يونس عن ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت.

قال: بايعنا رسول الله بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك.

قال: فلما بايعنا رسول الله صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.

قال: فقال رسول الله : «هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب».

قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.

«أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لا تفرغن لك».

ثم قال رسول الله «ارفضوا إلى رحالكم».

قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟

قال: فقال رسول الله : «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».

قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.

قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء وما عملناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.

قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان، قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟

قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليَّ.

قال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فأردد إليه نعليه.

قال: قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه.

قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا عليَّ مثل هذا وما علمته كان.

قال: فانصرفوا عنه.

قال: ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بإذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا.

فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته - وكان ذا شعر كثير -.

قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شعشاع، حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.

فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن معهم.

قال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟

قال: قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.

وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس: فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوار.

قالا: ومن هو؟

قال: سعد بن عبادة.

قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاء فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.

وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو.

قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام.

وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:

فإن يُسلِمِ السعدان يصبح محمدٌ * بمكة لا يخشى خلاف المخالف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم؟

فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول:

أيا يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف

أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف

فإن ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى * جنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارف

فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.

فصل إظهار الأنصار إسلامهم بعد بيعة العقبة الثانية

قال ابن إسحاق: فلما رجع الأنصار الذين بايعوا رسول الله ليلة العقبة الثانية إلى المدينة أظهروا الإسلام بها.

وفي قومهم بقايا من شيوخ لهم على دينهم من الشرك منهم: عمرو بن الجموح بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، كان ابنه معاذ بن عمرو ممن شهد العقبة وبايع رسول الله بها، وكان عمرو بن الجموح من سادات بني سلمة وأشرافهم، وكان قد اتخذ صنما من خشب في داره يقال له: مناة كما كانت الأشراف يصنعون، يتخذه إلها يعظمه ويظهره.

فلما أسلم فتيان بني سلمة ابنه معاذ، ومعاذ بن جبل كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة وفيها عذر الناس منكسا على رأسه، فإذا أصبح عمرو قال: ويلكم من عدا على إلهنا هذه الليلة؟ثم يغدو يلتمسه حتى إذا وجده غسله وطيبه وطهره ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه.

فإذا أمسى ونام عمرو عدوا عليه، ففعلوا مثل ذلك، فيغدوا فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى، فيغسله ويطيبه ويطهره، ثم يعدون عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه، استخرجه من حيث ألقوه يوما، فغسله وطهره وطيبه.

ثم جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إني والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع هذا السيف معك.

فلما أمسى ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة، فيها عذر من عذر الناس وغدا عمرو بن الجموح فلم يجده في مكانه الذي كان به، فخرج يتبعه حتى إذا وجده في تلك البئر منكسا مقرونا بكلب ميت، فلما رآه أبصر شأنه وكلَّمه من أسلم من قومه فأسلم برحمة الله، وحسن إسلامه.

فقال حين أسلم وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصر من أمره ويشكر الله الذي أنقذه مما كان فيه من العمى والضلالة ويقول:

والله لو كنت إلها لم تكن * أنت وكلب وسط بئر في قرن

أُفٍّ لملقاك إلها مستدِن * الآن فتَّشناك عن سوء الغبن

الحمدُ لله العليّ ذي المنن * الواهب الرزاق ديَّان الدِّين

هو الذي أنقذني من قبل أن * أكونَ في ظلمة قبرٍ مرتهَن

فصل يتضمن أسماء من شهد بيعة العقبة الثانية ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان

فمن الأوس أحد عشر رجلا: أسيد بن حضير أحد النقباء لم يشهد بدرا، وأبو الهيثم بن التيهان بدري أيضا، وسلمة بن سلامة بن وقش بدري، وظهير بن رافع، وأبو بردة بن دينار بدري، ونهير بن الهيثم بن نابي بن مجدعة بن حارثة، وسعد بن خيثمة أحد النقباء بدري وقتل بها شهيدا.

ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير نقيب بدري، وعبد الله بن جبير بن النعمان بن أمية بن البرك بدري، وقتل يوم أحد شهيدا أميرا على الرماة.

ومعن بن عدي بن الجد بن عجلان بن الحارث بن ضبيعة البلوي حليف للأوس شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة شهيدا، وعويم بن ساعدة شهد بدرا وما بعدها.

ومن الخزرج: اثنان وستون رجلا:

أبو أيوب خالد بن زيد وشهد بدرا وما بعدها ومات بأرض الروم زمن معاوية شهيدا، ومعاذ بن الحارث وأخواه عوف ومعوذ - وهم بنو عفراء - بدريون، وعمارة بن حزم شهد بدرا وما بعدها وقتل باليمامة.

وأسعد بن زرارة أبو أمامة أحد النقباء مات قبل بدر.

وسهل بن عتيك بدري، وأوس بن ثابت بن المنذر بدري، وأبو طلحة زيد بن سهل بدري.

وقيس بن أبي صعصعة عمرو بن زيد بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن كان أميرا على الساقة يوم بدر.

وعمرو بن غزية، وسعد بن الربيع أحد النقباء شهد بدرا وقتل يوم أحد، وخارجة بن زيد شهد بدرا وقتل يوم أحد، وعبد الله بن رواحة أحد النقباء شهد بدرا وأحد والخندق، وقتل يوم مؤتة أميرا.

وبشير بن سعد بدري، وعبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه الذي أُري النداء للصلاة وهو بدري.

وخلاد بن سويد بدري أحدي خندقي.

وقتل يوم بني قريظة شهيدا، طرحت عليه رحى فشدخته فيقال: إن رسول الله قال: «إن له لأجر شهيدين».

وأبو مسعود عقبة بن عمرو البدري، قال ابن إسحاق: وهو أحدث من شهد العقبة سنا ولم يشهد بدرا، وزياد بن لبيد بدري، وفروة بن عمرو بن وذفة وخالد بن قيس بن مالك بدري، ورافع بن مالك أحد النقباء.

وذكوان بن عبد قيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن رزيق، وهو الذي يقال له: مهاجري أنصاري لأنه أقام عند رسول الله بمكة حتى هاجر منها، وهو بدري قتل يوم أحد.

وعباد بن قيس بن عامر بن خالد بن عامر بن رزيق بدري، وأخوه الحارث بن قيس بن عامر بدري أيضا.

والبراء بن معرور أحد النقباء وأول من بايع فيما تزعم بنو سلمة وقد مات قبل مقدم النبي المدينة، وأوصى له بثلث ماله فردَّه رسول الله على ورثته.

وابنه بشر بن البراء وقد شهد بدرا وأحدا والخندق ومات بخيبر شهيدا من أكله مع رسول الله من تلك الشاة المسمومة رضي الله عنه.

وسنان بن صيفي بن صخر بدري، والطفيل بن النعمان بن خنساء بدري، قتل يوم الخندق، ومعقل بن المنذر بن سرح بدري، وأخوه يزيد بن المنذر بدري، ومسعود بن زيد بن سبيع، والضحاك بن حارثة بن زيد بن ثعلبة بدري.

ويزيد بن خذام بن سبيع، وجبار بن صخر بن أمية بن خنساء بن سنان بن عبيد بدري، والطفيل بن مالك بن خنساء بدري، وكعب بن مالك، وسليم بن عامر بن حديدة بدري، وقطبة بن عامر بن حديدة بدري، وأخوه أبو المنذر يزيد بدري أيضا.

وأبو اليسر كعب بن عمرو بدري، وصيفي بن سواد بن عباد، وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي بدري واستشهد بالخندق، وأخوه عمرو بن غنمة بن عدي.

وعبس بن عامر بن عدي بدري، وخالد بن عمرو بن عدي بن نابي، وعبد الله بن أنيس حليف لهم من قضاعة، وعبد الله بن عمرو بن حرام أحد النقباء بدري واستشهد يوم أحد، وابنه جابر بن عبد الله.

ومعاذ بن عمرو بن الجموح بدري، وثابت بن الجذع بدري وقتل شهيدا بالطائف، وعمير بن الحارث بن ثعلبة بدري، وخديج بن سلامة حليف لهم من بلى.

ومعاذ بن جبل شهد بدرا وما بعدها ومات بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب، وعبادة بن الصامت أحد النقباء شهد بدرا وما بعدها.

والعباس بن عبادة بن نضلة وقد أقام بمكة حتى هاجر منها فكان يقال له: مهاجري أنصاري أيضا وقتل يوم أحد شهيدا، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة بن خزمة بن أصرم حليف لهم من بني غصينة من بلى، وعمرو بن الحارث بن كندة، ورفاعة بن عمرو بن زيد بدري.

وعقبة بن وهب بن كلدة حليف لهم بدري، وكان ممن خرج إلى مكة فأقام بها حتى هاجر منها فهو ممن يقال له: مهاجري أنصاري أيضا.

