ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/الباب الثامن عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال علي: اختلف الناس في المجاز، فقوم أجازوه في القرآن والسنة، وقوم منعوا منه، والذي نقول به، وبالله تعالى التوفيق: أن الاسم إذا تيقَّنا بدليل نص أو إجماع أو طبيعة أنه منقول عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر وجب الوقوف عنده، فإن الله تعالى هو الذي علَّم آدم الأسماء كلها، وله تعالى أن يسمي ما شاء بما شاء. وأما ما دمنا لا نجد دليلاً على نقل الاسم عن موضوعه في اللغة فلا يحل لمسلم أن يقول: إنه منقول، لأن الله تعالى قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فكل خطاب خاطبنا الله تعالى به أو رسوله فهو على موضوعه في اللغة ومعهوده فيها، إلا بنص أو إجماع أو ضرورة حس، نشهد بأن الاسم قد نقله الله تعالى أو رسوله عن موضوعه إلى معنى آخر، فإن وجد ذلك أخذناه على ما نقل إليه. قال علي: وهذا الذي لا يجوز غيره، ومن ضبط هذا الفضل وجعله نصب عينيه ولم ينسه، عظمت منفعته به جدّاً، وسلم من عظائم وقع فيها كثير من الناس. قال علي: فكل كلمة نقلها تعالى عن موضوعها في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان تعالى تعبدنا بها قولاً وعملاً كالصلاة والزكاة والحج والصيام والربا وغير ذلك فليس شيء من هذا مجازاً، بل هي تسمية صحيحة واسم حقيقي لازم مرتب من حيث وضعه الله تعالى، وأما ما نقله الله تعالى عن موضوعه في اللغة إلى معنى تعبدنا بالعمل به دون أن يسميه بذلك الاسم، فهذا هو المجاز، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فإنما تعبدنا تعالى بأن نذل للأبوين ونرحمهما، ولم يلزمنا تعالى قط أن ننطق، ولا بد فيما بيننا بأن للذل جناحاً، وهذا لا خلاف فيه، وليس كذلك الصلاة والزكاة والصيام، لأنه لا خلاف في أن فرضاً علينا أن ندعو إلى هذه الأعمال بهذه الأسماء بأعيانها ولا بد، وبالله تعالى التوفيق. واحتج من منع من المجاز بأن قال: إن المجاز كذب، والله تعالى ورسوله يبعدان عن الكذب. قال علي: فيقال له صدقت وليس نقل الله تعالى الاسم عما كان علقه عليه في موضع ما إلى موضع آخر كذباً، بل هو الحق بعينه، لأن الحق هو ما فعله تعالى والباطل هو ما لم يأمر به أو لم يفعله، ومن ظن أن هنا حقّاً هو عيار على الله تعالى، وزمام على أفعاله يلزمه عز وجل أن يجري أفعاله عليه فقد كفر، وقد تكلمنا في هذا في «باب إثبات حجج العقول» ، ونستوعب الكلام فيه إن شاء الله تعالى في «باب إبطال العلل» من كتابنا هذا، وقد تكلمنا على ذلك أيضاً في كتابينا الموسومين بالتقريب والفصل كلاماً كافياً، وبالله تعالى التوفيق.

