البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل اختلاف الصحابة في الأسارى على قولين
وقد اختلف الصحابة في الأسارى أيقتلون أو يفادون على قولين، كما قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، عن حميد، عن أنس - وذكر رجل - عن الحسن.
قال: استشار رسول الله ﷺ الناس في الأسارى يوم بدر، فقال: «إن الله قد أمكنكم منهم».
قال: فقام عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم.
قال: فأعرض عنه النبي ﷺ، ثم عاد النبي فقال للناس مثل ذلك، فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء.
قال: فذهب عن وجه رسول الله ﷺ ما كان فيه من الغم، فعفا عنهم وقبل منهم الفداء.
قال: وأنزل الله تعالى: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ } [الأنفال: 68] الآية.
انفرد به أحمد.
وقد روى الإمام أحمد - واللفظ له - ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وصححه وكذا علي بن المديني، وصححه من حديث عكرمة بن عمار، حدثنا سماك الحنفي - أبو زميل - حدثني ابن عباس، حدثني عمر ابن الخطاب قال:
نظر رسول الله ﷺ إلى أصحابه يوم بدر وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فذكر الحديث كما تقدم إلى قوله: فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا، واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر وعليا وعمر.
فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والأخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا.
فقال رسول الله ﷺ: «ما ترى يا ابن الخطاب؟».
قال: قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي ﷺ وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت يا رسول الله: أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟
فقال رسول الله ﷺ: «أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، قد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة» - لشجرة قريبة - وأنزل الله تعالى: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [الأنفال: 67] من الفداء، ثم أحل لهم الغنائم وذكر تمام الحديث.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله ﷺ: «ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟».
قال: فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم.
قال: وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك قربهم فأضرب أعناقهم.
قال: وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله أنظر واديا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم أضرمه عليهم نارا.
قال: فدخل رسول الله ﷺ ولم يرد عليهم شيئا.
فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس: يأخذ بقول عمر وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
فخرج عليهم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه، حتى تكون ألين من اللين، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم: 36] مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة: 118] ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: { رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارا } [نوح: 26] ، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [يونس: 88] ، أنتم عالة فلا يبقين أحد إلا بفداء أو ضربة عنق».
قال عبد الله: فقلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء، فإني قد سمعته يذكر الإسلام.
قال: فسكت.
قال: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء من ذلك اليوم حتى قال: إلا سهيل بن بيضاء.
قال: فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [الأنفال:] . إلى آخر الآيتين.
وهكذا رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي معاوية.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن عمر، وأبي، هريرة بنحو ذلك.
وقد روى عن أبي أيوب الأنصاري بنحوه.
وقد روى ابن مردويه، والحاكم في (المستدرك) من حديث عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر، أسره رجل من الأنصار، قال: وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه.
فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: «إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه».
قال عمر: أفآتيهم؟
قال: «نعم».
فأتى عمر الأنصار فقال لهم: «أرسلوا العباس».
فقالوا: لا والله لا نرسله.
فقال لهم عمر: فإن كان لرسول الله رضى؟
قالوا: فإن كان له رضى فخذه.
فأخذه عمر فلما صار في يده، قال له عمر: يا عباس أسلم فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله يعجبه إسلامك.
قال: واستشار رسول الله ﷺ أبا بكر، فقال أبو بكر: عشيرتك فأرسلهم.
واستشار عمر فقال: اقتلهم.
ففاداهم رسول الله ﷺ فأنزل الله: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } [الأنفال: 67] الآية.
ثم قال الحاكم في (صحيحه): هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وروى الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من حديث سفيان الثوري، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي ﷺ، فقال: خـِّير أصحابك في الأسارى إن شاؤا الفداء، وإن شاؤا القتل على أن يقتل عاما قابلا منهم مثلهم.
قالوا: الفداء أو يقتل منا.
وهذا حديث غريب جدا، ومنهم من رواه مرسلا عن عبيدة، والله أعلم.