وسعد بن عبادة بن دليم أحد النقباء، والمنذر بن عمرو نقيب بدري أحدي وقتل يوم بئر معونة أميرا وهو الذي يقال له: أعتق ليموت.

وأما المرأتان: فأم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار المازنية النجارية.

قال ابن إسحاق: وقد كانت شهدت الحرب مع رسول الله وشهدت معها أختها وزوجها زيد بن عاصم بن كعب، وابناها خبيب وعبد الله، وابنها خبيب هذا هو الذي قتله مسيلمة الكذاب حين جعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟

فيقول: نعم.

فيقول: أتشهد أني رسول الله؟

فيقول: لا أسمع.

فجعل يقطعه عضوا عضوا حتى مات في يديه لا يزيده على ذلك، فكانت أم عمارة ممن خرج إلى اليمامة مع المسملين حين قتل مسيلمة ورجعت وبها اثني عشر جرحا من بين طعنة وضربة رضي الله عنها.

والأخرى: أم منيع أسماء ابنة عمرو بن عدي بن سنان بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة رضي الله عنها.

باب الهجرة من مكة إلى المدينة

قال الزهري: عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - وهو يومئذ بمكة - للمسلمين: «قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين».

فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله ، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. رواه البخاري

وقال أبو موسى: عن النبي : «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة يثرب».

وهذا الحديث قد أسنده البخاري في مواضع أُخر بطوله.

ورواه مسلم كلاهما: عن أبي كريب، زاد مسلم وعبد الله بن مراد كلاهما عن أبي أسامة، عن يزيد بن عبد الله بن أبي بردة، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري، عن النبي الحديث بطوله.

قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس القاسم بن القاسم السياري بمرو، حدثنا إبراهيم بن هلال، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن جرير: أن النبي قال: «إن الله أوحى إلي أي هؤلاء البلاد الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين».

قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة فأمر أصحابه بالهجرة إليها.

هذا حديث غريب جدا، وقد رواه الترمذي في (المناقب) من (جامعه) منفردا به عن أبي عمار الحسين بن حريث، عن الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيد، عن غيلان بن عبد الله العامري، عن أبي زرعة بن عمر بن جرير، عن جرير قال: قال رسول الله : «إن الله أوحى إليّ أي هؤلاء الثلاثة نزلت فهي دار هجرتك، المدينة أو البحرين أو قنسرين».

ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الفضل تفرد به أبو عمار.

قلت: وغيلان بن عبد الله العامري هذا ذكره ابن حبان في الثقات إلا أنه قال: روى عنه أبي زرعة حديثا منكرا في الهجرة والله أعلم.

قال ابن إسحاق: لما أذن الله تعالى في الحرب بقوله: { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } الآية 89.

فلما أذن الله في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له، ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين.

أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة، والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار.

وقال: «إن الله قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها»، فخرجوا إليها أرسالا، وأقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة.

فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله من المهاجرين من قريش:

من بني مخزوم: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكانت هجرته إليها قبل بيعة العقبة بسنة حين آذته قريش مرجعه من الحبشة فعزم على الرجوع إليها، ثم بلغه أن بالمدينة لهم إخوانا فعزم إليها.

قال ابن إسحاق: فحدثني أبي، عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة، عن جدته أم سلمة زوج النبي قالت: لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره ثم حملني عليه، وجعل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، ثم خرج يقود بي بعيره، فلما رأته رجال بني المغيرة قاموا إليه فقالوا: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا؟ هذه علام نتركك تسير بها في البلاد؟

قالت: فنزعوا خطام البعير من يده وأخذوني منه، قالت: وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد رهط أبي سلمة، وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.

قالت: فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة، قالت: ففرق بيني وبين ابني وبين زوجي.

قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس في الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي - سنة أو قريبا منها - حتى مرَّ بي رجل من بني عمي أحد بني المغيرة فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون من هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها.

قالت: فقالوا لي: إلحقي بزوجك إن شئت.

قالت: فردَّ بنو عبد الأسد إلي عند ذلك ابني، قالت: فارتحلت بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أخا بني عبد الدار، فقال: إلى أين يا ابنة أبي أمية؟

قلت: أريد زوجي بالمدينة.

قال: أوما معك أحد؟

قلت: ما معي أحد إلا الله وبني هذا.

فقال: والله مالك من مترك فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلا من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه، كان إذا بلغ المنزل أناخ بي، ثم استأخر عني حتى إذا نزلت استأخر ببعيري فحط عنه ثم قيده في الشجر ثم تنحى عني إلى شجرة فاضطجع تحتها.

فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله ثم استأخر عني، وقال: اركبي فإذا ركبت فاستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقادني حتى ينزل بي، فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: زوجك في هذه القرية - وكان أبو سلمة بها نازلا - فادخليها على بركة الله.

ثم انصرف راجعا إلى مكة، فكانت تقول: ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

أسلم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري هذا بعد الحديبية، وهاجر هو وخالد بن الوليد معا، وقتل يوم أحد أبوه وأخوته: الحارث وكلاب ومسافع، وعمه عثمان بن أبي طلحة.

ودفع إليه رسول الله يوم الفتح وإلى ابن عمه شيبة والد بني شيبة مفاتيح الكعبة أقرها عليهم في الإسلام كما كانت في الجاهلية، ونزل في ذلك قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } الآية 90

قال ابن إسحاق: ثم كان أول من قدمها من المهاجرين بعد أبي سلمة عمار بن ربيعة حليف بني عدي، معه امرأته ليلى بنت أبي حثمة العدوية، ثم عبد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف بني أمية بن عبد شمس، احتمل بأهله وبأخيه عبد، أبي أحمد، اسمه عبد كما ذكره ابن إسحاق، وقيل: ثمامة.

قال السهيلي: والأول أصح.

وكان أبو أحمد رجلا ضرير البصر وكان يطوف مكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكان شاعرا وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم.

فغلقت دار بني جحش هجرة، فمرَّ بها عتبة بن ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل بن هشام وهم مصعدون إلى أعلى مكة، فنظر إليها عتبة تخفق أبوابها يبابا ليس بها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء وقال:

وكل دار وإن طالت سلامتها * يوما ستدركها النكباء والحوب

قال ابن هشام: وهذا البيت لأبي داود الأيادي في قصيدة له

قال السهيلي: واسم أبي داود حنظلة بن شرقي وقيل: حارثة

ثم قال عتبة: أصبحت دار بني جحش خلاء من أهلها.

فقال أبو جهل: وما تبكي عليه من فل بن فل، ثم قال: - يعني للعباس - هذا من عمل ابن أخيك هذا فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا.

قال ابن إسحاق: فنزل أبو سلمة، وعامر بن ربيعة، وبنو جحش بقباء على مبشر بن عبد المنذر، ثم قدم المهاجرون أرسالا، قال: وكان بنو غنم بن دودان أهل إسلام، قد أوعبوا إلى المدينة هجرة رجالهم ونساؤهم وهم:

عبد الله بن جحش، وأخوه أبو أحمد، وعكاشة بن محصن، وشجاع وعقبة ابنا وهب، وأربد بن جميرة، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن رقيش، ومحرز بن نضلة، وزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وثقف بن عمرو، وربيعة بن أكثم.

والزبير بن عبيدة، وتمام بن عبيدة، وسخبرة بن عبيدة، ومحمد بن عبد الله بن جحش.

ومن نسائهم: زينب بنت جحش، وحمنة بنت جحش، وأم حبيب بنت جحش، وجدامة بنت جندل، وأم قيس بنت محصن، وأم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت رقيش، وسخبرة بنت تميم.

قال أبو أحمد بن جحش في هجرتهم إلى المدينة:

ولما رأتني أم أحمد غاديا * بذمة من أخشى بغيب وأرهب

تقول: فإما كنت لا بد فاعلا * فيمم بنا البلدان ولننأ يثرب

فقلت لها ما يثرب بمظنة * وما يشأ الرحمن فالعبد يركب

إلى الله وجهي والرسول ومن يقم * إلى الله يوما وجهه لا يخيب

فكم قد تركنا من حميم مناصح * وناصحة تبكي بدمع وتندب

ترى أن وترا نائيا عن بلادنا * ونحن نرى أن الرغائب نطلب

دعوت بني غنم لحقن دمائهم * وللحق لما لاح للناس ملحب

أجابوا بحمد الله لما دعاهم * إلى الحق داع والنجاح فأوعبوا

وكنا وأصحابا لنا فارقوا الهدى * أعانوا علينا بالسلاح وأجلبوا

كفوجين إما منهما فموفق * على الحق مهدي وفوج معذب

طغوا وتمنوا كذبة وأزلهم * عن الحق إبليس فخابوا وخيبوا

ورعنا إلى قول النبي محمد * فطاب ولاة الحق منا وطيبوا

نمتُّ بأرحام إليهم قريبة * ولا قرب بالأرحام إذ لا تقرب

فأي ابن أخت بعدنا يأمننكم * وأية صهر بعد صهري يرقب

ستعلم يوما أيَّنا إذ تزايلوا * وزيل أمر الناس للحق أصوب

قال ابن إسحاق: ثم خرج عمر بن الخطاب، وعياش بن أبي ربيعة حتى قدما المدينة.

فحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن أبيه.

قال: اتعدنا لما أردت الهجرة إلى المدينة أنا وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؛ التناضب من إضاة بني غفار فوق سرف، وقلنا: أينا لم يصبح عندها فقد حبس، فليمض صاحباه، قال: فأصبحت أنا وعياش عند التناضب وحبس هشام وفتن فافتتن.

فلما قدمنا المدينة نزلنا في بني عمرو بن عوف بقباء، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش - وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما - حتى قدما المدينة ورسول الله بمكة، فكلماه وقالا له: إن أمك قد نذرت أن لا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها.

فقلت له: إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت.

قال: فقال: أبرّ قسم أمي ولي هنالك مال فآخذه.

قال: قلت: والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالا، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما.

قال: فأبى عليّ إلا أن يخرج معهما، فلما أبى إلا ذلك.

قلت: أما إذ فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رابك من أمر القوم ريب فانج عليها.

فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا بن أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟

قال: بلى.

فأناخ وأناخا ليتحول عليها، فلما استووا بالأرض عدوا عليه فأوثقاه رباطا، ثم دخلا به مكة وفتناه فافتتن.

قال عمر: فكنا نقول: لا يقبل الله ممن افتتن توبة.

وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم حتى قدم رسول الله المدينة وأنزل الله: { قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } 91.

قال عمر: وكتبتها وبعثت بها إلى هشام بن العاص.

قال هشام: فلما أتتني جعلت أقرأها بذي طوى أصعد بها وأصوب ولا أفهمها حتى قلت: اللهم فهمنيها، فألقى الله في قلبي أنها إنما أنزلت فينا وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويقال: فينا.

قال: فرجعت إلى بعيري فجلست عليه فلحقت برسول الله بالمدينة.

وذكر ابن هشام: أن الذي قدم بهشام بن العاص، وعياش ابن أبي ربيعة إلى المدينة، الوليد بن الوليد المغيرة سرقهما من مكة وقدم فيها يحملهما على بعيره وهو ماش معهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:

هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت

وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق سمع البراء.

قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، ثم قدم علينا عمار وبلال.

وحدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق سمعت البراء بن عازب.

قال: أول من قدم علينا مصعب بن عمير وابن أم مكتوم وكانا يقرئان الناس، فقدم بلال وسعد وعمار بن ياسر ثم قدم عمر بن الخطاب في عشرين نفرا من أصحاب النبي ، ثم قدم النبي ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله حتى جعل الإماء يقلن: قدم رسول الله ، فما قدم حتى قرأت { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } 92 في سور من المفصل.

ورواه مسلم في (صحيحه) من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء ابن عازب بنحوه وفيه التصريح بأن سعد بن أبي وقاص هاجر قبل قدوم رسول الله المدينة، وقد زعم موسى بن عقبة عن الزهري أنه إنما هاجر بعد رسول الله والصواب ما تقدم..

قال ابن إسحاق: ولما قدم عمر بن الخطاب المدينة هو ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو، وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر، وخنيس بن حذافة السهمي - زوج ابنته حفصة -، وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي حليف لهم، وخولى بن أبي خولى، ومالك بن أبي خولى حليفان لهم من بني عجل، وبنو البكير إياس، وخالد، وعاقل، وعامر وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث، فنزلوا على رفاعة بن عبد المنذر بن زنير في بني عمرو بن عوف بقباء.

قال ابن إسحاق: ثم تتابع المهاجرون رضي الله عنهم: فنزل طلحة بن عبيد الله، وصهيب بن سنان على خُبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح.

ويقال: بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة.

قال ابن هشام: وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صُهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا فكثر مالك عندنا وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك.

فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟

قالوا: نعم!

قال: فإني قد جعلت لكم مالي.

فبلغ ذلك رسول الله فقال: «ربح صهيب، ربح صهيب».

وقد قال البيهقي: حدثنا الحافظ أبو عبد الله - إملاء - أخبرنا أبو العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال، أخبرنا عبدان الأهوازي، حدثنا زيد بن الجريش، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، حدثنا حصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب، حدثني أبي وعمومتي عن سعيد بن المسيب عن صهيب.

قال: قال رسول الله : «أريت دار هجرتكم سبخة بين ظهراني حرتين، فإما أن تكون هجر أو تكون يثرب».

قال: وخرج رسول الله إلى المدينة وخرج معه أبو بكر، وكنت قد هممت معه بالخروج فصدني فتيان من قريش، فجعلت ليلتي تلك أقوم لا أقعد.

فقالوا: قد شغله الله عنكم ببطنه - ولم أكن شاكيا -فناموا.

فخرجت ولحقني منهم ناس بعد ما سرت بريدا ليردوني فقلت لهم: إن أعطيتكم أواقي من ذهب وتخلوا سبيلي وتوفون لي، ففعلوا فتبعتهم إلى مكة فقلت: احفروا تحت أسكفة الباب فإن بها أواقي، واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين..

وخرجت حتى قدمت على رسول الله بقباء قبل أن يتحول منها، فلما رآني قال: «يا أبا يحيى ربح البيع، ثلاثا».

فقلت يا رسول الله : ما سبقني إليك أحد، وما أخبرك إلا جبرائيل عليه السلام.

قال ابن إسحاق: ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن الحصين، وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة، وأنسة، وأبو كبشة موليا رسول الله على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء.

وقيل: على سعد بن خيثمة.

وقيل: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة والله أعلم.

قال: ونزل عبيدة بن الحارث وأخواه الطفيل وحصين ومسطح بن أثاثة وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان على عبد الله بن سلمة أخي بلعجلان بقباء ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع.

ونزل الزبير بن العوام وأبو سبرة بن أبي رهم على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة، دار بني جحجبى، ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ، ونزل أبو حذيفة بن عتبة وسالم مولاه على سلمة.

قال ابن إسحاق: وقال الأموي: على خبيب بن إساف أخي بني حارثة، ونزل عتبة بن غزوان على عباد بن بشر بن وقش في بني عبد الأشهل، ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار.

قال ابن إسحاق: ونزل العزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة وذلك أنه كان عزبا والله أعلم في أي ذلك كان.

وقال يعقوب بن سفيان: حدثني أحمد بن أبي بكر بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه قال: قدمنا من مكة فنزلنا العصبة، عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، فكان يؤمهم سالم مولى أبي حذيفة لأنه كان أكثرهم قرآنا..

فصل في سبب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة

قال الله تعالى: { وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانا نَصِيرا } 93.

أرشده الله وألهمه أن يدعو بهذا الدعاء و أن يجعل له مما هو فيه فرجا قريبا ومخرجا عاجلا، فأذن له تعالى في الهجرة إلى المدينة النبوية حيث الأنصار والأحباب، فصارت له دارا وقرارا، وأهلها له أنصارا.

قال أحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة: عن جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس: كان رسول الله بمكة، فأُمر بالهجرة وأُنزل عليه: { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }.

وقال قتادة: أدخلني مدخل صدق: المدينة، وأخرجني مخرج صدق: الهجرة من مكة، واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا: كتاب الله وفرائضه وحدوده.

قال ابن إسحاق: وأقام رسول الله بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه بمكة إلا من حبس أو فتن، إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله في الهجرة فيقول له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا» فيطمع أبو بكر أن يكون.

فلما رأت قريش أن رسول الله قد صار له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة..

فحذروا خروج رسول الله إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبر، عن عبد الله بن عباس، وغيره مما لا أتهم عن عبد الله بن عباس.

قال: لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ جليل عليه بتلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟

قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا.

قالوا: أجل فادخل، فدخل معهم وقد اجتمع فيها أشراف قريش عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وجبير بن مطعم بن عدي، والحارث بن عامر بن نوفل، والنضر بن الحارث وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، وأبو جهل بن هشام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، ومن كان منهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش.

فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإننا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن قد اتبعه من غيرنا، فاجمعوا فيه رأيا، قال: فتشاوروا ثم قال قائل منهم: - قيل إنه أبو البختري بن هشام - احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب هذا الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي.

فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت..

قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه، وحلاوة منطقه، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأيا غير هذا.

فقال أبو جهل بن هشام: والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعها، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا.

فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم، قال: يقول الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هذا الرأي ولا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

فأتى جبرائيل رسول الله فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه.

قال: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب: «نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم»، وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام.

وهذه القصة التي ذكرها ابن إسحاق قد رواها الواقدي بأسانيده عن عائشة وابن عباس وعلي وسراقة بن مالك بن جعشم وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض فذكر نحو ما تقدم.

قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي.

