ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافا
فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً وأن قول من سواه فيمن خالفهم فيه إجماع
قال أبو محمد: ذهب محمد بن جرير الطبري إلى أن خلاف الواحد لا يعد خلافاً، وحكى أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي: أن أبا حازم عبد العزيز بن عبد الحميد القاضي الحنفي فسخ الحكم بتوريث بيت المال ما فضل عن ذوي السهام وقال: إن زيد بن ثابت لا يعد خلافاً على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. قال أبو محمد: فيقال لهم: ما معنى قولكم لا يعد خلافاً؟ أتنفون وجود خلاف؟ فهذا كذب تدفعه المشاهدة والعيان، أم تقولون: إن الله تعالى أمركم ألا تسموه خلافاً؟ أو رسوله أمركم بذلك؟ فهذه شر من الأولى، لأنه كذب على الله تعالى وعلى رسوله أم تقولون : إن قليل ذلك الخلاف من الضعة والسقوط في المسلمين ـــــ إما لفسقه وإما لجهله ــــ بحيث لا يكون وجود قوله إلا كعدمه ففي هذا ما فيه، إذ ينزلون زيد بن ثابت أو ابن عباس أو غيرهما من التابعين الأئمة في هذه المنزلة. ولعمري إن من أنزل عالماً ـــــ من الصحابة رضي الله عنهم أو من التابعين أو من أئمة المسلمين ـــــ هذه المنزلة لأحق بهذه الصفة وأولى بها، ولا يخرج قولكم من إحدى هذه الثلاث قبائح، إذ لا رابع لها.
فإن قالوا: إنما قلنا: إنه خطأ وشذوذ قلنا: قد قدمنا أن كل من خالف أحداً فقد شذّ عنه، وكل قول خالف الحق فهو شاذ عن الحق، فوجب أن كل خطأ فهو شذوذ عن الحق، وكل شذوذ عن الحق فهو خطأ، وليس كل خطأ خلافاً للإجماع، فليس كل شذوذ خلافاً للإجماع، ولا كل حق إجماعاً، وإنما نكلمكم ههنا في قولكم: ليس خلافاً، ولكون ما عداه إجماعاً، فقد ظهر كذب دعواهم وفسادها والحمد لله رب العالمين. قال أبو محمد: ووجدناهم احتجوا برواية لا تصح: «عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ» ووجدنا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني، عن المسيب بن واضح، عن المعتمر بن سليمان، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، عن النبي قال: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ عَلَى ضَلالَةٍ أَبَداً، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ فَإِنَّهُ مَنْ شَذَّ شَذَّ إِلى النَّارِ» . قال أبو محمد: المسيب بن واضح منكر الحديث لا يحتج به، روى المنكرات منها: أنه أسند إلى النبي ، «مَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ فَاقْتُلُوهُ» وهذا لا يعرف ولو صحّ الخبر المذكور لكان معناه من شذ عن الحق، لا يجوز غير ذلك، وبما أنبأناه أحمد بن عمر بن أنس العذري، نا عبد الله بن الحسين، نا عقال، نا إبراهيم بن محمد الدينوري، نا محمد بن أحمد بن الجهم، نا أبو قلابة، نا وهب بن جرير بن حازم قال: سمعت عبد الملك بن عمير يحدث عن جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قام فينا رسول الله كقيامي فيكم فقال: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْتَزم الجَمَاعَةَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» .
