البداية والنهاية/الجزء الثالث/قصة بيعة العقبة الثانية
قال ابن إسحاق: ثم أن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله ﷺ العقبة من أواسط أيام التشريق، حين أراد الله بهم من كرامته والنصر لنبيه وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
فحدثني معبد بن كعب بن مالك: أن أخاه عبد الله بن كعب - وكان من أعلم الأنصار - حدثه أن أباه كعبا حدثه - وكان ممن شهد العقبة وبايع رسول الله ﷺ بها -.
قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا، فلما وجهنا لسفرنا، وخرجنا من المدينة، قال البراء: يا هؤلاء، إني قد رأيت رأيا والله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟
قلنا: وما ذاك؟
قال: قد رأيت أن لا أدع هذه البنية مني بظهر - يعني: الكعبة - وأن أصلي إليها.
قال: فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا ﷺ يصلي إلا إلى الشام وما نريد أن نخالفه.
فقال: إني لمصلٍّ إليها، قال: فقلنا له: لكنا لا نفعل.
قال: فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى هو إلى الكعبة حتى قدمنا مكة.
قال: وقد كنا قد عبنا عليه ما صنع وأبى إلا الإقامة على ذلك.
فلما قدمنا مكة، قال لي: يا ابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله ﷺ حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه قد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه.
قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ﷺ - وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك -فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله ﷺ قال: هل تعرفانه؟
فقلنا: لا.
فقال: هل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟
قال: قلنا: نعم! وقد كنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا، قال: فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس.
قال: فدخلنا المسجد وإذا العباس جالس ورسول الله ﷺ جالس معه، فسلمنا ثم جلسنا إليه؛ فقال رسول الله ﷺ للعباس: «هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل؟»
قال: نعم، هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب بن مالك قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله ﷺ الشاعر؟
قال: «نعم!»
فقال له البراء بن معرور: يا نبي الله، إني خرجت في سفري هذا قد هداني الله تعالى للإسلام، فرأيت أن لا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها وقد خالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى؟
قال: «قد كنت على قبلة لو صبرت عليها»
قال: فرجع البراء إلى قبلة رسول الله ﷺ فصلى معنا إلى الشام، قال: وأهله يزعمون أنه صلى إلى الكعبة حتى مات، وليس ذلك كما قالوا: نحن أعلم به منهم.
قال كعب بن مالك: ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله ﷺ العقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ﷺ فيها ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من سادتنا أخذناه وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا، فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر إنك سيد من سادتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا.
ثم دعوناه إلى الإسلام وأخبرناه بميعاد رسول الله ﷺ إيانا العقبة قال: فأسلم وشهد معنا العقبة وكان نقيبا.
وقد روى البخاري: حدثني إبراهيم، حدثنا هشام: أن ابن جريج أخبرهم: قال عطاء: قال جابر: أنا وأبي وخالي من أصحاب العقبة.
قال عبد الله بن محمد: قال ابن عيينة: أحدهم: البراء بن معرور.
حدثنا علي بن المديني، حدثنا سفيان قال: كان عمرو يقول: سمعت جابر بن عبد الله يقول: شهد بي خالاي العقبة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم، عكاظ ومجنة، وفي المواسم يقول: «من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة» فلا يجد أحدا يؤويه ولا ينصره حتى أن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر - كذا قال فيه - فيأتيه قومه وذوو رحمه.
فيقولون: احذر غلام قريش لا يفتنك، ويمضي بين رحالهم يدعوهم إلى الله عز وجل وهم يشيرون إليه بالأصابع حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام.
ثم ائتمروا جميعا، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله ﷺ يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلا حتى قدموا عليه في الموسم فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا.
فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟
قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة».
فقمنا إليه نبايعه وأخذ بيده أسعد بن زرارة - وهو من أصغرهم - وفي رواية البيهقي: - وهو أصغر السبعين - إلا أنا، فقال: رويدا يا أهل يثرب فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.
فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وأما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله.
قالوا: أبط عنا يا أسعد فوالله لا ندع هذه البيعة ولا نسلبها أبدا.
قال: فقمنا إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.