قال: لما اجتمعوا له وفيهم أبو جهل قال - وهم على بابه -: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

قال: فخرج رسول الله فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: «نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم»، وأخذ الله على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: { يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } إلى قوله: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } 94..

ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟

قالوا: محمدا.

فقال: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا، وانطلق لحاجته! أفما ترون ما بكم؟

قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا ببرد رسول الله فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائما، عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد كان صدقنا الذي كان حدثنا.

قال ابن إسحاق: فكان مما أنزل الله في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } 95، وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ } 96 قال ابن إسحاق: فأذن الله لنبيه عند ذلك بالهجرة.

باب هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه

وذلك أول التاريخ الإسلامي كما اتفق عليه الصحابة في الدولة العمرية كما بيناه في سيرة عمر رضي الله عنه وعنهم أجمعين.

قال البخاري: حدثنا مطر بن الفضل، ثنا روح، ثنا هشام، ثنا عكرمة عن ابن عباس.

قال: بُعث النبي لأربعين سنة، فمكث فيها ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة..

وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام وذلك في يوم الاثنين كما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس أنه قال: ولد نبيكم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ونبئ يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.

قال محمد بن إسحاق: وكان أبو بكر حين استأذن رسول الله في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا».

وقد طمع بأن يكون رسول الله إنما يعني نفسه، فابتاع راحلتين حبسهما في داره يعلفهما إعدادا لذلك.

قال الواقدي: اشتراهما بثمانمائة درهم.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة، وإما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه رسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث!

قالت: فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره.

فجلس رسول الله وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله : «أخرج عني من عندك».

قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك فداك أبي وأمي؟

قال: «إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة».

قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ؟

قال: الصحبة.

قالت: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذٍ يبكي.

ثم قال: يا نبي الله إن هاتين راحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أرقط، قال ابن هشام: ويقال عبد الله بن أريقط، رجلا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه من بني سهم بن عمرو، وكان مشركا يدلهما على الطريق ودفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.

قال ابن إسحاق: ولم يعلم - فيما بلغني - بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر، أما علي، فإن رسول الله أمره أن يتخلف حتى يؤدي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس..

وكان رسول الله وليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته.

قال ابن إسحاق: فلما أجمع رسول الله الخروج أتى أبا بكر بن أبي قحافة فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته.

وقد روى أبو نعيم من طريق إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق.

قال: بلغني أن رسول الله لما خرج من مكة مهاجرا إلى الله يريد المدينة قال: «الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئا، اللهم أعني على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالي والأيام، اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني ولك فذلِّلني، وعلى صالح خلقي فقومني، وإليك رب فحببني، وإلى الناس فلا تكلني، رب المستضعفين وأنت ربي، أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين، أن تحل عليَّ غضبك، وتنزل بي سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحول عافيتك وجميع سخطك، لك العقبى عندي خير ما استطعت، لا حول ولا قوة إلا بك».

قال ابن إسحاق: ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه، وأمر أبو بكر الصديق ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.

وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره، ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار.

فكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به، وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر.

وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا.

فإذا غدا عبد الله بن أبي بكر من عندهما إلى مكة أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه.

وسيأتي في سياق البخاري ما يشهد لهذا وقد حكى ابن جرير عن بعضهم: أن رسول الله سبق الصديق في الذهاب إلى غار ثور، وأمر عليا أن يدله على مسيره ليلحقه، فلحقه في أثناء الطريق، وهذا غريب جدا وخلاف المشهور من أنهما خرجا معا.

قال ابن إسحاق: وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.

قالت أسماء: ولما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم فقالوا: أين أبوك ياابنة أبي بكر؟

قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي.

قالت: فرفع أبو جهل يده - وكان فاحشا خبيثا - فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا..

قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير أن أباه حدثه عن جدته أسماء.

قالت: لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه، احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم - أو ستة آلاف درهم - فانطلق بها معه.

قالت: فدخل علينا جدي أبو قحافة - وقد ذهب بصره -.

فقال: والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه؟

قالت: قلت: كلا يا أبة إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا.

قالت: وأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها، ثم وضعت عليها ثوبا، ثم أخذت بيده فقلت: يا أبة ضع يدك على هذا المال.

قالت: فوضع يده عليه.

فقال: لا بأس إذ كان قد ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

وقال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن الحسن بن أبي الحسن البصري.

قال: انتهى رسول الله وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر قبل رسول الله فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حية، يقي رسول الله بنفسه، وهذا فيه انقطاع من طرفيه.

وقد قال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن عمرو الضبي، ثنا نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة: أن النبي لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور، فجعل أبو بكر يكون أمام النبي مرة، وخلفه مرة.

فسأله النبي عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك.

حتى إذا انتهى إلى الغار من ثور قال أبو بكر: كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه وأقصه فإن كانت فيه دابة أصابتني قبلك.

قال نافع: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفا أن يخرج منه دابة أو شيء يؤذي رسول الله ، وهذا مرسل وقد ذكرنا له شواهد أخر في سيرة الصديق رضي الله عنه.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد ابن إسحاق، أنا موسى بن الحسن، ثنا عباد، ثنا عفان بن مسلم، ثنا السري بن يحيى، ثنا محمد بن سيرين.

قال: ذكر رجال على عهد عمر فكأنهم فضلوا عمر على أبي بكر.

فبلغ ذلك عمر فقال: والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله ليلة انطلق إلى الغار ومعه أبو بكر فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن رسول الله فقال: «يا أبا بكر مالك تمشي ساعة خلفي وساعة بين يدي؟».

فقال: يا رسول الله أذكر الطلب، فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد، فأمشي بين يديك.

فقال: «يا أبا بكر لو كان شيء لأحببت أن يكون بك دوني؟».

قال: نعم، والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من ملمة إلا أحببت أن تكون لي دونك.

فلما انتهينا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، فدخل فاستبرأه، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة.

فقال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة.

فدخل فاستبرأ ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل.

ثم قال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر.

وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن عمر وفيه: أن أبا بكر جعل يمشي بين يدي رسول الله تارة، وخلفه أخرى، وعن يمينه وعن شماله.

وفيه: أنه لما حفيت رجلا رسول الله حمله الصديق على كاهله، وأنه لما دخل الغار سدد تلك الأجحرة كلها.

وبقي منها جحر واحد، فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل.

فقال له رسول الله : «لا تحزن إن الله معنا».

وفي هذا السياق غرابة ونكارة.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو.

قالا: ثنا أبو العباس الأصم، ثنا عباس الدوري، ثنا أسود بن عامر شاذان، ثنا إسرائيل، عن الأسود، عن جندب بن عبد الله.

قال: كان أبو بكر مع رسول الله في الغار، فأصاب يده حجر فقال:

إن أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني عثمان الجزري أن مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس في قوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ } 97.

قال: تشاورت قريش ليلة بمكة.

فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي .

وقال بعضهم: بل اقتلوه.

وقال بعضهم: بل أخرجوه.

فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات علي على فراش النبي تلك الليلة، وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبي .

فلما أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليا ردَّ الله عليهم مكرهم.

فقالوا: أين صاحبك هذا؟

فقال: لاأدري.

فاقتفوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت.

فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال.

وهذا إسناد حسن وهو من أجود ما وري في قصة نسج العنكبوت على فم الغار، وذلك من حماية الله رسوله ..

وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد القاضي في مسند أبي بكر: حدثنا بشار الخفاف، ثنا جعفر وسليمان، ثنا أبو عمران الجوني، حدثنا المعلى بن زياد عن الحسن البصري.

قال: انطلق النبي وأبو بكر إلى الغار.

وجاءت قريش يطلبون النبي ، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت قالوا: لم يدخل أحد، وكان النبي قائما يصلي وأبو بكر يرتقب.

فقال أبو بكر للنبي : هؤلاء قومك يطلبونك، أما الله ما على نفسي أئل ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره.

فقال له النبي : «يا أبا بكر لا تخف إن الله معنا».

وهذا مرسل عن الحسن، وهو حسن بحاله من الشاهد، وفيه زيادة صلاة النبي في الغار.

وقد كان عليه السلام إذا أحزنه أمر صلى.

وروى هذا الرجل - أعني أبو بكر أحمد بن علي القاضي - عن عمرو الناقد، عن خلف بن تميم، عن موسى بن مطر، عن أبيه، عن أبي هريرة أن أبا بكر.

قال لابنه: يا بني إذا حدث في الناس حدث فأت الغار الذي اختبأت فيه أنا ورسول الله فكن فيه فإنه سيأتيك رزقك فيه بكرةً وعشيا.

وقد نظم بعضهم هذا في شعره حيث يقول:

نسج داود ما حمى صاحب الغا * ر وكان الفخار للعنكبوت

وقد ورد أن حمامتين عششتا على بابه أيضا.

وقد نظم ذلك الصرصري في شعره حيث يقول:

فغمى عليه العنكبوت بنسجه * وظل على الباب الحمام يبيض

والحديث بذلك رواه الحافظ ابن عساكر من طريق يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا عمرو بن علي، ثنا عون بن عمرو أبو عمرو القيسي - ويلقب بعوين - حدثني أبو مصعب المكي.

قال: أدركت زيد بن أرقم، والمغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، يذكرون أن النبي ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما فسترت وجه رسول الله وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلتا يدفان حتى وقعتا بين العنكبوت وبين الشجرة، وأقبلت فتيان قريش من كل بطن منهم رجل، معهم عصيهم وقسيهم وهراواتهم، حتى إذا كانوا من رسول الله قدر مائتي ذراع قال الدليل: - وهو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي - هذا الحجر ثم لا أدري أين وضع رجله.

فقال الفتيان: أنت لم تخطئ منذ الليلة..

حتى إذا أصبحوا قال: انظروا في الغار، فاستبقه القوم حتى إذا كانوا من النبي قدر خمسين ذراعا، فإذا الحمامتان، فرجع.

فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار؟

قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار، فعرفت أن ليس فيه أحد.

فسمعها النبي فعرف أن الله قد درأ عنهما بهما، فسمت عليهما - أي: برك عليهما - وأحدرهما الله إلى الحرم فأفرخا كما ترى.

وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه.

قد رواه الحافظ أبو نعيم من حديث مسلم بن إبراهيم وغيره عن عون بن عمرو - وهو الملقب بعوين - بإسناده مثله.

وفيه: أن جميع حمام مكة من نسل تيك الحمامتين، وفي هذا الحديث: أن القائف الذي اقتفى لهم الأثر: سراقة بن مالك المدلجي.

وقد روى الواقدي عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه أن الذي اقتفى لهم الأثر كرز بن علقمة.

قلت: ويحتمل أن يكونا جميعا، اقتفيا الأثر والله أعلم.

وقد قال الله تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } 98.

يقول تعالى مؤنبا لمن تخلف عن الجهاد مع الرسول: { إلا تنصروه } أنتم فإن الله ناصره ومؤيده ومظفره كما نصره { إذ أخرجه الذين كفروا } من أهل مكة هاربا ليس معه غير صاحبه وصديقه أبي بكر ليس غيره ولهذا قال: { ثاني اثنين إذ هما في الغار } : أي وقد لجآ إلى الغار فأقاما فيه ثلاثة أيام ليسكن الطلب عنهما.

وذلك لأن المشركين حين فقدوهما كما تقدم ذهبوا في طلبهما كل مذهب من سائر الجهات، وجعلوا لمن ردهما - أو أحدهما - مائة من الإبل، واقتصوا آثارهما حتى اختلط عليهم.

وكان الذي يقتص الأثر لقريش سراقة بن مالك بن جعشم كما تقدم، فصعدوا الجبل الذي هما فيه وجعلوا يمرون على باب الغار، فتحاذي أرجلهم لباب الغار ولا يرونهما، حفظا من الله لهما.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، ثنا همام أن ثابت، عن أنس بن مالك، أن أبا بكر حدثه.

قال: قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه؟

فقال: «يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما».

وأخرجه البخاري ومسلم في (صحيحيهما) من حديث همام به..

وقد ذكر بعض أهل السير أن أبا بكر لما قال ذلك، قال النبي : «لو جاءنا من ههنا لذهبنا من هنا».

فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر، وإذا البحر قد اتصل به، وسفينة مشدودة إلى جانبه.

وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة، ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوي ولا ضعيف، ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا، ولكن ما صح أو حسن سنده قلنا به، والله أعلم.

وقد قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الفضل بن سهل، ثنا خلف بن تميم، ثنا موسى بن مطير القرشي، عن أبيه عن أبي هريرة أن أبا بكر قال لابنه: يا بني إن حدث في الناس حدث فأت الغار الذي رأيتني اختبأت فيه أنا ورسول الله فكن فيه، فإنه سيأتيك فيه رزقك غدوة وعشية.

ثم قال البزار: لا نعلم يرويه غير خلف بن تميم.

قلت: وموسى بن مطير هذا ضعيف متروك، وكذبه يحيى بن معين فلا يقبل حديثه.

وقد ذكر يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق أن الصديق قال في دخولهما الغار، وسيرهما بعد ذلك وما كان من قصة سراقة كما سيأتي شعرا.

فمنه قوله:

قال النبي - ولم أجزع - يوقرني * ونحن في سدف من ظلمة الغار

لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا * وقد توكل لي منه بإظهار

وقد روى أبو نعيم هذه القصيدة من طريق زياد عن محمد بن إسحاق فذكرها مطولة جدا، وذكر معها قصيدة أخرى والله أعلم.

وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير.

قال: فمكث رسول الله بعد الحج - يعني: الذي بايع فيه الأنصار - بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، ثم إن مشركي قريش أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله ، أو يحبسوه أو يخرجوه.

فأطلعه الله على ذلك فأنزل عليه: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا } 99. الآية.

فأمر عليا فنام على فراشه، وذهب هو وأبو بكر، فلما أصبحوا ذهبوا في طلبهما في كل وجه يطلبونهما.

وهكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه) وأن خروجه هو وأبو بكر إلى الغار كان ليلا.

وقد تقدم عن الحسن البصري فيما ذكره ابن هشام التصريح بذلك أيضا.

وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث عن عقيل.

قال ابن شهاب: فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي قالت: لم أعقل أبواي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار: بكرة وعشية.

فلما ابتلي المسلمون، خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فذكرت ما كان من ردِّه لأبي بكر إلى مكة وجواره له كما قدمناه عند هجرة الحبشة، إلى قوله فقال أبو بكر: فإني أردُّ عليك جوارك وأرضى بجوار الله..

قالت: والنبي يومئذٍ بمكة فقال النبي للمسلمين: «إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين: وهما الحرتان».

فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع بعض من كان هاجر قبل الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر مهاجرا قبل المدينة.

فقال له رسول الله : «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي».

فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟

قال: نعم.

فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر - وهو الخبط - أربعة أشهر، وذكر بعضهم: أنه علفهما ستة أشهر.

قال ابن شهاب، قال عروة، قالت عائشة: فبينما نحن يوما جلوس في بيت أبي بكر في حر الظهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله مقبلا متقنعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.

قالت: فجاء رسول الله فاستأذن فأذن له، فدخل فقال النبي : «أخرج من عندك».

فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله .

قال: فإنه قد أذن لي في الخروج.

فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت وأمي.

قال النبي : «نعم!».

قال أبو بكر: فخذ أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.

فقال رسول الله : «بالثمن».

قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فلذلك سميت ذات النطاقين.

قالت: ثم لحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور، فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت، لا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام..

ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل - وهو لبن منحتهما ورضيعهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.

واستأجر رسول الله وأبو بكر رجلا من بني الدئل وهو من بني عبد ابن عدي هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - قد غمس حلفا في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ليال.

وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل فأخذ بهم طريق السواحل.

قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن مالك المدلجي وهو ابن أخي سراقة أن أباه أخبره أنه سمع سراقة بن مالك بن جعشم.

يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس.

فقال: يا سراقة إني رأيت آنفا أسودة بالساحل أراها محمدا وأصحابه.

قال سراقة: فعرفت أنهم هم فقلت له: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي، وهي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، وأخذت رمحي فخرجت من ظهر البيت، فخططت بزجة الأرض وخفضت عاليه، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم، فعثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت فأهويت يدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرهم أم لا.

فخرج الذي أكره، فركبت فرسي وعصيت الأزلام فجعل فرسي يقرب بي حتى إذا سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين، فخررت عنها فأهويت، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها، فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان، فاستقسمت الأزلام فخرج الذي أكره..

فناديتهم بالأمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله .

فقلت له: إن قومك قد جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع.

فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: اخف عنا.

فسألته أن يكتب لي كتاب أمن فأمر عامر ابن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم، ثم مضى رسول الله .

وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه سراقة فذكر هذه القصة، إلا أنه ذكر أنه استقسم بالأزلام أول ما خرج من منزله فخرج السهم الذي يكره لا يضره، وذكر أنه عثر به فرسه أربع مرات، وكل ذلك يستقسم بالأزلام ويخرج الذي يكره لا يضره، حتى ناداهم بالأمان.

وسأل أن يكتب له كتابا يكون أمارة ما بينه وبين رسول الله ، قال: فكتب لي كتابا في عظم - أو رقعة أو خرقة - وذكر أنه جاء به إلى رسول الله وهو بالجعرانة مرجعه من الطائف، فقال له: «يوم وفاء وبر، أدنه»، فدنوت منه وأسلمت.

قال ابن هشام: هو عبد الرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم وهذا الذي قاله جيد.