نا عبد الله بن ربيع، نا محمد بن معاوية، نا أحمد بن شعيب، أخبرني إبراهيم بن الحسن، نا حجاج بن محمد، نا يوسف بن أبي إسحاق، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن الزبير قال: قام عمر بن الخطاب أمير المؤمنين على باب الجابية فقال: إن رسول الله قام فينا كقيامي فيكم فقال: «يا أيها الناس أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى إن الرجل ليحلف قبل أن يستحلف، ويشهد قبل أن يستشهد، فمن سره أن ينال بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة فإن يد الله فوق الجماعة، ولا يخْلوَنَّ رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما، ألا إن الشيطان مع واحد، وهو من الاثنين أبعد، من سائته سيئته وسرته حسنته فهو المؤمن» . وبه إلى أحمد بن شعيب، نا الربع بن سليمان، نا إسحاق بن بكر، عن يزيد بن عبد الله ، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر. قال: إن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قام فقال: رسول الله قام فينا كقيامي فيكم. فقال: «أَكْرِمُوا أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَظْهَرُ الكَذِبُ فَيَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدُ وَلا يُسْتَشْهدُ فَمَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» . وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم ـــــ وهو ابن راهويه ـــــ نا جرير ـــــ هو ابن عبد الحميد ــــــ عن عبد الملك بن مالك بن عمر، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية، فقال: رسول الله قام في مثل مقامي هذا، فقال: «أَحْسِنُوا إِلى أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَظْهَر الكَذِبُ فَيَحْلِفُ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدُ وَلا يُسْتَشْهَدُ فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» . وبه إلى أحمد بن شعيب، نا إسحاق بن إبراهيم ـــــ هو ابن راهويه ـــــ نا جرير ـــــ هو ابن عبد الحميد ــــ عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة قال: خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية فقال: إن رسول الله قام في مثل مقامي هذا فقال: «أَحْسِنُوا إِلى أَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الكَذِبُ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لِيَحْلف عَلَى اليَمِينِ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْلَفَ وَيَشْهَدُ عَلَى الشهَادَة قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بُحْبُوحَةَ الجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الجَمَاعَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الوَاحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ، لا يَخْلو رَجُلٌ بِامْرأَةٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطانُ أَلا مَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُوءُهُ سَيِّئَتَهُ وَتَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ» .
قال أبو محمد: هذا الخبر لم يخرجه أحد ممن اشترط الصحيح، ولكنا نتكلم فيه على علاته، فنقول وبالله تعالى نتأيد: إنه إن صح فإن ما ذكر فيه من الجماعة إنما هي بلا شك جماعة الحق. ولو لم يكونوا إلا ثلاثة من الناس، وقد أسلمت خديجة رضي الله عنها أم المؤمنين وسائر الناس كفار، فكانت على الحق وسائر أهل الأرض على ضلال. ثم أسلم زيد بن حارثة وأبو بكر رضي الله عنهم، فكانوا بلا شك هم الجماعة، وجميع أهل الأرض على الباطل. وقد نُبْىء رسول الله وحده، فكان على الحق واحداً، وجميع أهل الأرض على الباطل والضلال، وقد صح عن النبي أن زيد بن عمر بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده. قال أبو محمد: وذلك لأن زيداً آمن بالله تعالى وحده، وجميع أهل الأرض على ضلالة. وقد صح عن رسول الله أنه قال: «إِنَّ هذَا الدِّينِ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قيل: ومن هم يا رسول الله قال: «النِّزَاعُ مِنَ القَبَائِلِ» وقال : «النَّاسُ كَإِبلٍ مِائَةٍ لا تَجِدُ فِيها رَاحِلَةً» وقال : «إِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومَ إِلاَّ عَلَى مَنْ لا خَيْرَ فِيهِمْ» نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، نا محمد بن عباد وابن أبي عمر كلاهما، عن مروان بن معاوية الفزاري، عن يزيد بن كيسان، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : «بَدَأَ الإسلامُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» .
وبه إلى مسلم، نا الفضل بن سهل، نا شبابة به سوار، نا عاصم ـــــ هو ابن محمد العمري ـــــ عن أبيه عن ابن عمر عن النبي قال: «إِنَّ الإسْلامَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ» نا أحمد بن محمد بن الجسور، نا محمد بن أبي دليم، أخبرنا ابن وضاح، أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، نا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود: قال: رسول الله : «إِنَّ الإسلامَ بَدَأَ غَرِيباً وسَيَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَباءِ» قيل ومن الغرباء؟ قال: «النِّزَاعُ مِنَ القَبَائِلِ» . ويالسند المتقدم إلى مسلم، نا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أنس بن مالك، عن النبي قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ لا إله إِلاَّ الله» .
