البداية والنهاية/الجزء الثالث/مقتل أبي جهل لعنه الله
قال ابن هشام: وأقبل أبو جهل يومئذٍ يرتجز وهو يقاتل ويقول:
ما تنقم الحرب العوان مني * بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
قال ابن إسحاق: ولما فرغ رسول الله ﷺ من عدوه، أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى.
وكان أول من لقي أبا جهل كما حدثني ثور بن زيد، عن عكرمة، عن ابن عباس وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون: أبو الحكم لا يخلص إليه، فلما سمعتها جعلته من شأني فصمدت نحوه، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها.
قال: وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه، فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمن عثمان.
ثم مرَّ بأبي جهل - وهو عقير - معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته، وتركه وبه رمق.
وقاتل معوذ حتى قتل، فمرَّ عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله ﷺ أن يلتمس في القتلى وقد قال لهم رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «أنظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبته فجحش في أحدهما جحشا لم يزل أثره به».
قال ابن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته.
فوضعت رجلي على عنقه.
قال: وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني ثم قلت له: هل أخزاك الله يا عدو الله؟
قال: وبماذا أخزاني؟
قال: أعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم؟
قال: قلت لله ولرسوله.
قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول: قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، قال: ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله.
فقال: «آلله الذي لا إله غيره؟».
وكانت يمين رسول الله ﷺ فقلت: نعم! والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله ﷺ فحمد الله.
هكذا ذكر ابن إسحاق رحمه الله.
وقد ثبت في (الصحيحين) من طريق يوسف بن يعقوب بن الماجشون، عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف.
قال: إني لواقف يوم بدر في الصف فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أظلع منهما فغمزني أحدهما فقال: يا عم أتعرف أبا جهل؟
فقلت: نعم وما حاجتك إليه؟
قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ﷺ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكم الذي تسألان عنه.
فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه ثم انصرفا إلى النبي ﷺ فأخبراه، فقال: «أيكما قتله؟».
قال كل منهما: أنا قتلته.
قال: «هل مسحتما سيفيكما؟».
قالا: لا.
قال: فنظر النبي ﷺ في السيفين، فقال: «كلاهما قتله».
وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح والآخر معاذ بن عفراء.
وقال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، ثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده.
قال: قال عبد الرحمن: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن فكأني لم آمن بمكانهما إذ قال لي أحدهما سرا من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل.
فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟
قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه.
وقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما إليه فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه وهما ابنا عفراء.
وفي (الصحيحين)أيضا من حديث أبي سليمان التيمي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «من ينظر ماذا صنع أبو جهل؟».
قال ابن مسعود: أنا يا رسول الله.
فانطلق فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد.
قال: فأخذ بلحيته، قال: فقلت أنت أبو جهل؟
فقال: وهو فوق رجل قتلتموه - أو قال: قتله قومه -. وعند البخاري عن أبي سلمة، عن إسماعيل بن قيس، عن ابن مسعود، أنه أتى أبا جهل فقال: هل أخزاك الله؟
فقال: هل أعمد من رجل قتلتموه.
وقال الأعمش عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، قال: انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع، وعليه بيضة ومعه سيف جيد، ومعي سيف رديء فجعلت أنقف رأسه بسيفي، وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة، حتى ضعفت يده فأخذت سيفه فرفع رأسه، فقال: على من كانت الدائرة لنا أو علينا، ألست رويعينا بمكة؟
قال: فقتلته، ثم أتيت النبي ﷺ فقلت: قتلت أبا جهل.
فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟».
فاستحلفني ثلاث مرات، ثم قام معي إليهم فدعا عليهم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، قال: قال عبد الله: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد ضربت رجله، وهو يذب الناس عنه بسيف له، فقلت: الحمد الله الذي أخزاك الله يا عدو الله.
قال: هل هو إلا رجل قتله قومه.
فجعلت أتناوله بالسيف لي غير طائل فأصبت يده، فندر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته.
قال: ثم خرجت حتى أتيت النبي ﷺ كأنما أقل من الأرض فأخبرته، فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟» فرددها ثلاثا.
قال: قلت: «آلله الذي لا إله إلا هو».
قال: فخرج يمشي معي حتى قام عليه فقال: «الحمد لله الذي قد أخزاك الله يا عدو الله، هذا كان فرعون هذه الأمة».
وفي رواية أخرى قال ابن مسعود: فنفلني سيفه.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود، قال: أتيت رسول الله ﷺ يوم بدر، فقلت: قد قتلت أبا جهل.
فقال: «آلله الذي لا إله إلا هو؟».
فقلت: آلله الذي لا إله إلا هو مرتين - أو ثلاثا -.