وقد رواه الإمام أحمد أيضا، والبيهقي من طريق داود بن عبد الرحمن العطار - زاد البيهقي عن الحاكم - بسنده إلى يحيى بن سليم كلاهما، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي إدريس به نحوه.
وهذا إسناد جيد على شرط مسلم ولم يخرجوه.
وقال البزار: وروى غير واحد، عن ابن خثيم ولا نعلمه يروي عن جابر إلا من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كان العباس آخذا بيد رسول الله ﷺ ورسول الله يواثقنا، فلما فرغنا قال رسول الله ﷺ: «أخذت وأعطيت».
وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان - هو الثوري -، عن جابر - يعني: الجعفي - عن داود - وهو ابن أبي هند، - عن الشعبي، عن جابر - يعني: ابن عبد الله - قال: قال رسول الله ﷺ للنقباء من الأنصار: «تؤوني وتمنعوني؟».
قالوا: نعم.
قالوا: فما لنا؟
قال: «الجنة».
ثم قال: لا نعلمه يروي إلا بهذا الإسناد عن جابر.
ثم قال ابن إسحاق: عن معبد، عن عبد الله، عن أبيه كعب بن مالك قال: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله ﷺ نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، أم عمارة، إحدى نساء بني مازن بن النجار، وأسماء ابنة عمرو بن عدي بن نابي إحدى نساء بني سلمة وهي: أم منيع.
وقد صرح ابن إسحاق - في رواية يونس بن بكير عنه - بأسمائهم وأنسابهم وما ورد في بعض الأحاديث: أنهم كانوا سبعين، والعرب كثيرا ما تحذف الكسر.
وقال عروة بن الزبير، وموسى بن عقبة: كانوا سبعين رجلا وامرأة واحدة، قال: منهم أربعون من ذوي أسنانهم، وثلاثون من شبابهم، قال: وأصغرهم أبو مسعود وجابر بن عبد الله.
قال كعب بن مالك: فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ﷺ حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له.
فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج، - قال: وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمدا منا حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده.
قال: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت: فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت، قال: فتكلم رسول الله ﷺ فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام.
قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم».
قال: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم! فوالذي بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر.
قال: فاعترض القول، والبراء يكلم رسول الله ﷺ، أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها - يعني: اليهود - فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟
قال: فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».
قال كعب: وقد قال رسول الله ﷺ: «أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم بما فيهم».
فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
قال ابن إسحاق: وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة المتقدم، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن امرئ القيس الأكبر بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج، ورافع بن مالك بن العجلان المتقدم.
والبراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، وعبد الله بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة، وعبادة بن الصامت المتقدم.
وسعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن خزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج، والمنذر بن عمرو بن خنيس بن حارثة بن لوذان بن عبد ود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب ابن الخزرج.
فهؤلاء تسعة من الخزرج ومن الأوس ثلاثة: وهم: أسيد بن حضير بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك ابن الأوس، وسعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن كعب بن النحاط بن كعب بن حارثة بن غنم بن السلم بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس.
ورفاعة بن عبد المنذر بن زنير بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس.
قال ابن هشام: وأهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان بدل رفاعة هذا، وهو كذلك في رواية يونس عن ابن إسحاق.
واختاره السهيلي وابن الأثير في (أسد الغابة).
ثم استشهد ابن هشام على ذلك بما رواه عن أبي زيد الأنصاري فيما ذكره من شعر كعب بن مالك في ذكر النقباء الإثني عشر هذه الليلة - ليلة العقبة الثانية - حين قال:
أبلغ أبيا أنه فال رأيه * وحان غداة الشعب والحين واقع
أبى الله ما منتك نفسك إنه * بمرصاد أمر الناس راءٍ وسامع
وأبلغ أبا سفيان أن قد بدالنا * بأحمد نورٌ من هدى الله ساطع
فلا ترغبن في حشد أمر تريده * وألَّبْ وجمِّع كل ما أنت جامع
ودونك فاعلم أن نقض عهودنا * أباه عليك الرهطُ حين تبايعوا
أباه البراءُ وابن عمرٍ كلاهما * وأسعد يأباه عليك ورافع
وسعد أباه الساعدي ومنذر * لأنفك إن حاولت ذلك جادع
وما ابن ربيع إن تناولت عهده * بمسلّمه لا يطمعن ثم طامع
وأيضا فلا يعطيكه ابن رواحة * وإخفارُه من دونه السمُّ ناقع
وفاء به، والقوقلي بن صامت * بمندوحة عما تحاول يافع
أبو هيثم أيضا وفيٌّ بمثلها * وفاء بما أعطى من العهد خانع
وما ابن حضير إن أردت بمْطِمِعٍ * فهل أنت عن أحموقة الغي نازع
وسعد أخو عمرو بن عوف فإنه * ضروح لما حاولت ملأمر مانع
أولاك نجوم لا يغبَّك منهم * عليك بنحسٍ في دجى الليل طالع
قال ابن هشام: فذكر فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولم يذكر رفاعة.
