ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/الباب الرابع عشر
قال علي: اختلف الناس في أقل الجمع فقالت طائفة: أقل الجمع اثنان فصاعداً، وهو قول جمهور أصحابنا، وقالت طائفة: أقل الجمع ثلاثة، وهو قول الشافعي وبه نأخذ، واحتج أصحابنا لقولهم بأن قالوا: الجمع في اللغة ضمّ شيء إلى شيء آخر، فلما ضمّ الواحد إلى الواحد كان ذلك جمعاً صحيحاً.
قال علي: هذا خطأ ولا حجة فيه، لأنه يلزمهم على ذلك أن يكون الجسم الواحد مخبراً عنه بالخبر عن الجمع واقعاً عليه اسم الجمع لأنه جمع جزء إلى جزء وعضو إلى عضو، وليس المراد باسم الجمع الذي اختلفنا فيه هذا المعنى من معاني الضم، وإنما المقصود به ما عدا الإفراد والتثنية، وليس ذلك إلا ثلاثة أشخاص متغايرة فصاعداً بلا خلاف من أهل اللغة وحفاظ ألفاظها وضباط إعرابها.
واحتجوا أيضاً بأن قالوا: روي عن النبي : «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» .
قال علي: لا حجة لهم فيه، لأنه حديث لم يصح، حدثني أحمد بن عمر بن أنس بن عبد الله بن حسين بن عقال، ثنا إبراهيم بن محمد الدينوري، ثنا محمد بن أحمد بن الجهم، ثنا بشير بن موسى، ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا عليلة بن بدر هو الربيع بن بدر، عن أبيه، عن جده، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وبه إلى ابن الجهم قال: ثنا عبد الكريم بن الهيثم، حدثنا أبو توبة، ثنا مسلمة بن علي، عن يحيى بن الحارث، عن القاسم، عن أبي أمامة أن رسول الله قال: «اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» .
وقال أبو محمد رحمه الله: عليلة ساقط بإجماع، وأبوه مجهول، ومسلمة بن علي ضعيف بلا خلاف، وكذلك القاسم عن أبي أمامة، فسقط الحديثان، وإنما المعتمد عليه في حكم الصلاة قوله عليه السلام لمالك بن الحويرث وابن عمه: «فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» وبإمامته في النافلة ـــــــ ــــــ ابن عباس وحده. واحتجوا أيضاً بأن قالوا: خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الكثير عن أنفسهم ولا فرق، فيقول الاثنان: فعلنا وصنعنا، كما يقول الجماعة سواء بسواء. قال علي: لا حجة لهم في ذلك في إيجابهم بهذا أن يكون الخبر عن الاثنين كالخبر عن الجماعة، لأن ذلك قياس، والقياس فاسد، وأيضاً فإن الخبر عن الاثنين بخلاف الخبر عن الجماعة، فنقول عن الاثنين: فعلا، وعن الجماعة: فعلوا، وأيضاً فإن المرأتين تخبران عن أنفسهما، كما يخبر الرجلان عن أنفسهما، فتقول المرأتان فعلنا وصنعنا، وليس ذلك بموجب أن يخبر عنهما كما يخبر عن الرجلين فيقال: فعلا بمنزلة فعلنا، ولا يجوز في اللغة قياس بإجماع عن أهلها، وإنما هي مسموعة والضمائر مختلفة عن الغائب والحاضر، والمخبر عن نفسه، والتثنية والجمع والمؤنث والمذكر، وقد تتفق الضمائر أيضاً في مواضع، فليس اتفاقها فيها بموجب لاتفاقها في كل موضع، ولا اختلافها في بعض المواضع بموجب اختلافها في كل موضع، بل كل ذلك مأخوذ عن أهل اللغة كما سمعوه عن العرب، وقد يخبر الواحد عن نفسه كما يخبر الاثنان، وكما يخبر الجماعة فيقول: فعلنا وصنعنا ونفعل ونصنع، ونحن نقول وهذا عندنا، وليس ذلك بموجب أن يكون الواحد جمعاً، فبطل احتجاجهم بأن خبر الاثنين عن أنفسهما كخبر الجمع، وهو حجة في كون الاثنين جمعاً.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } وإنما كان لهما قلبان. قال علي: ولا حجة لهم في هذا، لأن هذا باب محفوظ في الجوارح خاصة، وقد نقل النحويون هذا الباب وقالوا: إن كل اثنين من اثنين، فإنه يخبر عنهما كما يخبر عن الجمع، كأن العرب عدت الشيئين المخبر عنهما ثم أضافتهما إلى الشيئين اللذين هما منهما، فصارت أربعة، فصح الجمع، وأنشدوا في ذلك: ومهمهين فدفدين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين وهذا باب لا يتعدى فيه مسموعه من العرب فقط، ولا يجوز أن يقاس عليه، واحتجوا أيضاً بقوله عز وجل: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } . قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الضمير في حكم العربية أن يكون راجعاً إلى أقرب مذكور إليه، وأقرب مذكور إلى الضمير قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فالقوم وداود وسليمان جماعة بلا شك فكأنه تعالى قال: وكنا لحكم القوم في ذلك أي للحكم عليهم، كما تقول هذا حكم أمر كذا، أي الحكم فيه وعليه.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُواْ عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُواْ لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَآءِ الصِّرَاطِ } وبيّن تعالى أنهما اثنان بقوله: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ويقول أحدهما: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } .
