ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/الباب العشرون
قال أبو محمد علي بن أحمد: حدّ النسخ أنه بيان انتهاء زمان الأمر الأول فيما لا يتكرر، وأما ما علق بوقت ما، فإذا خرج ذلك الوقت، أو أدى ذلك الفعل سقط الأمر به، فليس هذا نسخاً، فلو كان هذا نسخاً، لكانت الصلاة المنسوخة إذا خرج وقتها، والصيام منسوخاً، بالإحراج والحيض والصيام والحج منسوخاً، وهذا ما لا يقوله أحد بالإجماع المقطوع به على ألا يسمى نسخاً، يكفي من الإطالة فيه وبالله تعالى التوفيق، مع من سمى هذا نسخاً، فعليه البرهان على وجوب تسميته نسخاً ولا سبيل إلى وجوبه فهو باطل قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
قال أبو محمد: وقد قال بعض من تقدم: إن النسخ هو تأخير البيان نفسه.
قال أبو محمد: والنسخ على ما فسرناه قبل، نوع من أنواع تأخير البيان، لأن تأخير البيان ينقسم قسمين:
أحدهما: جماعة غير مفهومة المراد بذاتها، مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } إذا جاء وقت تكليف ذلك، بيّن لنا الحكم المراد منا في ذلك اللفظ المجمل بلفظ آخر مفسر.
والقسم الثاني: عمل مأمور به في وقت مّا، وقد سبق في علم الله عز وجل أنه سيحيلنا عنه إلى غيره في وقت آخر، فإذا جاء ذلك الوقت بين لنا تعالى ما كان مستوراً عنا من النقل عن ذلك العمل إلى غيره، وبالجملة فإن اسم البيان يعم جميع أحكام الشريعة كلها، لأنها كلها إعلام من الله تعالى لنا، وبيان المراد منا. فإن قال قائل: ليس النسخ من البيان، لأن البيان يقع في الأخبار، والنسخ لا يقع في الأخبار، قيل له وبالله تعالى التوفيق: إننا لم نقل: إن النسخ هو البيان، وإنما قلنا: هو نوع من أنواع البيان، فكل نسخ بيان، وليس كل بيان نسخاً، فمن البيان ما يقع في الأخبار وفي الأوامر، ومنه ما يقع في الأوامر فقط، فمن هذا النوع الواقع في الأوامر، النسخ هو رفع لأمر متقدم، وقد يكون أيضاً بيان يقع في الأوامر ليس نسخاً، لكنه تفسير لجلة، إلا أنه لا يجوز لأحد أن يحمل شيئاً من البيان على أنه نسخ رافع لأمر متقدم، إلا بنص جليّ في ذلك أو إجماع أو برهان ضروري، على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى في باب كيفية معرفة المنسوخ من المحكم.
ألا ترى أن قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فلسنا نقول: إنه نسخ أهل الكتاب من هذا الحكم، لكنا نقول: إن المراد بقوله تعالى في هذه الآية: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لله ـ إنما هم من عدا أهل الكتاب، وبيّن ذلك تعالى في استثنائه أهل الكتاب في الآية الأخرى. وهكذا قولنا في آية الرضاع، وآية قطع السارق، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } فنقول بلا شك: إن الله تعالى لم يرد بذلك كل رضاعة، ولا كل سارق، ثم نسخ ذلك عن بعضهم: وكذلك قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ }
فإنه تعالى لم يرد بذلك العبيد والإماء، ثم نسخ خمسين عنهم ولا ألف سنة كاملة، ثم استدرك تعالى إسقاط الخمسين عاماً، لكنه تعالى أراد في كل ما ذكرناه ما بقي عندما استثنى عز وجل وخصّ من كل ذلك، وكذلك قولنا في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أنه تعالى لم يرد كل ما يقع عليه اسم نسك أو صدقة، أو صيام، لكن أراد ما بيَّنه النبي في حديث لكعب بن عجرة.
فإن قال قائل: إن البيان يقع موصولاً بعضه ببعض، والنسخ لا يقع موصولاً، فالجواب، وبالله تعالى التوفيق: إننا قد قلنا في هذا ما يقع فيه من أنه ليس كل بيان نسخاً، فما كان من البيان نسخاً لم يقع موصولاً، وما كان منه غير نسخ لكن تفسيراً لمراده تعالى في جملة ما، فجائز أن يقع موصولاً، وجائز أن يقع في مكان آخر من القرآن والسنة، وبالله تعالى التوفيق. والنسخ ينقسم في اللغة إلى قسمين: أحدهما: التعفية، تقول: انتسخت دولة فلان، ونسخت الربح أو القوم، أي عفته جملة، والقسم الثاني: تجديد الشيء وتكثير أمثاله، تقول: نسخت الكتاب نسخاً كثيرة، فالقسم الأول الذي هو التعفية هو الذي قصدناه بالكلام في هذا الباب، ولم نقصد القسم الثاني، وإنما ذكرناه ليوقف عليه وليعلم أنا لا نقصده بالكلام في هذا الباب فيرتفع التخليط والإشكال إن شاء الله تعالى.