قلت: وذكر سعد بن معاذ وليس من النقباء بالكلية في هذه الليلة.
وروى يعقوب بن سفيان عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن مالك.
قال: كان الأنصار ليلة العقبة سبعون رجلا، وكان نقباؤهم اثني عشر نقيبا، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وحدثني شيخ من الأنصار أن جبرائيل كان يشير إلى رسول الله ﷺ إلى من يجعله نقيبا ليلة العقبة وكان أسيد بن حضير أحد النقباء تلك الليلة، رواه البيهقي.
وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم: أن رسول الله ﷺ قال للنقباء: «أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي - يعني: المسلمين -».
قالوا: نعم!
وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ﷺ قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟
قالوا: نعم!
قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، فإن كنتم ترون أنكم إذا أنهكت أموالكم مصيبة، وأشرافكم قتلا أسلمتموه فمن الآن فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟
قال: «الجنة».
قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه.
قال عاصم ابن عمر بن قتادة: وإنما قال العباس بن عبادة ذلك ليشد العقد في أعناقهم.
وزعم عبد الله بن أبي بكر أنه إنما قال ذلك ليؤخر القوم البيعة تلك الليلة، رجاء أن يحضرها عبد الله بن أبي بن سلول سيد الخزرج ليكون أقوى لأمر القوم، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن إسحاق: فبنو النجار يزعمون أن أبا أمامة، أسعد بن زرارة، كان أول من ضرب على يده.
وبنو عبد الأشهل يقولون: بل أبو الهيثم بن التيهان.
قال ابن إسحاق: وحدثني معبد بن كعب عن أخيه عبد الله عن أبيه كعب بن مالك.
قال: فكان أول من ضرب على يد رسول الله ﷺ البراء بن معرور، ثم بايع بعد القوم.
وقال ابن الأثير في (أسد الغابة): وبنو سلمة يزعمون أن أول من بايعه ليلتئذ كعب بن مالك.
وقد ثبت في (صحيح البخاري ومسلم)من حديث الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن أبيه عن كعب بن مالك في حديثه حين تخلف عن غزوة تبوك.
قال: ولقد شهدت مع رسول الله ﷺ ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرا أكثر في الناس منها.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن بشران أخبرنا أبو عمرو بن السماك حدثنا حنبل بن إسحاق حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي قال: انطلق رسول الله ﷺ مع العباس عمه إلى السبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة، فقال: «ليتكلم متكلمكم ولا يطل الخطبة فإن عليكم من المشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم».
فقال قائلهم - وهو أبو أمامة -: سل يا محمد لربك ما شئت، ثم سل لنفسك بعد ذلك ما شئت.
ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك.
قال: «أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم».
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
قال: «لكم الجنة».
قالوا: فلك ذلك.
ثم رواه حنبل عن الإمام أحمد عن يحيى بن زكريا عن مجالد عن الشعبي عن أبي مسعود الأنصاري فذكره قال: وكان أبو مسعود أصغرهم.
وقال أحمد: عن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فما سمع الشيب والشبان خطبة مثلها.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمد بن محمش أخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل الفحام، أخبرنا محمد بن يحيى الذهلي، أخبرنا عمرو بن عثمان الرقي، حدثنا زهير، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن إسماعيل بن عبيد الله بن رفاعة عن أبيه.