وقال الله عز وجل ــــ وذكر أهل الحق ـــــ فقال: {إلا الّذين آمنوا و عملوا الصالحات } وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } في سورة يوسف وقال تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقال تعالى: {وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } وكلام الله تعالى حق وكلام رسوله حق، والحق لا يتعارض. وهذه النصوص التي أوردناها هي قرآن منزل، أو أثر في غاية الصحة منقول نقل التواتر، وكلاهما في غاية البيان، فالأقل في الدين هم أهل الحق، وأن أكثر الناس على ضلال وعلى جهل، وأن الواحد قد يكون هو المصيب، وجميع الناس هم على باطل، لا تحتمل هذه النصوص شيئاً غير هذا البتة، فلو صحت تلك الآثار التي قدمنا، لوجب ضرورة أنها ليست في الدين، لكن في شيء آخر، وبالضرورة تدري أنها ليست على عمومها، لأن انفراد الرجل وحده في بيته غير منكر: وقد قال رسول الله «يَرْحَمُ الله أَبَا ذَرَ يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» .
وبرهان كاف قاطع لكل من له أقل فهم في أنه لم يرد قط بالجماعة المذكورة كثرة العدد، لا يشك في ذلك، لأن النصارى جماعة واليهود جماعة، والمجوس وعباد النار جماعة، أفترونه أراد هذه الجماعات؟ حاشا لله من هذا، فإن قالوا: إنما أراد جميع المسلمين، قلنا: فإن المنتمين إلى الإسلام فرق، فالخوارج جماعة، والروافض جماعة، والمرجئة جماعة، والمعتزلة جماعة، أفترونه عليه السلام أراد شيئاً من هذه الجماعات؟ حاشا له من ذلك. فإن قالوا: إنما أراد أهل السنة، قلنا: أهل السنة فرق، فالحنفية جماعة، والمالكية جماعة، والشافعية جماعة، وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة فأي هذه الجماعات أراد ؟ وليس بعضها أولى بصحة الدعوى من بعض، فصح يقيناً قطعاً كما أن الشمس طالعة من مشرقها أنه عليه السلام لم يرد قط إلا جماعة أهل الحق، وهم المتبعون للقرآن، ولما صحّ عن النبي من بيانه للقرآن بقوله وفعله.
وهذه هي طريق جميع الصحابة رضي الله عنهم، وخيار التابعين من بعدهم، حتى حدث التقليد المهلك، فإذاً لا شك في كل هذا، وقد بيّنا أن أمره عليه السلام بلزوم الجماعة، إنما أراد يقيناً أهل الحق، وإن كانوا أقل من أهل الباطل بلا شك، لم يرد كثرة العدد قط. فلنتكلم بعون الله تعالى وقوته على ما في تلك الآثار، من أن الشيطان مع الفذ أو الواحد، وهو من الاثنين أبعد. وقد أوضحنا بما لا إشكال فيه، أنه عليه السلام لم يرد بذلك الدين، بما لو أوردنا آنفاً من النصوص، وببرهان آخر، وهو قوله: «وَهُوَ مِنَ الاثْنَيْنِ أَبْعَدُ» فلو أراد الدين، لكان المنفرد بقوله مصاحباً للشيطان، فإن استضاف إليه آخر بعد عنه الشيطان، فعاد الباطل حقّاً بدخول إنسان فيه، وهذا باطل متيقن ليست هذه صفة الدين؛ بل الباطل باطل، وإن دخل فيه آلاف فصح بلا شك أنه لم يرد الدين، ولا عموم التوحيد بكل حال فقد صح أنه إنما عنى خاصّاً من الأحوال بلا شك. فإذا ذلك كذلك فلا يجوز أن ينسب إلى النبي أنه أراد حال كذلك إلا بنص صحيح عنه بذلك، وإن الناسب إليه ما لم يقل كاذب عليه، وقد أخبر عليه السلام، أنه من كذب عليه فليتبوأ مقعده من النار. فإذا كان الأمر كما قلنا يقيناً، فقد صح عن النبي النهي أن يسافر المرء وحده، وفي تلك الأخبار أنفسها، لا ينفرد رجل مع امرأة فإن الشيطان ثالثهما، فنحن على يقين من أنه ههنا نهي عن الوحدة، وأن الشيطان ههنا مع الواحد، فإن كان اثنين فقد خرج عن النهي، وبعد الشيطان عنهما، فبطل التعلق بتلك الآثار فيما ذهب إليه من ذهب، وأن خلاف الواحد لا يعد خلافاً.
