البداية والنهاية/الجزء الثالث/ذكر خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ
قال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، عن سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: أنه بلغه عن خطبة النبي ﷺ في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عمرو بن عوف رضي الله عنهم: «الحمد لله أحمده وأستعينه، وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا، وأوصيكم بتقوى الله فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله، فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة، ولا أفضل من ذلك ذكرى.
وإنه تقوى لمن عمل به على وجل ومخافة من ربه، وعون صدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت، حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوى ذلك يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، ويحذركم الله نفسه والله رؤف بالعباد.
والذي صدق قوله، وأنجز وعده، لأخلف لذلك فإنه يقول تعالى: { ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد } واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السر والعلانية فإنه { من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا } { ومن يتق الله فقد فاز فوزا عظيما } وإن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه.
وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة، خذوا بحظكم ولا تفرطوا في جنب الله قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا وليعلم الكاذبين فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد الموت فإنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».
هكذا أوردها ابن جرير وفي السند إرسال.
وقال البيهقي: باب - أول خطبة خطبها رسول الله ﷺ حين قدم المدينة -:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، ثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق: حدثني المغيرة بن عثمان بن محمد بن عثمان، والأخنس بن شريق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كانت أول خطبة خطبها رسول الله ﷺ بالمدينة أن قام فيها فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد: أيها الناس فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه - ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه - ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالا، وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟ فينظر يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، ثم ينظر قدَّامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزي الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسلام على رسول الله ورحمة الله وبركاته».
ثم خطب رسول الله ﷺ مرة أخرى فقال: «أن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه وأدخله في الإسلام بعد الكفر واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم ولا تملوا كلام الله وذكره ولا تقسى عنه قلوبكم فإنه من يختار الله ويصطفي فقد سماه خيرته من الأعمال، وخيرته من العباد.
والصالح من الحديث ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».
وهذه الطريق أيضا مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها وإن اختلفت الألفاظ.