قال علي: لا حجة لهم فيه، لأن الخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة وقوعاً مستوياً، وكذلك الزور على الزائر الواحد والاثنين والجماعة، وكذلك الإلْب والحرب، تقول هو إلْب عليَّ وهو حرب عليَّ، وهما حرب عليَّ وإلْب عليَّ، وهم حرب عليَّ وإلْب عليَّ، فلا يسوغ لأحد أن يقول: إن المتسورين على داود كانا اثنين دون أن يقول: بل كانوا جماعة، وقد قال ذلك بعض المفسرين، وقال تعالى: {هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } وإنما نزلت في ستة نفر، عليّ، وحمزة، وعبيد بن الحارث رضي الله عنهم، وفي عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، إذ تبارزوا يوم بدر، وقد أخبر تعالى في آخر الآية بما يبين أنهم جماعة يقول تعالى: {هَـذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ } إلى منتهى قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } .
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن محمد بن عيسى، عن إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عمرو بن زرارة، ثنا هشام، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسماً: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } إنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر: عليّ وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن عتبة، وإذا لم يأت نص بيّن في أن الخصمين المختصمين إلى داود كان إذ تسورا اثنين فقط لا ثالث لهما، فليس لأحد أن يحتج بذلك في إبطال ما قد صح في اللغة ولا في إثبات أمر لم يثبت بعد. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
قال علي: ولا حجة لهم في ذلك، وليس كما ظنوا، بل هذا جمع صحيح، لأن لكل واحد من السارقين يدان، فهي أربع أيد بيقين، وقطع يدي السارق جميعاً واجب يداً بعد يد، إذا سرق سرقة بعد سرقة، بنص القرآن. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
قال علي: وهذا عليهم لا لهم، أنه لا يجوز أن تحط الأم عن الثلث إلى السدس عندنا إلا بثلاثة من الإخوة لا باثنين، وقولنا في ذلك هو قول ابن عباس، وهو في اللغة بحيث لا يجهل محله إلا جاهل، وإنما حكم من حكم برد الأم إلى السدس باثنين من الإخوة، إما بقياس، وإما بتقليد، وكل ذلك فاسد فإن قيل: قد قال بذلك عثمان، قيل له: قد خالفه ابن عباس وأنكر عليه ذلك، وبيّن عليه أن اللغة خلاف ما يحكم به، فلم يقدر عثمان على إنكار ذلك، ولم نرد على أن قال: لا أقدر أن أرد ما قد توارث به الناس.
واحتجوا بقوله تعالى حاكياً عن يعقوب عليه السلام في قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } قالوا: وإنما كان يوسف وأخاه. قال علي: هذا خطأ، بل ما كانوا إلا ثلاثة، يوسف وأخاه الذي حبس من أجل الصواع الذي وجد في رحله، والأخ الكبير الذي قال: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } فلما فقد يعقوب ثلاثة من بنيه تمنى رجوعهم كلهم.
واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } والطائفة تقع على الواحد وعلى الاثنين وعلى الأكثر، فأخبر تعالى عن الطائفتين مرة بلفظ الجمع بقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } ومرة بلفظ الاثنين: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } وقال تعالى في الآية التالية لها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ) فأمر بالإصلاح بين الاثنين كما أمر بالإصلاح بين الجماعة.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لأن الطائفة كما ذكروا تقع على الواحد والاثنين والأكثر، فإذا أخبر عنهما بلفظ الجمع، فالمراد بهما الجمع، والمراد بالطائفتين في أول الآية المذكورة الكثير منهم، ومعنى قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي بين الجماعتين المقتتلتين، ثم علمنا تعالى وجوب الإصلاح بين الاثنين كوجوبه بين الكثيرين بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ) وحمل الآية على ما نقول هو الذي لا يجوز غيره، لأنه عموم لكيفية الإصلاح بين الكثير والقليل ولو كان ما ظن مخالفنا، لما علمنا فيها الإصلاح بين الاثنين فقط وهذا خطأ.
واحتجوا بقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } ولم يقل معكما.