واعلموا أنه لا يمكن البتة، للحنفيين ولا المالكيين ولا الشافعيين، أن يحتجوا بشيء من ذلك الأثر، لأن خلاف الواحد عندهم خلاف إلا من شذّ منهم من مذاهب أصحابه، وقد قلنا إننا أخرجنا لكل واحد من أبي بكر ومالك والشافعي مئين من المسائل انفرد كل واحد منهم بقوله فيها، عن أن يعرف أحد قبله قاله بذلك القول.
وبرهان ضروري أيضاً، هو أنه قد بيّنا أن له لو صح ذلك القول عن النبي لعلمنا أنه لم يرد بذلك الدين أصلاً، لأن اليهود والنصارى والمجوس والملحدين ثم الرافضة والمعتزلة والمرجئة والخوارج، جماعات عظيمة، فالشيطان بعيد عنهم ومجانب لهم، لأنهم أكثر من واحد، يأبى الله تعالى هذا، وتالله ما عش الشيطان ولا بحبوحته إلا فيهم، وبلا شك أن أهل الباطل كلما كثروا فإن الشيطان أقوى فيهم منه مع المنفرد. نا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عبد البصير، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا مؤمل بن إسماعيل البصري، نا سفيان الثوري، عن عبد الملك بن أبجر، عن طلحة بن مصرف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: ربع السودان من لا يلبس الثياب، أكثر من جميع الناس. فصح بكل هذا ـــــ يقيناً لا مجال للشك فيه ـــــ أنه لا يرد قط بذلك الدين، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن النبي أثنى في تلك الأخبار على أصحابه، وعلى قرن التابعين، ثم على القرن الثالث. فإذا أثنى عليهم فهم الجماعة التي لا ينبغي أن تخالف، وكل من خالفهم فهو أهل الباطل، ولو كانوا أهل الأرض تلك القرون الثلاثة هي التي لم تقلد أحداً، وإنما كانوا يطلبون القرآن والسنن فنحن معهم، والحمد لله رب العالمين. وكل من قلد إنساناً بعينه؛ فقد خالف الجماعة، والحمد لله رب العالمين. قال أبو محمد: وقد شغب بعضهم بأن قال لما أجمع نظراء هذا الواحد، وعلمنا أنهم مؤمنون يقيناً بالجملة، وأنهم من الأمة بلا شك؛ ولم نقطع هذا الواحد المخالف لهم بأنه من الأمة، وكان واجباً علينا اتباع من نوقن أنهم من الأمة دون من لا نوقن أنه منها. قال أبو محمد: وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى أمرنا عند التنازع بالرد إلى القرآن والسنة بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ومخالفة الواحد تنازع في المشاهدة والعيان، ولم يقل تعالى فردوه إلى الأكثر، ولا إلى من لم يخالفهم إلا واحد فصار من ردّ إلى غير القرآن والسنة، عاصياً لله عز وجل، مخالفاً لأمره.
وقد حصل لذلك الواحد من ظاهر الإسلام في الحكم، كالذي لكل واحد من مخالفيه ولا فرق. قال أبو محمد: واحتجوا أيضاً بما رويناه من طريق ابن وهب، أخبرني أبو فهد قال رسول الله : «لِيَتَّبِعِ الأَقلُّونَ العُلَمَاءَ الأَكْثَرِينَ» . قال أبو محمد: وهذا مرسل لا خير فيه، وباطل بلا شك، أول ذلك أنه محال، وهو عليه السلام لا يأمر بالمحال، لأنه لا يمكن أن يتبع الأقل والأكثر إلا بعد إمكان عدّ جميعهم، وقد بيَّنا أن عدّ جميعهم لا يمكن البتة بوجه من الوجوه، ولا يقدر عليه إلا الخالق وحده لا شريك له. ووجه آخر، وهو أن الصحابة رضوان الله عنهم، قد أصفقوا أثر موت النبي على ألا يقاتل أهل الردة، ولا ينفذ بعث أسامة بن زيد، وخالفهم أبو بكر وحده، فكان هو المحق وكانوا على الخطأ، فإن قالوا: قد رجعوا إلى قوله قلنا: نعم، وهذه حجتنا، وإنما سألناكم عن الحال قبل أن يرجعوا إلى قول أبي بكر في ذلك.