ولما رجع سراقة جعل لا يلقى أحدا من الطلب إلا ردَّه وقال: كفيتم هذا الوجه، فلما ظهر أن رسول الله قد وصل إلى المدينة، جعل سراقة يقص على الناس ما رأى وما شاهد من أمر النبي وما كان من قضية جواده، واشتهر هذا عنه.

فخاف رؤساء قريش معرته، وخشوا أن يكون ذلك سببا لإسلام كثير منهم، وكان سراقة أمير بني مدلج ورئيسهم، فكتب أبو جهل - لعنه الله - إليهم:

بني مدلج إني أخاف سفيهكم * سراقة مستغوٍ لنصر محمد

عليكم به ألا يفرق جمعكم * فيصبح شتى بعد عزٍ وسؤدد

قال: فقال سراقة بن مالك يجيب أبا جهل في قوله هذا:

أبا حكم والله لو كنت شاهدا * لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

عجيب ولم تشكك بأن محمدا * رسول وبرهان فمن ذا يقاومه

عليك فكف القوم عنه فإنني * أخال لنا يوما ستبدو معالمه

بأمر تودَّ النصر فيه فإنهم * وإن جميع الناس طرا مسالمه

وذكر هذا الشعر: الأموي في (مغازيه) بسنده عن أبي إسحاق وقد رواه أبو نعيم بسنده من طريق زياد عن ابن إسحاق، وزاد في شعر أبي جهل أبياتا تتضمن كفرا بليغا.

وقال البخاري بسنده إلى ابن شهاب فأخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام إلى مكة، فكسى الزبير رسول الله وأبا بكر ثياب بياض، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله من مكة، فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم.

فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب فلم يملك اليهودي أن قال بأعلا صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فقام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم يرَ رسول الله يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله ، فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه.

فعرف الناس رسول الله عند ذلك فلبث رسول الله في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله ، ثم ركب راحلته وسار يمشي معه الناس حتى بركت عند مسجد رسول الله بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذٍ رجال من المسلمين.

وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة..

فقال رسول الله حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل».

ثم دعا رسول الله الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا.

فطفق رسول الله ينقل معهم اللبن في بنيانه، وهو يقول حين ينقل اللبن:

هذا الحمال لا حمال خيبر * هذا أبرّ ربَّنا وأطهر

ويقول:

لاهمِّ إن الأجر أجر الآخرة * فارحم الأنصار والمهاجره

فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم يسم لي.

قال ابن شهاب: ولم يبلغنا في الأحاديث أن رسول الله تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات.

هذا لفظ البخري وقد تفرد بروايته دون مسلم، وله شواهد من وجوه أخر وليس فيه قصة أم معبد الخزاعية، ولنذكر هنا ما يناسب ذلك مرتبا أولا فأولا.

قال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن محمد، أبو سعيد العنقزي، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب.

قال: اشترى أبو بكر من عازب سرجا بثلاثة عشر درهما، فقال أبو بكر لعازب: مر البراء فيلحمله إلى منزلي.

فقال: لا حتى تحدثنا كيف صنعت حين خرج رسول الله وأنت معه؟

فقال أبو بكر: خرجنا فأدلجنا فاحثثنا يومنا وليلتنا حتى أظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت بصري هل أرى ظلا نأوي إليه، فإذا أنا بصخرة فأهويت إليها فإذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله وفرشت له فروة وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع.

ثم خرجت أنظر هل أرى أحدا من الطلب فإذا أنا براعي غنم، فقلت: لمن أنت يا غلام؟

فقال لرجل من قريش - فسماه فعرفته - فقلت: هل في غنمك من لبن؟

قال: نعم!

قلت: هل أنت حالب لي؟

قال: نعم!

فأمرته فاعتقل شاة منها ثم أمرته فنفض ضرعها من الغبار، ثم أمرته فنفض كفيه من الغبار، ومعي إداوة على فمها خرقة فحلب لي كثبة من اللبن فصببت على القدح حتى برد أسفله، ثم أتيت رسول الله فوافيته وقد استيقظ.

فقلت: اشرب يا رسول الله فشرب حتى رضيت.

ثم قلت: هل آن الرحيل؟

فارتحلنا والقوم يطلبوننا فلم يدركنا أحد منهم إلا سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له.

فقلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا؟

قال: «لا تحزن إن الله معنا»، حتى إذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رمح - أو رمحين - أو قال رمحين أو ثلاثة -.

قلت يا رسول الله: هذا الطلب قد لحقنا؟ وبكيت.

قال: لم تبكي؟

قلت: أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن أبكي عليك.

فدعا عليه رسول الله فقال: «اللهم اكفناه بما شئت» فسلخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلد ووثب عنها وقال: يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهما فإنك ستمر بإبلي وغنمي بموضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك.

فقال رسول الله : «لا حاجة لي فيها».

ودعا له رسول الله فأطلق ورجع إلى أصحابه، ومضى رسول الله وأنا معه حتى قدمنا ليلا المدينة وتلقاه الناس فخرجوا في الطرق على الأناجير واشتد الخدم والصبيان في الطريق يقولون: الله أكبر جاء رسول الله ، جاء محمد.

قال: وتنازع القوم أيهم ينزل عليه.

قال: فقال رسول الله : «أنزل الليلة على بني النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك» فلما أصبح، غدا حيث أمر.

قال البراء: أول من قدم علينا من المهاجرين مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار، ثم قدم علينا ابن أم مكتوم الأعمى أحد بني فهر، ثم قدم علينا عمر بن الخطاب في عشرين راكبا.

فقلنا: ما فعل رسول الله؟

قال: هو على أثري، ثم قدم رسول الله وأبو بكر معه.

قال البراء: ولم يقدم رسول الله حتى قرأت سورا من المفصل.

أخرجاه في الصحيحين من حديث إسرائيل بدون قول البراء أول من قدم علينا إلخ..

فقد انفرد به مسلم فرواه من طريق إسرائيل به.

وقال ابن إسحاق: فأقام رسول الله في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن رده عليهم.

فلما مضت الثلاث وسكن عنهما الناس، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيريهما وبعير له، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما، ونسيت أن تجعل لها عصاما فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام، فتحل نطاقها فتجعله عصاما، ثم علقتها به، فكان يقال لها ذات النطاقين لذلك.

قال ابن إسحاق: فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال: اركب فداك أبي وأمي.

فقال رسول الله : «إني لا أركب بعيرا ليس لي».

قال: فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي.

قال: «لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به».

قال: كذا وكذا.

قال: «أخذتها بذلك».

قال: هي لك يا رسول الله.

وروى الواقدي بأسانيده أنه عليه السلام أخذ: القصواء، قال: وكان أبو بكر اشتراهما بثمانمائة درهم.

وروى ابن عساكر من طريق أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: وهي الجدعاء.

وهكذا حكى السهيلي عن ابن إسحاق أنها: الجدعاء والله أعلم.

قال ابن إسحق: فركبا وانطلقا، وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه، ليخدمهما في الطريق فحدثت عن أسماء أنها قالت: لما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش منهم: أبو جهل فذكر ضربه لها على خدها لطمة طرح منها قرطها من أذنها كما تقدم.

قالت: فمكثنا ثلاث ليال ما ندري أين وجه رسول الله حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلا مكة وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر ثم تروَّحا * فأفلح من أمسى رفيق محمد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمؤمنين بمرصد

قالت أسماء: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث وجه رسول الله ، وأن وجهه إلى المدينة.

قال ابن إسحاق: وكانوا أربعة: رسول الله ، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أرقد، كذا يقول ابن إسحاق والمشهور عبد الله بن أريقط الدئلي وكان إذ ذاك مشركا..

قال ابن إسحاق: ولما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقد سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان، ثم سلك بهما على أسفل أمج، ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق بعد أن أجاز قديدا، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار، ثم أجاز بهما ثنية المرة، ثم سلك بهما لقفا، ثم أجاز بهما مدلجة لقف.

ثم استبطن بهما مدلجة مجاج، ثم سلك بهما مرجح مجاج، ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين، ثم بطن ذي كشد، ثم أخذ بهما على الجداجد، ثم على الأجرد، ثم سلك بهما ذا سلم، من بطن أعداء مدلجة تعهن، ثم على العبابيد، ثم أجاز بهما القاحة.

ثم هبط بهما العرج وقد أبطأ عليهم بعض ظهرهم، فحمل رسول الله رجل من أسلم يقال له: أوس بن حجر على جمل يقال له: ابن الرِّداء إلى المدينة وبعث معه غلاما يقال له: مسعود بن هنيدة، خرج بهما دليلهما من العرج فسلك بها ثنية العائر عن يمين ركوبة - ويقال: ثنية الغائر فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن ريم.

ثم قدم بهما قباء على بني عمرو بن عوف لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل.

وقد روى أبو نعيم من طريق الواقدي نحوا من ذكر هذه المنازل، وخالفه في بعضها والله أعلم.