قال: فقال النبي ﷺ: «الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده».
ثم قال: «انطلق فأرنيه».
فانطلقت فأريته، فقال: «هذا فرعون هذه الأمة».
ورواه أبو داود والنسائي من حديث أبي إسحاق السبيعي به.
وقال الواقدي: وقف رسول الله ﷺ على مصرع ابني عفراء، فقال: «رحم الله ابني عفراء فهما شركاء في قتل فرعون هذه الأمة، ورأس أئمة الكفر».
فقيل: يا رسول الله ومن قتله معهما؟
قال: «الملائكة وابن مسعود قد شرك في قتله» رواه البيهقي.
وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الأصم، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن أبي إسحاق، قال: لما جاء رسول الله ﷺ البشير يوم بدر بقتل أبي جهل، استحلفه ثلاثة أيمان بالله الذي لا إله إلا هو، لقد رأيته قتيلا؟ فحلف له فخر رسول الله ﷺ ساجدا.
ثم روى البيهقي من طريق أبي نعيم، عن سلمة بن رجاء، عن الشعثاء - امرأة من بني أسد - عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله ﷺ صلى ركعتين حين بشر بالفتح، وحين جيء برأس أبي جهل.
وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بشر بكر بن خلف، حدثنا سلمة بن رجاء قال: حدثتني شعثاء، عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله ﷺ صلى يوم بشِّر برأس أبي جهل ركعتين.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبي، حدثنا هشام، أخبرنا مجالد، عن الشعبي: أن رجلا قال لرسول الله ﷺ: إني مررت ببدر، فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة معه، حتى يغيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك مرارا.
فقال رسول الله ﷺ: «ذاك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة».
وقال الأموي في (مغازيه): سمعت أبي، ثنا المجالد بن سعيد، عن عامر قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: إني رأيت رجلا جالسا في بدر، ورجل يضرب رأسه بعمود من حديد حتى يغيب في الأرض.
فقال رسول الله ﷺ: «ذاك أبو جهل وكل به ملك يفعل به كلما خرج، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة».
وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل، ثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه قال: قال الزبير: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص، وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش فحملت عليه بعنزة، فطعنته في عينه فمات.
قال هشام: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطيت، فكان الجهد أن نزعتها، وقد انثنى طرفاها.
قال عروة: فسأله إياها رسول الله ﷺ فأعطاه إياها، فلما قبض رسول الله ﷺ أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سألها إياه عمر بن الخطاب فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها ثم طلبها عثمان منه فأعطاه إياها، فلما قتل عثمان وقعت عند آل علي، فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.
وقال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص - ومرَّ به -:
إني أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أني قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت به وهو يبحث بحث الثور بروقه، فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله.
قال ابن إسحاق: وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، حليف بني عبد شمس، يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله ﷺ فأعطاه جذلا من حطب، فقال: «قاتل بهذا يا عكاشة».
فلما أخذه من رسول الله ﷺ هزَّه فعاد سيفا في يده طويل القامة، شديد المتن أبيض الحديدة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، وكان ذلك السيف يسمى: (العون).
ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله ﷺ حتى قتله طليحة الأسدي أيام الردة، وأنشد طليحة في ذلك قصيدة منها قوله:
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا * وعكاشة الغنمي عند مجال
وقد أسلم بعد ذلك طليحة كما سيأتي بيانه.
قال ابن إسحاق: وعكاشة هو الذي قال حين بشَّر رسول الله ﷺ أمته بسبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب: ادع الله أن يجعلني منهم.
قال: «اللهم اجعله منهم».
وهذا الحديث مخرج في الصحاح والحسان وغيرهما.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله ﷺ - فيما بلغني -: «منا خير فارس في العرب».
قالوا: ومن هو يا رسول الله؟
قال: «عكاشة بن محصن».
فقال ضرار بن الأزور: ذاك رجل منا يا رسول الله.
قال: «ليس منكم ولكنه منا للحلف».
وقد روى البيهقي، عن الحاكم، من طريق محمد بن عمر الواقدي: حدثني عمر بن عثمان الخشني، عن أبيه، عن عمته، قالت: قال عكاشة بن محصن: انقطع سيفي يوم بدر فأعطاني رسول الله ﷺ عودا فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت به حتى هزم الله المشركين، ولم يزل عنده حتى هلك.
وقال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن داود بن الحصين، عن رجال من بني عبد الأشهل عدة، قالوا: انكسر سيف سلمة بن حريش يوم بدر، فبقي أعزل لا سلاح معه، فأعطاه رسول الله ﷺ قضيبا كان في يده من عراجين ابن طاب، فقال: «اضرب به».
فإذا سيف جيد فلم يزل عنده، حتى قتل يوم جسر أبي عبيد.