البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله
قال ابن إسحاق: فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى ما لم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله ﷺ إلى الطائف، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى، فخرج إليهم وحده.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القرظي.
قال: انتهى رسول الله ﷺ إلى الطائف وعمد إلى نفر من ثقيف هم سادة ثقيف وأشرافهم وهم أخوة ثلاثة: عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف.
وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله، وكلمهم لما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه.
فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك.
وقال الآخر: أما وجد الله أحدا أرسله غيرك؟
وقال الثالث: والله لا أكلمك أبدا لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي -: «إن فعلتم ما فعلتم فاكتموا علي».
وكره رسول الله ﷺ أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما فيه.
ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف.
وقد لقي رسول الله ﷺ - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح، فقال لها: «ماذا لقينا من أحمائك؟».
فلما اطمأن قال - فيما ذكر -: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى لا حول ولا قوة إلا بك».
قال: فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي، تحركت له رحمهما فدعوا غلاما نصرانيا يقال له: عداس، وقالا له: خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس.
ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، ثم قال له: كل.
فلما وضع رسول الله ﷺ يده فيه قال: «بسم الله».
ثم أكل، ثم نظر عداس في وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد.
فقال له رسول الله ﷺ: «ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس وما دينك؟».
قال: نصراني وأنا رجل من أهل نينوى.
فقال رسول الله ﷺ: «من قرية الرجل الصالح يونس بن متى».
فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟
فقال رسول الله ﷺ: «ذلك أخي كان نبيا وأنا نبي».
فأكب عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه وقدميه.
قال: يقول أبناء ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاء عداس قالا له: ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال: يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي.
قالا له: ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
وقد ذكر موسى بن عقبة نحوا من هذا السياق إلا أنه لم يذكر الدعاء، وزاد: وقعد له أهل الطائف صفين على طريقه، فلما مرَّ جعلوا لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء، فعمد إلى ظل نخلة وهو مكروب، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة، فكره مكانهما لعداوتهما الله ورسوله.
ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم.
وقد روى الإمام أحمد، عن أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري، عن عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني، عن أبيه: أنه أبصر رسول الله ﷺ في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: { والسماء والطارق } حتى ختمها.
قال: فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام.
قال: فدعتني ثقيف فقالوا: ماذا سمعت من هذا الرجل؟
فقرأتها عليهم.
فقال من معهم من قريش: نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه.
وثبت في (الصحيحين) من طريق عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة حدثته: أنها قالت لرسول الله ﷺ: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟
قال: «ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال:
إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث لك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، ثم ناداني ملك الجبال فسلَّم علي ثم قال: يا محمد! قد بعثني الله إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني إليك ربك لتأمرني ما شئت، إن شئت تطبق عليهم الأخشبين؟».
فقال رسول الله ﷺ: «أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا».