البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل تعذيب قريش للمسلمين لاتباعهم النبي عليه الصلاة والسلام
قال ابن إسحاق: ثم إنهم عدوا على من أسلم واتبع رسول الله ﷺ من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوه منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبهم، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم.
فكان بلال: مولى أبي بكر لبعض بني جمح، مولدا من مولديهم، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام، طاهر القلب، وكان أمية ابن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، يطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد ﷺ، وتعبد اللات والعزى.
فيقول: -وهو في ذلك -أحدٌ أحد.
قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب لذلك، وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول: أحدٌ أحد والله يا بلال، ثم يقبل على أمية بن خلف، ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا..
قلت: قد استشكل بعضهم هذا من جهة أن ورقة توفي بعد البعثة في فترة الوحي، وإسلام من أسلم إنما كان عد نزول { يا أيها المدثر } فكيف يمر ورقة ببلال، وهو يعذب وفيه نظر.
ثم ذكر ابن إسحاق مرور أبي بكر ببلال وهو يعذب، فاشتراه من أمية بعبد له أسود، فأعتقه وأراحه من العذاب، وذكر مشتراه لجماعة ممن أسلم من العبيد والإماء، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة، وأم عميس التي أصيب بصرها ثم رده الله تعالى لها، والنهدية، وابنتها اشتراها من بني عبد الدار بعثتهما سيدتهما تطحنان لها فسمعها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبدا.
فقال أبو بكر: حل يا أم فلان.
فقالت: حل أنت أفسدتهما فأعتقهما.
قال: فبكم هما؟
قالت: بكذا وكذا.
قال: قد أخذتهما وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها.
قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها؟
قال: أو ذلك إن شئتما.
واشترى جارية بني مؤمل - حي من بني عدي - كان عمر يضربها على الإسلام.
قال ابن إسحاق: فحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض أهله.
قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر: يا بني إني أراك تعتق ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلداء يمنعونك ويقومون دونك؟
قال: فقال أبو بكر: يا أبة إني إنما أريد ما أريد.
قال: فتحدث أنه ما أنزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه { فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى } إلى آخر السورة.
وقد تقدم ما رواه الإمام أحمد، وابن ماجه من حديث عاصم بن بهدلة، عن زر، عن ابن مسعود.
قال: أول من أظهر الإسلام سبعة، رسول الله ﷺ، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله ﷺ فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأبو بكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالا، فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد.
ورواه الثوري عن منصور، عن مجاهد مرسلا.
قال ابن إسحاق: وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار ابن ياسر وبأبيه وأمه - وكانوا أهل بيت إسلام - إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء مكة، فيمر بهم رسول الله ﷺ فيقول - فيما بلغني -: «صبرا آل ياسر موعدكم الجنة».
وقد روى البيهقي عن الحاكم، عن إبراهيم بن عصمة العدل، حدثنا السري بن خزيمة، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام بن أبي عبيد الله، عن أبي الزبير، عن جابر: أن رسول الله ﷺ مرَّ بعمار وأهله وهم يعذبون فقال: «أبشروا آل عمار، وآل ياسر فإن موعدكم الجنة».
فأما أمه فيقتلوها فتأبى إلا الإسلام.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد.
قال: أول شهيد كان في الإسلام استشهد أم عمار سمية طعنها أبو جهل بحربة في قلبها.
وهذا مرسل.
قال محمد بن إسحاق: وكان أبو جهل الفاسق الذي يغري بهم في رجال من قريش، إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وخزَّاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك، ولنفلين رأيك، ولنضعن شرفك.
وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك.
وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به، لعنه الله وقبحه.
قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟
قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له، اللات والعزى إلهآن من دون الله.
فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم.
قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [النحل: 106] الآية.
فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن مسلم، عن مسروق، عن خباب بن الأرت، قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد.
فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث.
قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك؟
فأنزل الله تعالى { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } إلى قوله: { وَيَأْتِينَا فَرْدا } [مريم: 77-80] .
أخرجاه في (الصحيحين) وغيرهما من طرق عن الأعمش به.
وفي لفظ البخاري: كنت قينا بمكة، فعملت للعاص ابن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر الحديث.
وقال البخاري: حدثنا الحميدي، حدثنا سفيان، حدثنا بيان وإسماعيل.
قالا: سمعنا قيسا يقول: سمعت خبابا يقول: أتيت النبي ﷺ وهو متوسد ببردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟
فقعد وهو محمر الوجه.
فقال: «قد كان من كان قبلكم ليمشط بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله عز وجل»، زاد بيان «والذئب على غنمه».
وفي رواية: «ولكنكم تستعجلون» انفرد به البخاري دون مسلم.
وقد روى من وجه آخر عن خباب وهو مختصر من هذا والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان وابن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، عن خباب.
قال: شكونا إلى النبي ﷺ شدة الرمضاء فما أشكانا - يعني: في الصلاة - وقال ابن جعفر: فلم يشكنا.
وقال أيضا: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن وهب يقول: سمعت خبابا يقول: شكونا إلى رسول ﷺ الرمضاء فلم يشكنا، قال شعبة يعني: في الظهيرة.
ورواه مسلم، والنسائي، والبيهقي من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن سعيد بن وهب، عن خباب.
قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء - زاد البيهقي - في وجوهنا وأكفنا - فلم يشكنا.
وفي رواية: شكونا إلى رسول الله ﷺ الصلاة في الرمضاء فلم يشكنا.
ورووا ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي، عن وكيع عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب العبدي، عن خباب.
قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء فلم يشكنا.
والذي يقع لي - والله أعلم - أن هذا الحديث مختصر من الأول وهو أنهم شكوا إليه ﷺ ما يلقون من المشركين من التعذيب بحر الرمضاء، وأنهم يسحبونهم على وجوههم فيتقون بأكفهم، وغير ذلك من أنواع العذاب كما تقدم عن ابن إسحاق وغيره.
وسألوا منه ﷺ أن يدعو الله لهم على المشركين، أو يستنصر عليهم، فوعدهم ذلك ولم ينجزه لهم في الحالة الراهنة، وأخبرهم عمن كان قبلهم أنهم كانوا يلقون من العذاب ما هو أشد مما أصابهم، ولا يصرفهم ذلك عن دينهم، ويبشرهم أن الله سيتم هذا الأمر، ويظهره، ويعلنه، وينشره، وينصره في الأقاليم والآفاق حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون.
ولهذا قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ حر الرمضاء في وجوهنا وأكفنا فلم يشكنا، أي: لم يدع لنا في الساعة الراهنة، فمن استدل بهذا الحديث على عدم الإبراد، أو على وجوب مباشرة المصلى بالكف كما هو أحد قولي الشافعي ففيه نظر والله أعلم.