البداية والنهاية/الجزء الثالث/تنبيه على فضل هذا المسجد الشريف
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أنيس بن أبي يحيى، حدثني أبي.
قال: سمعت أبا سعيد الخدري قال: اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدري: هو مسجد رسول الله ﷺ وقال العمري: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله ﷺ فسألاه عن ذلك فقال: «هو هذا المسجد» لمسجد رسول الله ﷺ وقال: «في ذلك خير كثير» يعني مسجد قباء.
ورواه الترمذي، عن قتيبة، عن حاتم بن إسماعيل، عن أنيس بن أبي يحيى الأسلمي به وقال: حسن صحيح.
وروى الإمام أحمد، عن إسحاق بن عيسى، عن الليث بن سعد والترمذي والنسائي جميعا، عن قتيبة، عن الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى وذكر نحو ما تقدم.
وفي (صحيح مسلم) من حديث حميد الخراط، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عبد الرحمن بن أبي سعيد: كيف سمعت أباك في المسجد الذي أسس على التقوى؟
قال أبي: أتيت رسول الله ﷺ فسألته عن المسجد الذي أسس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض.
ثم قال: «هو مسجدكم هذا».
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا ربيعة بن عثمان التميمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهيل بن سعد.
قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله ﷺ في المسجد في الذي أسس على التقوى.
فقال أحدهما: هو مسجد رسول الله ﷺ وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله ﷺ فسألاه، فقال: «هو مسجدي هذا».
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال: «المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا».
فهذه طرق متعددة لعلها تقرب من إفادة القطع بأنه مسجد الرسول ﷺ وإلى هذا ذهب عمر وابنه عبد الله، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب واختاره ابن جرير.
وقال آخرون: لا منافاة بين نزول الآية في مسجد قباء كما تقدم بيانه، وبين هذه الأحاديث، لأن هذا المسجد أولى بهذه الصفة، من ذلك لأن هذا أحد المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها كما ثبت في (الصحيحين) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ مسجدي هذا، والمسجد الحرام، ومسجد بيت المقدس» وفي صحيح مسلم، عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ قال: «لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» وذكرها.
وثبت في (الصحيحين) أن رسول الله ﷺ قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
وفي (مسند أحمد) بأسناد حسن زيادة حسنة وهي قوله: «فإن ذلك أفضل».
وفي (الصحيحين) من حديث يحيى القطان، عن حبيب، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».
والأحاديث في فضائل هذا المسجد الشريف كثيرة جدا وسنوردها في كتاب (المناسك من كتاب الأحكام الكبير) إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم.
وقد ذهب الإمام مالك وأصحابه إلى أن مسجد المدينة أفضل من المسجد الحرام لأن ذاك بناه إبراهيم، وهذا بناه محمد ﷺ، ومعلوم أن محمدا ﷺ أفضل من إبراهيم عليه السلام.
وقد ذهب الجمهور إلى خلاف ذلك وقرروا أن المسجد الحرام أفضل لأنه في بلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وحرمه إبراهيم الخليل عليه السلام، ومحمد خاتم المرسلين، فاجتمع فيه من الصفات ما ليس في غيره، وبسط هذه المسألة موضع آخر وبالله المستعان.