البداية والنهاية/الجزء الثالث/فصل في إسلام عبد الله بن سلام
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا عوف، عن زرارة، عن عبد الله بن سلام.
قال: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فلما تبينت وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب.
فكان أول شيء سمعته يقول: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام».
ورواه الترمذي، وابن ماجه، من طرق عن عوف الأعرابي، عن زرارة بن أبي أوفى به عنه.
وقال الترمذي: صحيح.
ومقتضى هذا السياق يقتضي أنه سمع بالنبي ﷺ ورآه أول قدومه حين أناخ بقباء في بني عمرو بن عوف.
وتقدم في رواية عبد العزيز بن صهيب، عن أنس أنه اجتمع به حين أناخ عند دار أبي أيوب عند ارتحاله من قباء إلى دار بني النجار كما تقدم.
فلعله رآه أول ما رآه بقباء، واجتمع به بعد ما صار إلى دار بني النجار، والله أعلم.
وفي سياق البخاري من طريق عبد العزيز عن أنس.
قال: فلما جاء النبي ﷺ جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس فيَّ.
فأرسل نبي الله ﷺ إلى اليهود فدخلوا عليه.
فقال لهم: «يا معشر اليهود ويلكم، اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق فأسلموا».
قالوا: ما نعلمه.
قالوا ذلك للنبي ﷺ قالها ثلاث مرار.
قال: «فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟»
قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا.
قال: «أفرأيتم إن أسلم؟»
قالوا: حاش لله ما كان ليسلم.
قال: «يا ابن سلام اخرج عليهم» فخرج فقال: يا معشر يهود اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بالحق.
فقالوا: كذبت.
فأخرجهم رسول الله ﷺ، هذا لفظه.
وفي رواية: فلما خرج عليهم شهد شهادة الحق.
قالوا: شَرُّنَا وابن شَرِّنَا، وتنقصوه فقال: يا رسول الله هذا الذي كنت أخاف.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا الأصم، حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني، ثنا عبد الله بن أبي بكر، ثنا حميد، عن أنس.
قال: سمع عبد الله بن سلام بقدوم النبي ﷺ - وهو في أرض له - فأتى النبي ﷺ فقال: إني أسائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟
قال: «أخبرني بهن جبريل آنفا».
قال: جبريل؟
قال: «نعم!»
قال: عدو اليهود من الملائكة.
ثم قرأ: { مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ } [البقرة:97]
قال: «أما أول أشراط الساعة: فنار تخرج على الناس من المشرق تسوقهم إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة: فزيادة كبد حوت، وأما الولد: فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت الولد».
فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وأنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني.
فجاءت اليهود فقال: «أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟»
قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
قال: «أرأيتم إن أسلم؟»
قالوا: أعاذه الله من ذلك.
فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.
قالوا: شرنا وابن شرنا وانتقصوه.
قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله.
ورواه البخاري، عن عبد بن منير، عن عبد الله بن أبي بكر به.
ورواه عن حامد بن عمر، عن بشر بن المفضل، عن حميد به.
قال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله، عن رجل من آل عبد الله بن سلام قال: كان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم - وكان حبرا عالما - قال: لما سمعت برسول الله وعرفت صفته واسمه وهيئته وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت بقباء مسرا بذلك صامتا عليه حتى قدم رسول الله ﷺ المدينة، فلما قدم نزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
فأقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله ﷺ كـَّبرتُ، فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: لو كنت سمعت بموسى بن عمران مازدت.
قال: قلت لها: أي عمه، والله هو أخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به.
قال: فقالت له: يا ابن أخي أهو الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟
قال: قلت لها: نعم!
قالت: فذاك إذا.
قال: فخرجت إلى رسول الله ﷺ فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود وقلت: يا رسول الله إن اليهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك فتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني فيخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن يعلموا بذلك بهتوني وعابوني، وذكر نحو ما تقدم.
قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث فحسن إسلامها.
وقال يونس بن بكير: عن محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي بكر، حدثني محدث، عن صفية بنت حيي قالت:
لم يكن أحد من أبي وعمي أحب إليهما مني، لم ألقهما في ولد لهما قط أهش إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول ﷺ قباء - قرية بني عمرو بن عوف - غدا إليه أبي وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فوالله ما جاآنا إلا مع مغيب الشمس.
فجاآنا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع فوالله ما نظر إلي واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟
قال: نعم والله!
قال: تعرفه بنعته وصفته؟
قال نعم والله!
قال: فماذا في نفسك منه؟
قال: عداوته والله ما بقيت.
وذكر موسى بن عقبة، عن الزهري: أن أبا ياسر بن أخطب حين قدم رسول الله ﷺ المدينة ذهب إليه وسمع منه وحادثه، ثم رجع إلى قومه فقال: يا قوم أطيعونِ فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرون، فاتبعوه ولا تخالفوه فانطلق أخوه حيي بن أخطب - وهو يومئذ سيد اليهود، وهما من بني النضير - فجلس إلى رسول الله وسمع منه، ثم رجع إلى قومه - وكان فيهم مطاعا - فقال: أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا أبدا.
فقال له أخوه أبو ياسر: يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعده لا تهلك.
قال: والله لا أطيعك أبدا، واستحوذ عليه الشيطان واتبعه قومه على رأيه.
قلت: أما أبو ياسر واسمه وأما حيي بن أخطب فلا أدري ما آل إليه أمره، وأما حيي بن أخطب والد صفية بنت حيي فشرب عداوة النبي ﷺ وأصحابه، ولم يزل ذلك دأبه لعنه الله حتى قتل صبرا بين يدي رسول الله ﷺ يوم قتل مقاتلة بني قريظة كما سيأتي، إن شاء الله.