قال أبو نعيم: حدثنا أبو حامد بن جبلة، حدثنا محمد بن إسحاق، عن السراج، حدثنا محمد بن عبادة بن موسى العجلي، حدثني أخي موسى ابن عبادة، حدثني عبد الله بن سيار، حدثني إياس بن مالك بن الأوس الأسلمي عن أبيه..

قال: لما هاجر رسول الله وأبو بكر مروا بابل لنا بالجحفة.

فقال رسول الله : «لمن هذه الإبل؟».

فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر.

فقال: «سلمت إن شاء الله، فقال: ما اسمك؟».

قال: مسعود، فالتفت إلى أبي بكر.

فقال: «سعدت إن شاء الله».

قال: فأتاه أبي فحمله على جمل يقال له: ابن الرداء.

قلت: وقد تقدم عن ابن عباس أن رسول الله خرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين.

والظاهر أن بين خروجه عليه السلام من مكة ودخوله المدينة خمسة عشر يوما، لأنه أقام بغار ثور ثلاثة أيام، ثم سلك طريق الساحل وهي أبعد من الطريق الجادة واجتاز في مروره على أم معبد بنت كعب من بني كعب بن خزاعة، قال ابن هشام.

وقال يونس عن ابن إسحاق: اسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم.

وقال الأموي: هي عاتكة بنت تبيع حليف بني منقذ بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس بن حرام بن خيسة بن كعب بن عمرو، ولهذه المرأة من الولد معبد ونضرة وحنيدة بنو أبي معبد، واسمه أكتم بن عبد العزى بن معبد بن ربيعة بن أصرم بن صنبيس، وقصتها مشهورة مروية من طرق يشد بعضها بعضا.

قصة أم معبد الخزاعية

قال يونس عن ابن إسحاق: فنزل رسول الله بخيمة أم معبد واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم فأرادوا القرى.

فقالت: والله ما عندنا طعام ولا لنا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول الله ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله، وحلب في العس حتى أرغى وقال: «اشربي يا أم معبد».

فقالت: اشرب فأنت أحق به، فرده عليها فشربت ثم، دعا بحائل أخرى ففعل مثل ذلك بها فشربه، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم تروح.

وطلبت قريش رسول الله حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه.

فقالوا: أرأيت محمدا من حليته كذا وكذا؟ فوصفوه لها.

فقالت: ما أدري ما تقولون، قدمنا فتى حالب الحائل.

قالت قريش: فذاك الذي نريد.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا يعقوب بن محمد، حدثنا عبد الرحمن بن عقبة، بن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، ثنا أبي عن أبيه عن جابر قال: لما خرج رسول الله وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، إذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح مخافة أن يخرج على رسول الله منه شيء.

فأقاما في الغار ثلاث ليال ثم خرجا حتى نزلا بخيمات أم معبد فأرسلت إليه أم معبد أني أرى وجوها حسانا، وإن الحي أقوى على كرامتكم مني، فلما أمسوا عندها بعثت مع ابن لها صغير بشفرة وشاة، فقال رسول الله : «أردد الشفرة وهات لنا فرقا» يعني: القدح.

فأرسلت إليه أن لا لبن فيها ولا ولد.

قال: «هات لنا فرقا» فجاءت بفرق فضرب ظهرها فاجترت ودرت فحلب فملأ القدح فشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب فبعث فيه إلى أم معبد.

ثم قال البزار: لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد.

وعبد الرحمن بن عقبة لا نعلم أحدا حدث عنه إلا يعقوب بن محمد وإن كان معروفا في النسب.

وروى الحافظ البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

قال: خرجت مع رسول الله من مكة فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبد الله! إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز لها يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.

فلما جاء قال له النبي : «انطلق بالشفرة وجئني بالقدح».

قال: إنها قد عزبت وليس بها لبن.

قال: «انطلق».

فجاء بقدح فمسح النبي ضرعها، ثم حلب حتى ملأ القدح.

ثم قال: «انطلق به إلى أمك».

فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: «انطلق بهذه وجئني بأخرى».

ففعل بها كذلك ثم سقى أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي ، فبتنا ليلتنا، ثم انطلقنا، فكانت تسميه المبارك.

وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر فرأى ابنها فعرفه، فقال: يا أمه هذا الرجل الذي كان مع المبارك.

فقامت إليه فقالت: يا عبد الله من الرجل الذي كان معك؟

قال: أو ما تدرين من هو؟

قالت: لا.

قال: هو نبي الله.

قالت: فأدخلني عليه.

قال: فأدخلها فأطعمها رسول الله وأعطاها - زاد ابن عبدان في روايته - قالت: فدلني عليه.

فانطلقت معي وأهدت لرسول الله شيئا من أقط ومتاع الأعراب.

قال: فكساها وأعطاها.

قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، إسناد حسن.

وقال البيهقي: هذه القصة شبيهة بقصة أم معبد، والظاهر أنها هي والله أعلم..

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، وأبو بكر أحمد بن الحسن القاضي.

قالا ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الحسن بن مكرم، حدثني أبو أحمد بشر بن محمد السكري، ثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، ثنا أبجر بن الصباح عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة فتطعم وتسقي، فسألوها هل عندها لحم أو لبن يشترونه منها؟ فلم يجدوا عندها شيء من ذلك.

وقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوذكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.

فنظر رسول الله فإذا شاة في كسر خيمتها، فقال: «ما هذه الشاة يا أم معبد؟».

فقالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.

قال: «فهل بها من لبن».

قالت: هي أجهد من ذلك.

قال: «تأذنين لي أن أحلبها؟».

قالت: إن كان بها حلب فاحلبها.

فدعا رسول الله بالشاة فمسحها وذكر اسم الله، ومسح ضرعها وذكر اسم الله، ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت واجترت فحلب فيها تجا حتى ملأه فسقاها وسقى أصحابه فشربوا عللا بعد نهل، حتى إذا رووا شرب آخرهم وقال: «ساقي القوم آخرهم».

ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا، قال: فقلما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزلى لا نِقَي بهن، مخهن قليل فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد، ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟

فقالت: لا والله إنه مرَّ بنا رجل ملوك كان من حديثه كيت وكيت.

فقال: صفيه لي فوالله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب.

فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق مليح الوجه لم تعبه ثجلة ولم تزر به صعلة قسيم وسيم في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل.

أحول أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة.

إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحسنه من قريب.

ربعة لا تنساه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا، وأحسنهم قدا له رفقاء يحفون به إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا معتد، فقال: - يعني: بعلها - هذا والله صاحب قريش الذي تطلب، ولو صادفته لالتمست أن أصحبه، ولأجهدن إن وجدت إلى ذلك سبيلا، قال: وأصبح صوت بمكة عال بين السماء والأرض يسمعونه ولا يرون من يقول وهو يقول:

جزى الله رب الناس خير جزائه * رفيقين حلا خيمتي أم معبد

هما نزلا بالبر وارتحلا به * فأفلح من أمسى رفيق محمد

فيال قصي ما زوى الله عنكم * به من فعال لا تجُارى وسؤدد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها * فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

دعاها بشاة حائل فتحلبت * له بصريح ضرة الشاة مربد

فغادره رهنا لديها لحالب * يدر لها في مصدر ثم مورد

قال: وأصبح الناس - يعني: بمكة - وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا برسول الله قال: وأجابه حسان بن ثابت:

لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم * وقد سر من يسري إليهم ويغتدي

ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد

هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد

وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا * عمىً وهداة يهتدون بمهتد

نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد

وإن قال في يوم مقالة غائب * فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد

ليهن أبا بكر سعادة جده * بصحبته، من يسعد الله يسعد

ويهن بني كعب مكان فتاتهم * ومقعدها للمسلمين بمرصد

قال: - يعني: عبد الملك بن وهب - فبلغني أن أبا معبد أسلم وهاجر إلى النبي .

وهكذا روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الملك بن وهب المذحجي فذكر مثله سواء وزاد في آخره قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت ولحقت برسول الله .

ثم رواه أبو نعيم من طرق، عن بكر بن محرز الكلبي الخزاعي، عن أبيه محرز بن مهدي، عن حرام بن هشام بن حبيش بن خالد، عن أبيه، عن جده حبيش بن خالد صاحب رسول الله أن رسول الله حين أخرج من مكة منها مهاجرا هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة ودليلهما عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمة أم معبد وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي بفناء القبة وذكر مثل ما تقدم سواء.

قال: وحدثناه - فيما أظن - محمد بن أحمد بن علي بن مخلد، ثنا محمد بن يونس بن موسى - يعني: الكديمي - ثنا عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز مولى العباس بن عبد المطلب، ثنا محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري، حدثني أبي، عن أبيه سليط البدري.

قال: لما خرج رسول الله في الهجرة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة وابن أريقط يدلهم على الطريق، مر بأم معبد الخزاعية وهي لا تعرفه فقال لها: «يا أم معبد هل عندك من لبن؟»

قالت: لا والله إن الغنم لعازبة.

