البداية والنهاية/الجزء الثالث/ذكر إسلام أبي ذر رضي الله عنه
قال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، قال: حدثنا الحسين بن محمد بن زياد قال: حدثنا عبد الله بن الرومي، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل سماك بن الوليد، عن مالك بن مرثد، عن أبيه، عن أبي ذر قال:
كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع، أتيت رسول الله ﷺ فقلت: السلام عليك يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فرأيت الاستبشار في وجه رسول الله ﷺ.
هذا سياق مختصر..
وقال البخاري: إسلام أبي ذر: حدثنا عمرو بن عباس، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن المثنى عن أبي حمزة، عن ابن عباس.
قال: لما بلغ أبا ذر مبعث رسول الله ﷺ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء.
فاسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الآخر حتى قدمه، وسمع من كلامه، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاما ما هو بالشعر.
فقال: ما شفيتني مما أردت.
فتزود وحمل شنة فيها ماء حتى قدم مكة فأتى المسجد فالتمس رسول الله ﷺ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه بعض الليل، اضطجع فرآه علي، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح.
ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي ﷺ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه فمرَّ به علي، فقال: أما آن للرجل يعلم منزله، فأقامه فذهب به معه، لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي مثل ذلك، فأقام معه فقال: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟
قال: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدني فعلت.
ففعل فأخبره.
قال: فإنه حق وإنه رسول الله ﷺ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي، ففعل فانطلق يقفوه، حتى دخل على النبي ﷺ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه، فقال له النبي ﷺ: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري».
فقال: والذي بعثك بالحق لأصرخن بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلا صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قام فضربوه حتى أضجعوه، فأتى العباس فأكب عليه فقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام.
فأنقذه منهم.
ثم عاد من الغد بمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه هذا لفظ البخاري.
وقد جاء إسلامه مبسوطا في (صحيح مسلم) وغيره، فقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سليمان بن المغيرة، حدثنا حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت قال: قال أبو ذر: خرجنا من قومنا غفار - وكان يحلون الشهر الحرام - أنا وأخي أنيس وأمنا فانطلقنا حتى نزلنا على خال لنا ذي مالٍ وهيئة، فأكرمنا خالنا، وأحسن إلينا فحسدنا قومه فقالوا له: إنك إذا خرجت عن أهلك خلفك إليهم أنيس.
فجاء خالنا فثنى ما قيل له، فقلت له: أما ما مضى من معروفك فقد كدرته، ولا جماع لنا فيما بعد.
قال: فقربنا صرمتنا فاحتملنا عليها وتغطى خالنا بثوبه وجعل يبكي، قال: فانطلقنا حتى نزلنا حضرة مكة، قال: فنافر أنيس عن صرمتنا وعن مثليها، فأتيا الكاهن فخير أنيسا.
فأتانا بصرمتنا ومثلها معها، قال: وقد صليت يا بن أخي قبل أن ألقى رسول الله ﷺ بثلاث سنين، قال: قلت: لمن؟
قال: لله، قلت: فأين توجه؟
قال: حيث وجهني الله.
قال: وأصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألفيت كأني خفاء حتى تعلوني الشمس.
قال: فقال أنيس: إن لي حاجة بمكة، فألقني حتى آتيك قال: فانطلق فراث علي، ثم أتاني فقلت ما حسبك؟
قال: لقيت رجلا يزعم أن الله أرسله على دينك، قال: فقلت: ما يقول الناس له؟
قال: يقولوا إنه شاعر وساحر، وكان أنيس شاعرا.
قال: فقال: لقد سمعت الكهان فما يقول بقولهم، وقد وضعت قوله على إقراء الشعر فوالله ما يلتئم لسان أحد أنه شعر، ووالله إنه لصادق وإنهم لكاذبون.
قال: فقلت له: هل أنت كافيِّ حتى انطلق؟
قال: نعم! وكن من أهل مكة على حذر فإنهم قد شنَّعوا له وتجهموا له.
قال: فانطلقت حتى قدمت مكة فتضعفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجل الذي يدعونه الصابئ؟
قال: فأشار إلى الصابئ فمال أهل الوادي عليّ بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ، ثم ارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فشربت من مائها، وغسلت عني الدم، ودخلت بين الكعبة وأستارها، فلبثت به يابن أخي ثلاثين من يوم وليلة، مالي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: فبينا أهل مكة في ليلة قمراء أضحيان وضرب الله على أشحمة أهل مكة، فما يطوف بالبيت غير امرأتين، فأتتا علي وهما يدعوان: إساف ونائلة.
فقلت: انكحوا أحدهما الآخر فما ثناهما ذلك، فقلت: وهن مثل الخشبة غير أني لم أركن.
قال: فانطلقتا يولولان ويقولان لو كان ههنا أحد من أنفارنا، قال: فاستقبلهما رسول الله ﷺ وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال ما لكما؟
فقالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها.
قالا: ما قال لكما؟
قالتا: قال لنا كلمة تملأ الفم.
قال: وجاء رسول الله ﷺ هو وصاحبه حتى استلم الحجر وطاف بالبيت ثم صلى.
قال: فأتيته فكنت أول من حيَّاه بتحية أهل الإسلام.
فقال: «عليك السلام ورحمة الله من أنت؟»
قال: قلت: من غفار، قال: فأهوى بيده فوضعها على جبهته.
قال: فقلت في نفسي كره أن انتميت إلى غفار.
قال: فأردت أن آخذ بيده، فقذفني صاحبه وكان أعلم به مني.
قال: متى كنت ههنا؟
قال: قلت: كنت ههنا منذ ثلاثين من بين ليلة ويوم.
قال: فمن كان يطعمك؟
قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، وما وجدت على كبدي سخفة جوع.
قال: قال رسول الله ﷺ «إنها مباركة، إنها طعام طعم».
قال: فقال أبو بكر: ائذن لي يا رسول الله في طعامه الليلة، قال: ففعل.
قال: فانطلق النبي ﷺ، وانطلقت معهما حتى فتح أبو بكر بابا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف.
قال: فكان ذلك أول طعام أكلته بها، فلبثت ما لبثت.
فقال رسول الله ﷺ: «إني قد وجِّهت إليَّ أرض ذات نخل ولا أحبسها إلا يثرب، فهل أنت مبلغ عني قومك؟ لعل الله ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟».
قال: فانطلقت حتى أتيت أخي أنيسا، قال: فقال لي: ما صنعت؟
قال: قلت: صنعت إني أسلمت وصدقت.
قال: فما بي رغبة عن دينك.
فإني قد أسلمت وصدقت، ثم أتينا أمنا فقالت ما بي رغبة عن دينكما.
فإني قد أسلمت وصدقت، فتحملنا حتى أتينا قومنا غفار، قال: فأسلم بعضهم قبل أن يقدم رسول الله ﷺ المدينة، وكان يؤمهم خفاف بن إيما بن رخصة الغفاري، وكان سيدهم يومئذٍ.
وقال: بقيتهم إذا قدم رسول الله ﷺ أسلمنا، قال: فقدم رسول الله ﷺ فأسلم بقيتهم.
قال: وجاءت أسلم.
فقالوا: يا رسول الله إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه، فقال رسول الله ﷺ: «غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله».
ورواه مسلم، عن هدبة بن خالد، عن سليمان بن المغيرة به نحوه.
وقد روى قصة إسلامه على وجه آخر، وفيه زيادات غريبة فالله أعلم.
وتقدم ذكر إسلام سلمان الفارسي في كتاب (البشارات) بمبعثه عليه الصلاة والسلام.