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه، لأنهم ثلاثة بلا شك، المرسلان وفرعون المكلم المرسل إليه، فالمستمعون ثلاثة بيقين. قال علي: فإن قد بطل احتجاجهم بكل ما احتجوا به، فلنقل في بيان صحة مذهبنا، وبالله تعالى التوفيق. فنقول: إن الألفاظ في اللغة إنما هي عبارات عن المعاني، ولا خلاف بين القرب في أن الاثنين لهما صيغة في الإخبار عنهما، غير الصيغة التي للثلاثة فصاعداً، وإن للثلاثة فصاعداً ــــــ إلى ما لا نهاية له من العدد ــــــ صيغة غير صيغة الخبر عن الاثنين، وهي صيغة الجمع، ولا خلاف بين أحد من أهل اللسان في أنه لا يجوز أن يقال قام الزيدون، وأنت تريد اثنين. ولا جاءني الهندات، وأنت تريد اثنتين، وضمير الغائب موضوع بلا خلاف بين أحد من أهل اللسان في موضع اسم الغائب ومبدل منه، فلا يجوز أن يبدل ضمير الجماعة إلا من الجماعة، ولا ضمير الاثنين إلا من الاثنين، ولو كان ذلك لوقع الإشكال وارتفع البيان، وكذلك المخاطبات لا يجوز البتة أن نقول لاثنين: قمتم وقعدتم، وإنما يقال: قمتما وقعدتما: ولا يقال لاثنين: قمتن، ولا يقال للنساء: قمتما، وإنما قال: قمتن، فصح ما قلنا بحكم ظاهر اللغة التي بها نزل القرآن وبها تكلم النبي ؛ وإلى مفهومها نرجع في أحكام الديانة، إلا ما نقلنا عنه نص جلي وبالله تعالى التوفيق، وهذا ما لا يجوز خلافه، والله الموفق للصواب.
فصل من الخطاب الوارد بلفظ الجمع
قال علي: وإذا ورد لفظ بصورة جمع وقدر على استيعابه، فلا بد من استيعابه ضرورة، وإلا فقد صحت المعصية وخلاف الأمر، فإن لم يقدر على ذلك ولم يكن إلى استيعابه سبيل، فللناس قولان: أحدهما، أنه واجب أن يؤدي من ذلك ما أمكن، وما انتهى إليه الوسع، ولا يسقط عنه إلا ما عجز عنه أو ما قام نص أو إجماع بسقوطه، وبهذا نأخذ، وقالت طائفة: لا يلزم من ذلك إلا أقل ما يقع عليه اسم ذلك الجمع، وهو ثلاثة فصاعداً، وما زاد على ذلك فليس فرضاً. قال علي: والحجة للقول الأول هي حجتنا على القائلين بالخصوص أو الوقف، وقد لزم عموم ذلك الجمع بيقين، فلا يسقط بشك ولا بدعوى، فأما ما عجز عنه فساقط، وأما ما لم يعجز عنه فباق على وجوب الطاعة له، ويبين ذلك قول رسول الله : «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
قال علي: فمن ذلك قول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } الآية وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } فنقول إن الإمام القادر على استيعاب جميع مساكين المسلمين وفقرائهم وغازيتهم وسائر الأصناف المسماة، ففرض عليه استيعابهم، وأما من عجز عن ذلك فمن دونه، فقد أجمعت الأمة بلا خلاف على أن له أن يقتصر على بعض دون بعض، ودل على ذلك قوله لزينب امرأة عبد الله بن مسعود إذ سألته أيجزي عني أن أتصدق على زوجي وولدي منه من الصدقة؟ فقال عليه السلام: «نَعم» . قال علي: فبهذه النصوص صرنا إلى هذا الحكم، والاستيعاب والعموم معناهما واحد، وهذا كله من باب استعمال الظاهر، والوجوب، وقد رام قوم أن يفرقوا بين الاستيعاب والعموم، وهذا خطأ ولا يقدرون على ذلك أبداً، وقال هؤلاء القوم: العموم لبعض ما يقع عليه الاسم عموم ذلك الجزء الذي عمّ به. قال علي: فيقال لهم: وكذلك الاستيعاب لبعض ما يقع عليه الاسم استيعاب لذلك الجزء الذي استوعب به ولا فرق.
قال علي: والجمع بلفظ المعرفة والنكرة سواء في اقتضاء الاستيعاب، كقوله تعالى: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } فهذا عموم لكل قوم لا يؤمنون، وهو بلفظ النكرة كما ترى، وقد ظن قوم أن الجمع إذا جاء بلفظ النكرة فإنه لا يوجب العموم، فقالوا: قولك جاء رجال لا يفهم منه العموم، كما يفهم من قولك جاء الرجال.
قال علي: وهذا ظن فاسد لا دليل عليه، وإنما هو ألفه لما وقع في أنفسهم في عادات سواء استعملوها في تخاطبهم، وبخلاف معهود اللغة في الحقيقة، وقد أبطلنا ذلك بالآية التي ذكرنا آنفاً، وبالله تعالى التوفيق.