البداية والنهاية/الجزء الثالث/المستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم وما ظهر فيهم
فجعلت قريش حين منعه الله منها وقام عمه وقومه من بني هاشم وبني عبد المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به، يهمزونه ويستهزؤن به ويخاصمونه، وجعل القرآن ينزل في قريش بأحداثهم، وفيمن نصب لعداوته، منهم من سمى لنا، ومنهم من نزل فيه القرآن في عامة من ذكر الله من الكفار.
فذكر ابن إسحاق أبا لهب ونزول السورة فيه، وأمية بن خلف ونزول قوله تعالى: { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ } السورة بكاملها فيه.
والعاص بن وائل ونزول قوله: { أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدا } [مريم: 77] فيه.
وقد تقدم شيء من ذلك.
وأبا جهل بن هشام وقوله للنبي ﷺ: لتتركن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذي تعبد.
ونزول قول الله فيه: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [الأنعام: 108] الآية.
والنضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة - ومنهم من يقول علقمة بن كلدة قاله السهيلي - وجلوسه بعد النبي ﷺ في مجالسه حيث يتلو القرآن ويدعو إلى الله، فيتلو عليهم النضر شيئا من أخبار رستم واسفنديار وما جرى بينهما من الحروب في زمن الفرس، ثم يقول: والله ما محمد بأحسن حديثا مني، وما حديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبها.
فأنزل الله تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا } [الفرقان: 5]
وقوله: { وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } [الجاثية: 7] .
قال ابن إسحاق: وجلس رسول الله ﷺ - فيما بلغنا - يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم في المجلس، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش، فتكلم رسول الله ﷺ فعرض له النضر فكلَّمه رسول الله ﷺ حتى أفحمه.
ثم تلا عليه وعليهم: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } [الأنبياء: 98 - 100] .
ثم قام رسول الله ﷺ وأقبل عبد الله بن الزبعري السهمي حتى جلس.
فقال الوليد بن المغيرة له: والله ما قام والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد، وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم..
فقال عبد الله بن الزبعري: أما والله لو وجدته لخصمته، فسلوا محمدا: أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده؟
فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى.
فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعري ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله ﷺ.
فقال: «كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده في النار، أنهم إنما يعبدون الشياطين، ومن أمرتهم بعبادته».
فأنزل الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [الأنبياء: 101-102] أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى.
ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنها بنات الله: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } [الأنبياء: 26-29] والآيات بعدها.
ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعري: { وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } [الزخرف: 57-58] وهذا الجدل الذي سلكوه باطل.
وهم يعلمون ذلك لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن ما لما لا يعقل، فقوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور، ولا المسيح، ولا عزيرا، ولا أحدا من الصالحين لأن اللفظ لا يتناولهم لا لفظا ولا معنى.
فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل كما قال الله تعالى: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ }.
ثم قال: { إِنْ هُوَ } أي عيسى { إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } أي بنبوتنا { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى كما قال في الآية الأخرى: { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ } أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة { وَرَحْمَةً مِنَّا } نرحم بها من نشاء.
وذكر ابن إسحاق: الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى فيه: { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } [نون: 10] الآيات، وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال: أينزل على محمد وأترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمرو الثقفي سيد ثقيف فنحن عظيما القريتين.
ونزول قوله فيه: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31] والتي بعدها.
وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط: ألم يبلغني أنك جالست محمدا؟ وسمعت منه وجهي من وجهك حرام أن أكلمك - وأستغلظ من اليمين - إن أنت جلست إليه أو سمعت منه إلا أن تتفل في وجهه ففعل ذلك عدو الله عقبة - لعنه الله -..
فأنزل الله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانا خَلِيلا } [الفرقان: 27-28] والتي بعدها.
قال ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم.
فقال: يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم، ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله ﷺ.
فقال: نعم! أنا أقول ذلك، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار.
وأنزل الله تعالى: { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [يس: 78-79] إلى آخر السورة.
قال: واعترض رسول الله ﷺ - فيما بلغني وهو يطوف عند باب الكعبة - الأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل وكانوا ذوي أسنان في قومهم.
فقالوا: يا محمد هلم فلنعبد ما تعبد، وتعبد ما نعبد، فنشترك نحن وأنت في الأمر.
فأنزل الله فيهم: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } إلى آخرها.
ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم.
قال: أتدرون ما الزقوم؟ هو تمر يضرب بالزبد ثم قال: هلموا فلنتزقم فأنزل الله تعالى: { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ } [الدخان: 43-44] .
قال: ووقف الوليد بن المغيرة فكلَّم رسول الله ﷺ ورسول الله ﷺ يكلمه وقد طمع في إسلامه فمر به ابن أم مكتوم - عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة - الأعمى فكلم رسول الله ﷺ وجعل يستقرئه القرآن، فشق ذلك عليه حتى أضجره.
وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد، وما طمع فيه من إسلامه، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا، وتركه فأنزل الله تعالى: { عبس وتولى أن جاءه الأعمى } إلى قوله { مرفوعة مطهرة } وقد قيل: إن الذي كان يحدث رسول الله ﷺ حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف فالله أعلم..
ثم ذكر ابن إسحاق من عاد من مهاجرة الحبشة إلى مكة وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة وكان النقل ليس بصحيح، ولكن كان له سبب، وهو ما ثبت في (الصحيح) وغيره أن رسول الله ﷺ: جلس يوما مع المشركين، وأنزل الله عليه: { والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم } يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد.
فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس، وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [الحج: 52] .
وذكروا قصة الغرانيق وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضيعها، إلا أن أصل القصة في (الصحيح).
قال البخاري: حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس.
قال: سجد النبي ﷺ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس انفرد به البخاري دون مسلم.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله.
قال: قرأ النبي ﷺ والنجم بمكة، فسجد فيها وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصا - أو تراب - فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا، فرأيته بعد قتل كافرا، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث شعبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاووس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه.
قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرأها إلا سجد معه.
وقد رواه النسائي عن عبد الملك بن عبد الحميد عن أحمد بن حنبل به.
وقد يجمع بين هذا والذي قبله بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا، وذلك الشيخ الذي استثناه ابن مسعود لم يسجد بالكلية والله أعلم.
والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله ﷺ أعتقد أنهم قد أسلموا واصطلحوا معه ولم يبق نزاع بينهم، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها..
فظنوا صحة ذلك فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك، وثبتت جماعة وكلاهما محسن مصيب فيما فعل فذكر ابن إسحاق أسماء من رجع منهم؛ عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله ﷺ، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو وعبد الله بن جحش بن رئاب، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد بن حرملة.
وطليب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية ابن المغيرة، وشماس بن عثمان، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة - وقد حبسا بمكة حتى مضت بدرا وأحدا والخندق - وعمار بن ياسر - وهو ممن شك فيه أخرج إلى الحبشة أم لا -.
ومعتب ابن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب، وأخواه قدامة وعبد الله ابنا مظعون، وخنيس بن حذافة، وهشام بن العاص بن وائل - وقد حبس بمكة إلى بعد الخندق - وعامر بن ربيعة، وامرأته ليلى بنت أبي حثمة.
وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو - وقد حبس حتى كان يوم بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا - وأبو سبرة بن أبي رهم، وامرأته أم كلثوم بنت سهيل، والسكران بن عمرو بن عبد شمس، وامرأته سودة بنت زمعة - وقد مات بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله ﷺ - وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم.
وقال البخاري: وقالت عائشة قال رسول الله ﷺ: «أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين»..
فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة.
وفيه: عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما عن النبي ﷺ وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في (الصحيحين)، وسيأتي حديث أسماء بنت عميس بعد فتح خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة إن شاء الله وبه الثقة.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا أبو عوانة، عن سليمان عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله.
قال: كنا نسلِّم على النبي ﷺ وهو يصلي فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا يا رسول الله: إنا كنا نسلم عليك فترد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي لم ترد علينا؟
قال: «إن في الصلاة شغلا».
وقد روى البخاري أيضا ومسلم وأبو داود والنسائي من طرق أخر عن سليمان بن مهران عن الأعمش به، وهو يقوي تأويل من تأول حديث زيد بن أرقم الثابت في (الصحيحين) كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
على أن المراد جنس الصحابة، فإن زيدا أنصاري مدني، وتحريم الكلام في الصلاة ثبت بمكة، فتعين الحمل على ما تقدم.
وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك وإنما كان المحرم له غيرها معها والله أعلم.
قال ابن إسحاق: وكان ممن دخل منهم بجوار؛ فيمن سمي لنا: عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، وأبو سلمة بن عبد الأسد في جوار خاله أبي طالب، فإن أمه برة بنت عبد المطلب.
فأما عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمن حدثه عن عثمان.
قال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله ﷺ من البلاء، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال له: لم يا ابن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي.
فقال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليَّ جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقنا فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري..
قال: صدق، قد وجدته وفيَّا كريم الجوار، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *
فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد:
وكل نعيم لا محالة زائل *
فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟
فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا فلا تجدن في نفسك من قوله، فردَّ عليه عثمان حتى شري أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها والوليد ابن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان.
فقال: والله يا ابن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة.
قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإني لفي جوار من هو أعزُّ منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
فقال له الوليد: هلم يا ابن أخي إلى جوارك فعد.
قال: لا!
قال ابن إسحاق: وأما أبو سلمة بن عبد الأسد، فحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن سلمة بن عبد الله بن عمر أبي سلمة أنه حدثه: أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب، مشى إليه رجال من بني مخزوم، فقالوا له: يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟
قال: إنه استجار بي، وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي، فقام أبو لهب.
فقال: يا معشر قريش والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه، حتى يبلغ ما أراد.
قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة.
وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله ﷺ فأبقوا على ذلك فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله ﷺ، فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله ﷺ:
إن امرءا أبو عتيبة عمه * لفي روضة ما أن يُسامُ المظالما
أقول له، وأين منه نصيحتي * أبا معتبِ ثبت سوادك قائما
ولا تقبلنَّ الدهر ما عشتَ خطة * تسب بها إمَّا هبطت المواسما
وولِّ سبيل العجزِ غيرك منهم * فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى * أخا الحرب يعطى الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة * ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمسٍ ونوفلا * وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعدِ ودٍّ وألفةٍ * جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت الله نبزى محمدا * ولما تروا يوما لدى الشعب قائما
قال ابن هشام: وبقي منها بيت تركناه.