قال: «فما هذه الشاة؟»

قالت: خلفها الجهد عن الغنم.

ثم ذكر تمام الحديث كنحو ما تقدم.

ثم قال البيهقي: يحتمل أن هذه القصص كلها واحدة، ثم ذكر قصة شبيهة بقصة شاة أم معبد الخزاعية فقال: حدثنا أبو عبد الله الحافظ - إملاء - حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب، أخبرنا محمد بن غالب، ثنا أبو الوليد، ثنا عبد الله بن إياد بن لقيط، ثنا إياد بن لقيط، عن قيس بن النعمان.

قال: لما انطلق النبي وأبو بكر مستخفين، مروا بعبد يرعى غنما فاستسقياه اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عناقا حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها من لبن، فقال: «ادع بها»

فدعا بها فاعتقلها النبي ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت، وجاء أبو بكر بمجن فحلب فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم جلس فشرب.

فقال الراعي: بالله من أنت؟ فوالله ما رأيت مثلك قط.

قال: «أوتراك تكتم علي حتى أخبرك؟»

قال: نعم!

قال: «فإني محمد رسول الله».

فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟

قال: «إنهم ليقولون ذلك؟».

قال: فإني أشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي وأنا متبعك.

قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا».

ورواه أبو يعلى الموصلي، عن جعفر بن حميد الكوفي، عن عبد الله بن إياد بن لقيط به.

وقد ذكر أبو نعيم ههنا قصة عبد الله بن مسعود فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر، ثنا يونس بن حبيب، ثنا أبو داود، ثنا حماد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله بن مسعود.

قال: كنت غلاما يافعا أرعى غنما لعتبة بن أبي معيط بمكة، فأتى رسول الله وأبو بكر - وقد فرَّا من المشركين - فقال: «يا غلام عندك لبن تسقينا؟»

فقلت: إني مؤتمن ولست بساقيكما.

فقالا: «هل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟»

قلت: نعم!

فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر، وأخذ رسول الله الضرع فدعا فحفل الضرع، وجاء أبو بكر بصخرة متقعرة فحلب فيها.

ثم شرب هو وأبو بكر وسقياني، ثم قال للضرع: «أقلص أقلص».

فلما كان بعد أتيت رسول الله فقلت: علمني من هذا القول الطيب - يعني: القرآن -

فقال رسول الله : «إنك غلام معلم» فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعني فيها أحد.

فقوله في هذا السياق: وقد فرَّا من المشركين ليس المراد منه وقت الهجرة، إنما ذلك في بعض الأحوال قبل الهجرة.

فإن ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ورجع إلى مكة كما تقدم، وقصته هذه صحيحة ثابتة في الصحاح وغيرها والله أعلم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن مصعب بن عبد الله - هو الزبيري - حدثني أبي، عن فائد مولى عبادل قال: خرجت مع إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة فأرسل إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعد حتى إذا كنا بالعرج أتى ابن سعد - وسعد هو الذي دل رسول الله على طريق ركوبه - فقال إبراهيم: أخبرني ما حدَّثك أبوك؟

قال ابن سعد: حدثني أبي أن رسول الله أتاهم ومعه أبو بكر - وكانت لأبي بكر عندنا بنت مسترضعة - وكان رسول الله أراد الاختصار في الطريق إلى المدينة، فقال لها سعد: هذا الغائر من ركوبه وبه لصان من أسلم يقال لهما: المهانان.

فإن شئت أخذنا عليهما، فقال النبي : «خذ بنا عليهما»

قال سعد: فخرجنا حتى إذا أشرفنا إذا أحدهما يقول لصاحبه هذا اليماني.

فدعاهما رسول الله فعرض عليهما الإسلام فأسلما، ثم سألهما عن أسمائهما فقالا: نحن المهانان.

فقال: «بل أنتما المكرمان» وأمرهما أن يقدما عليه المدينة فخرجنا حتى إذا أتينا ظاهر قباء فتلقاه بنو عمرو بن عوف فقال رسول الله : «أين أبو أمامة أسعد بن زرارة؟»

فقال سعد بن خيثمة: إنه أصاب قبلي يا رسول الله أفلا أخبره ذلك؟

ثم مضى رسول الله حتى إذا طلع على النخل فإذا الشرب مملوء، فالتفتَ رسول الله إلى أبي بكر فقال: «يا أبا بكر هذا المنزل رأيتني أنزل إلى حياض كحياض بني مدلج» انفرد به أحمد.

فصل في دخوله عليه السلام المدينة وأين استقر منزله بها

قد تقدم فيما رواه البخاري، عن الزهري، عن عروة: أن النبي دخل المدينة عند الظهيرة.

قلت: ولعل ذلك كان بعد الزوال لما ثبت في (الصحيحين) من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب، عن أبي بكر في حديث الهجرة قال: فقدمنا ليلا فتنازعه القوم أيهم ينزل عليه، فقال رسول الله : «أنزل على بني النجار أخوال عبد المطلب أكرمهم بذلك».

وهذا والله أعلم إما أن يكون يوم قدومه إلى قباء فيكون حال وصوله إلى قرب المدينة كان في حر الظهيرة وأقام تحت تلك النخلة ثم سار بالمسلمين فنزل قباء وذلك ليلا، وأنه أطلق على ما بعد الزوال ليلا، فإن العشى من الزوال، وإما أن يكون المراد بذلك لمّا رحل من قباء كما سيأتي فسار فما انتهى إلى بني النجار إلا عشاء كما سيأتي بيانه والله أعلم.

وذكر البخاري، عن الزهري، عن عروة: أنه نزل في بني عمرو بن عوف بقباء وأقام فيهم بضع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء في تلك الأيام، ثم ركب ومعه الناس حتى بركت به راحلته في مكان مسجده، وكان مربدا لغلامين يتيمين وهما: سهل وسهيل، فابتاعه منهما واتخذه مسجدا.

وذلك في دار بني النجار رضي الله عنهم.

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عويم بن ساعدة قال: حدثني رجال من قومي من أصحاب النبي قالوا: لما بلغنا مخرج النبي من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح، إلى ظاهر حرتنا ننتظر النبي ، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال، فإذا لم نجد ظلا دخلنا - وذلك في أيام حارة - حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله جلسنا كما كنا نجلس، حتى إذ لم يبق ظل دخلنا بيوتنا، وقدم رسول الله حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع، وأنا ننتظر قدوم رسول الله علينا، فصرخ بأعلا صوته:

يا بني قيلة! هذا جدكم قد جاء، فخرجنا إلى رسول الله وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر في مثل سنه، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله قبل ذلك، وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر، حتى زال الظل عن رسول الله ، فقام أبو بكر فأظله بردائه، فعرفناه عند ذلك.

وقد تقدم مثل ذلك في سياق البخاري وكذا ذكر موسى بن عقبة في (مغازيه).

وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم، ثنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بن مالك.

قال: إني لأسعى في الغلمان يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى ولا أرى شيئا، قال: حتى جاء رسول الله وصاحبه أبو بكر.

فكمنا في بعض خراب المدينة، ثم بعثنا رجلا من أهل البادية يؤذن بهما الأنصار فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين.

فأقبل رسول الله وصاحبه بين أظهرهم، فخرج أهل المدينة حتى أن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن: أيهم هو؟ أيهم هو؟ فما رأينا منظرا شبيها به.

قال أنس: فلقد رأيته يوم دخل علينا ويوم قبض. فلم أر يومين شبيها بهما.

ورواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن محمد بن إسحاق الصنعاني، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس بنحوه - أو مثله -.

وفي (الصحيحين)من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء، عن أبي بكر في حديث الهجرة.

قال: وخرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء محمد، الله أكبر جاء رسول الله.

فلما أصبح انطلق وذهب حيث أمر.

وقال البيهقي: أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي: سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله المدينة جعل النساء والصبيان يقلن:

طلع البدر علينا * من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا * ما دعا لله داع

قال محمد بن إسحاق: فنزل رسول الله - فيما يذكرون يعني: حين نزل - بقباء على كلثوم بن الهدم أخي بني عمرو بن عوف ثم أحد بني عبيد، ويقال: بل نزل على سعد بن خيثمة.

ويقول: من يذكر أنه نزل على كلثوم بن الهدم: إنما كان رسول الله إذا خرج من منزل كلثوم بن الهدم جلس للناس في بيت سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا لا أهل له، وكان يقال لبيته: بيت العزاب والله أعلم.

ونزل أبو بكر رضي الله عنه على خبيب بن إساف أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح وقيل: على خارجة بن زيد بن أبي زهير أخي بني الحارث بن الخزرج.

قال ابن إسحاق: وأقام علي بن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها، حتى أدى عن رسول الله الودائع التي كانت عنده، ثم لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم بن الهدم.

فكان علي بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين.

يقول: كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة، فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه، فاستربت بشأنه فقلت لها: يا أمة الله من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك؟

قالت: هذا سهل بن حنيف، وقد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من شأن