قال: قدَّمت روايا خمر، فأتاها عبادة بن الصامت فخرقها وقال: إنا بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله ﷺ إذا قدم علينا يثرب مما نمنع به أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا ولنا الجنة.
فهذه بيعة رسول الله ﷺ التي بايعناه عليها، وهذا إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.
وقد روى يونس عن ابن إسحاق قال حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده عبادة بن الصامت.
قال: بايعنا رسول الله ﷺ بيعة الحرب على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
قال ابن إسحاق في حديثه عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك.
قال: فلما بايعنا رسول الله ﷺ صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب - والجباجب المنازل - هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.
قال: فقال رسول الله ﷺ: «هذا أزب العقبة، هذا ابن أزبب».
قال ابن هشام: ويقال ابن أزيب.
«أتسمع أي عدو الله؟ أما والله لا تفرغن لك».
ثم قال رسول الله ﷺ «ارفضوا إلى رحالكم».
قال: فقال العباس بن عبادة بن نضلة: يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟
قال: فقال رسول الله ﷺ: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».
قال: فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا فيها حتى أصبحنا، فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش، حتى جاؤنا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا، من أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم.
قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون ما كان من هذا شيء وما عملناه، قال: وصدقوا لم يعلموا، قال: وبعضنا ينظر إلى بعض.
قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي، وعليه نعلان له جديدان، قال: فقلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من سادتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟
قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما إليَّ.
قال: والله لتنتعلنهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت والله الفتى فأردد إليه نعليه.
قال: قلت: والله لا أردهما، فأل والله صالح، لئن صدق الفأل لأسلبنه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنهم أتوا عبد الله بن أبي سلول فقالوا مثل ما ذكر كعب من القول فقال لهم: إن هذا الأمر جسيم ما كان قومي ليتفرقوا عليَّ مثل هذا وما علمته كان.
قال: فانصرفوا عنه.
قال: ونفر الناس من منى فتنطس القوم الخبر فوجدوه قد كان، فخرجوا في طلب القوم فأدركوا سعد بن عبادة بإذاخر والمنذر بن عمرو أخا بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، وكلاهما كان نقيبا.
فأما المنذر فأعجز القوم، وأما سعد بن عبادة فأخذوه فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ويجذبونه بجمته - وكان ذا شعر كثير -.
قال سعد: فوالله إني لفي أيديهم إذ طلع عليَّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء أبيض، شعشاع، حلو من الرجال، فقلت في نفسي: إن يك عند أحد من القوم خير فعند هذا.
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة، فقلت في نفسي: لا والله ما عندهم بعد هذا من خير، فوالله إني لفي أيديهم يسحبونني إذ أوى لي رجل ممن معهم.
قال: ويحك أما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد؟
قال: قلت: بلى والله لقد كنت أجير لجبير بن مطعم تجاره وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي.
وللحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس: فقال: ويحك فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما، قال: ففعلت، وخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد عند الكعبة، فقال لهما: إن رجلا من الخزرج الآن ليضرب بالأبطح ليهتف بكما ويذكر أن بينه وبينكما جوار.
قالا: ومن هو؟
قال: سعد بن عبادة.
قالا: صدق والله، إن كان ليجير لنا تجارنا، ويمنعهم أن يظلموا ببلده، قال: فجاء فخلصا سعدا من أيديهم، فانطلق.
وكان الذي لكم سعدا سهيل بن عمرو.
قال ابن هشام: وكان الذي أوى له أبو البختري بن هشام.
وروى البيهقي بسنده عن عيسى بن أبي عيسى بن جبير قال: سمعت قريش قائلا يقول في الليل على أبي قبيس:
فإن يُسلِمِ السعدان يصبح محمدٌ * بمكة لا يخشى خلاف المخالف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: من السعدان؟ أسعد بن بكر أم سعد بن هذيم؟
فلما كانت الليلة الثانية سمعوا قائلا يقول:
أيا يا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا * ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا * على الله في الفردوس منية عارف
فإن ثوابَ اللهِ للطالبِ الهدى * جنانٌ من الفردوس ذاتُ رفارف
فلما أصبحوا قال أبو سفيان: هو والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.