وقد قال ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس، في قوله: { لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يقول: لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم.
وهكذا روي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا، واختاره ابن إسحاق وغيره.
وقال الأعمش: سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا.
وهكذا روي عن سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن جبير، وعطاء بن أبي رباح، وقال مجاهد والثوري: { لولا كتاب من الله سبق } أي: لهم بالمغفرة.
وقال الوالبي عن ابن عباس: سبق في أم الكتاب الأول أن المغانم وفداء الأسارى حلال لكم، ولهذا قال بعده: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا طَيِّبا } [الأنفال: 69] .
وهكذا روي عن أبي هريرة، وابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعطاء، والحسن، وقتادة، والأعمش، واختاره ابن جرير، وقد ترجح هذا القول بما ثبت في (الصحيحين) عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة».
وروى الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: «لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا».
ولهذا قال تعالى: { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالا طَيِّبا } [الأنفال: 69] فأذن الله تعالى في أكل الغنائم، وفداء الأسارى.
وقد قال أبو داود: حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي، ثنا سفيان بن حبيب، ثنا شعبة، عن أبي العنبس، عن أبي الشعثاء، عن ابن عباس: أن رسول الله ﷺ جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وهذا كان أقل ما فودي به أحد منهم من المال، وأكثر ما فودي به الرجل منهم أربعة آلاف درهم.
وقد وعد الله من آمن منهم بالخلف عما أخذ منه في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرا يُؤْتِكُمْ خَيْرا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } [الأنفال: 70] الآية.
وقال الوالبي عن ابن عباس: نزلت في العباس ففادى نفسه بالأربعين أوقية من ذهب، قال العباس: فآتاني الله أربعين عبدا - يعني: كلهم يتجر له -.
قال: وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله جل ثناؤه.
وقال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل، عن بعض أهله، عن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله ﷺ يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق، بات النبي ﷺ ساهرا أول الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام يا رسول الله؟ - وقد أسر العباس رجل من الأنصار - فقال: «سمعت أنين عمي العباس في وثاقه».
فأطلقوه فسكت، فنام رسول الله ﷺ.
قال ابن إسحاق: وكان رجلا موسرا ففادى نفسه بمائة أوقية من ذهب.
قلت: وهذه المائة كانت عن نفسه وعن ابني أخويه عقيل ونوفل، وعن حليفه عتبة بن عمرو أحد بني الحارث بن فهر، كما أمره بذلك رسول الله ﷺ حين ادعى أنه كان قد أسلم.
فقال له رسول الله ﷺ: «أما ظاهرك فكان علينا والله أعلم بإسلامك وسيجزيك».
فادعى أنه لا مال عنده، قال: «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل وقلت لها: إن أصبت في سفري فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم».
فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا شيء ما علمه إلا أنا وأم الفضل.
رواه ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس.
وثبت في (صحيح البخاري) من طريق موسى بن عقبة، قال الزهري: حدثني أنس بن مالك قال: إن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله ﷺ، قالوا: إيذن لنا فلنترك لابن اختنا العباس فداءه.
فقال: «لا والله لا تذرون منه درهما».
قال البخاري: وقال إبراهيم بن طهمان، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس: أن النبي ﷺ أتى بمال من البحرين، فقال: «انثروه في المسجد».
فكان أكثر مال أتى به رسول الله ﷺ، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله أعطني إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا.
فقال: «خذ».
فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي.
قال: «لا».
قال: فارفعه أنت علي.
قال: «لا».
فنثر منه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إلي.
قال: «لا».
قال: فارفعه أنت علي.
قال: «لا».
فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق.
فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه، فما قام رسول الله ﷺ وثم منها درهم.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس، عن أسباط بن نصر، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي.
قال: كان فداء العباس وابني أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب كل رجل أربعمائة دينار، ثم توعد تعالى الآخرين، فقال: { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 71] .