وقد شغب بعضهم بما روي من أن الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب. قلنا: إنما هذا في نص الخبر نفسه في السفر فقط، وإلا فالمصلي النافلة وحده على قولهم شيطان، ومصلي الفريضة مع آخر شيطانان، وفي هذا ما فيه، نعوذ بالله العظيم من البلاء. ثم نسألكم: هل ذلك الواحد عندكم مخالف للإجماع أم لا؟ فإن قالوا: نعم، قلنا لهم: ومخالف الإجماع عندكم كافر، فمن قولهم: نعم، قلنا لهم، فعلى هذا فابن عباس كافر، وزيد بن ثابت عندكم كافر، إذ أقررتم أنهما خالفا الإجماع، وبالله إن نسب ذلك إليهما فهو والله أحق منهما، بل هما المؤمنان الفاضلان رضي الله عنهما، وإن أبوا من تكفير من خالف هذا النوع من الإجماع تناقضوا وظهر فساد قولهم، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: أخبرنا عبد الرحمن بن خالد الهمداني، نا إبراهيم بن أحمد البلخي، حدثنا الفريرى، نا البخاري، نا عبد العزيز بن عبد الله، نا مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولو آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثاً، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } إلى قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق، وإن إخواننا من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون ويحفظ ما لا يحفظون. قال أبو محمد: ففي هذا أن الواحد قد يكون عنده من السنن ما ليس عند الجماعة، وإذا كان عنده من السنة ما ليس عند غيره، فهو المصيب في فتياه بهذا دون غيره. قال أبو محمد: وبالعيان ندري أن المسلمين أقل من غيرهم: قال رسول الله : «ما أَنْتُمْ في الأُمَمِ قَبْلَكُمْ إِلاَّ كَالشَّعْرَةِ البَيْضَاءِ في الثوْرِ الأَسْوَدِ» ، وذكر عليه السلام الصلاة والسلام أن بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين وواحد إلى الجنة، ثم بالمشاهدة ندري أن الصالحين والعلماء أقل من الطالحين والجهَّال، وأن هذين الصنفين هم الأكثر، والجمهور، وبالمشاهدة ندري أن الزكي من العلماء هم أقل منهم بخلاف قول المخالف، وقد ذكر في باب إبطال التقليد قول ابن مسعود: لا يقول أحدكم أنا مع الناس.
وذكرنا قبل هذا قول حذيفة: كيف أنت إذا سلك القرآن طريقاً، وسلك الناس طريقاً آخر؟ وبيَّنا قبل وبعد أن العرض إنما هو اتباع القرآن وما حكم به رسول الله فإنه لا معنى لقول أحد دون ذلك، كثر القائلون به أو قلوا، وهذا باب ينبغي أن يُتَّقى فقد عظم الضلال به، وكثر الهالكون فيه، ونعوذ بالله العظيم من البلاء. قال أبو محمد: وكلامنا هذا كله تطوع منا، وإلا فلو اكتفينا من كل ذلك بما نذكره الآن إن شاء الله تعالى، وهو أن نقول لهم: إن كل من ادعى في أي قولة كانت لا نحاشي قولة من الأقوال ـــــ أن العلماء كلهم أجمعوا عليها إلا واحداً خالفهم فقط أو إلا اثنين، أو إلا ثلاثة، أو أي عدد ذكروا، فإنه كذاب مفتر آفك قليل الحياء، لأنه لا سبيل بوجه من الوجوه إلى معرفة ذلك يقيناً ولا إلى القطع به أصلاً، لما قدمنا من تعذر إحصاء عدد المفتين من المسلمين، فوضح أن هذه مسألة فارغة، ولا حجة للاشتغال بها، أو كثرة من ضلّ بها.