وليست الأسماء موضوعة على المسميات، إلا إما بتوقيف وإما باصطلاح، ولا موقف إلا الله عز وجل، فإذا أوقع الموقف الأول ـــــ جل وعز ـــــ اسماً ما على مسمًّى ما في مدَّة ما، أو في معنى ما، ثم نقل ذلك الاسم إلى معنى آخر، في مكان آخر، فلا كذب في ذلك، ولا للكذب ههنا مدخل، وإنما يكون كاذباً من نقل منا اسماً عن موضوعه في اللغة إلى معنى آخر يلبس به بلا برهان، فهذا هو الكاذب الآفك الأثيم، وكذلك لو اصطلح اثنان على أن يسميا شيئاً ما اسماً ما ــــــ مخترع من عندهما أو منقول عن شيء آخر ـــــ يتفاهما به لا ليلبسا به فلا كذب في ذلك، فإذا جاز هذا فيما بيننا فهو للذي يلزم للجميع أن يعبدوه ويطيعوه ما أمكن، وهو بذلك تعالى أولى. والتلبيس في هذا هو من قال: العسل حلال، والمسكر من مصراة عسل فهو حلال، فهذا كاذب، فإنه أتى إلى عين سمَّاها الله عز وجل خمراً ـــــ والخمر حرام ـــــ فسماها بغير اسمها ليستحلها بذلك، وقد أنذر بذلك رسول الله . حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي، عن محمد بن إسحاق القاضي، عن ابن الأعرابي، عن سليمان بن أشعث، عن أحمد بن حنبل، ثنا زيد بن الحباب، ثنا معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن مالك بن أبي مريم، ثنا عبد الرحمن بن غَنْم قال: أنبأ أبو مالك الأشعري قال: سمعت رسول الله يقول: «لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الخَمْرَ يُسَمُّونَها بِغَيْرِ اسْمِها» ، ثنا عبد الله بن ربيع، عن محمد بن معاوية المرواني، عن أحمد بن شعيب ثنا محمد بن عبد الأعلى، ثنا خالد ــــ هو ابن الحارث ـــــ عن شعبة، سمعت أبا بكر بن حفص يقول: سمعت ابن محيريز يحدث عن رجل من أصحاب النبي عن النبي بمثله. قال علي: فقد بيَّنا وجه الحقيقة في هذا، ثم نذكر إن شاء الله تعالى طرفاً من الآي التي تنازعوا فيها، فإن الشيء إذا مثّل سهل فهمه.

فمن ذلك قوله عز وجل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فقال قوم: معناه واسأل أهل القرية، واسأل أهل العير، وقال آخرون: يعقوب نبي فلو سأل العير أنفسها والقرية نفسها لأجابته. قال علي: وكلا الأمرين ممكن، ومنه قوله تعالى: {فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } فقد علمنا بضرورة العقل أن الجدار لا ضمير له، والإرادة لا تكون إلا بضمير الحي ــــ هذه هي الإرادة المعهودة التي لا يقع اسم إرادة في اللغة على سواها ـــــ فلما وجدنا الله تعالى، وقد أوقع هذه الصفة على الجدار الذي ليس فيه ما يوجب هذه التسمية، علمنا يقيناً أن الله عز وجل قد نقل اسم الإرادة في هذا المكان إلى ميلان الحائط، فسمى الميل إرادة، وقد قدمنا أن الله تعالى يسمي ما شاء بما شاء، إلا أن ذلك لا يوجب نقل الحقائق التي رتب تعالى في عالمه عن مراتبها، ولا نقل ذلك الاسم في غير المكان الذي نقله فيه الخالق عز وجل، ولولا الضرورة التي ذكرنا ما استجزنا أن نحكم على اسم بأنه منقول عن مسماه أصلاً، وقد أنشد أبو بكر محمد بن يحيى الصولي في نقل اسم الإرادة عن موضوعها في اللغة إلى غيره قول الراعي: قلق الفُؤوس إذا أردن نضولا

وذكر أبو بكر الصولي رحمه الله أن ابن فراس الكاتب، وكان دهرياً سأله في هذه الآية، فأجاب أبو بكر بهذا البيت، وقد قال قوم: إنه تعالى قادر على أن يحدث في الجدار إرادة، وبلى هو قادر على ما يشاء، وكل ما يتشكل في الفكر، ولكن كل ما لم يأتنا نص أنه خرق تعالى فيه ما قد تمت به كلماته من المعهودات، فهو مكذب، كما أن لكل مدع ما لم يأت بدليل فهو مبطل، وكذلك قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يبُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ } فإنه تعالى سمى حركة السفينة جرياً، وحركة السفينة اضطرارية، وهذا مما قلنا من أنه تعالى يسمي ما شاء بما شاء، فهو خالق الأسماء والمسميات كلها، حاشاه لا إله إلا هو وأما قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } فإنما عنى تعالى حب العجل، على ما ذكرنا من الحذف الذي أقيم لفظ غيره مقامه، وأما قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وهو عندنا حقيقة وإنطاق لها. وقد احتج علينا قوم بقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } .

قال علي: وهذا أيضاً عندنا على الحقيقة، وأن الله تعالى وضع فيها التمييز إذ خيرها، فلما أبت حمل الشرائع وأشفقت من تحمل الأمانة سلبها إياه، وسقطت الكلف عنها، وممكن أن يكون على نقل اللفظ أيضاً، والمراد بذلك أنها لم يحملها إذا لم يركب تعالى فيها قوة الفهم والعقل، ولا النفس المختارة المميزة. وهذا موجود في كلام العرب وأشعارها، فإن العرب تقول إذا أرادت أن تمدح: أبى ذلك سؤددك، وإذا أرادت الذم: أبى ذلك لؤمك، أي إن سؤددك غير قابل لهذه الفعلة لمضادتها له، وكذلك في الذم أي إن لؤمك غير قابل لهذه المكرمة لمضادتها له، فعلى هذا كانت إباية السموات والأرض لا على ما سواه إلا أن الأول أصح وبه نقول. وإنما فرقنا بين هذا في هذا الوجه، وبين ما قلنا آنفاً في إنطاق جهنم، لأن كلام الله عز وجل كله عندنا بيان لنا، وجار على معهود ما أوجبه فهمنا بإدراك عقولنا وحواسنا، وإنما قلنا ذلك لقول الله عز وجل: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وحضّنا تعالى على التفكير والتدبر للقرآن، وأخبرنا بأنه بيان لنا، وكل ذلك يكون إلا بما تميزه عقولنا، لا بما يضادها، فلما صح ذلك كله، وأدانا التدبير والبصر والسمع والعقل إلى أن السموات جمادات لا تعقل، وأن الأرض كذلك، وأن حد النطق هو التمييز للأشياء، وأن التمييز لا يكون إلا في حي، وأن الحي هو الحساس المتحرك بإرادة، وأن المميز هو بعض الحي لا كله، وأن حد التمييز هو إمكان معرفة الأشياء على ما هي عليه، وإمكان التصرف في الصناعات والأعمال المختلفة بإرادة، وأيقنا أن كل هذه الصفات ليست الأرض، ولا الأفلاك، ولا الجبال له حاملة، علمنا أن هذه اللفظة، التي أخبرنا بها تعالى عن هذه التي ليست أحياء، لفظة منقولة عن معهودها عندنا إلى معان أخر من صفات هذه الأشياء المخبر عنها، الموجودة فيها على الحقيقة، ومن تعدى هذه الطريقة فقد لبس الأشياء، ورام إطفاء نور الله تعالى الموضوع فينا.

وبالجملة فمن أراد إخراج الأمور عن حقائقها في المبادىء، ثم عن حقائقها في المعاهد فينبغي أن يتهم في دينه، وسوء أغراضه، فإن سلم من ذلك فلا بد من وصمة في عقله، أو قوة في جهله، إلا أن هذا كله لا يعترض على الوجه الأول، لأن الإنطاق الذي كان وضعه الله تعالى فيها حينئذ قد سلبها إياه، إذ أبت قبول الأمانة، وإنما يعترض بهذا كله على من يقول: إنها باقية على نطقها إلى اليوم، فهذا باطل لا شك فيه بما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق.

وقد ذكر رجل من المالكيين ــــ يلقب خويز منداذ: أن للحجارة عقلاً، ولعل تمييزه يقرب من تمييزها، وقد شبه الله قوماً زاغوا عن الحق بالأنعام وصدق تعالى، إذ قضى أنهم أضل سبيلاً منها، فإن الأنعام لا تعدوا ما رتبها ربها لها من طلب الغذاء، وإرادة بقاء النوع، وكراهة فسادها بعد كونها، وهؤلاء رتبهم خالقهم عز وجل ليعرفوا قدرته، وإنها بخلاف قدرة من خلق، وليعرفوا رتبة ما خلق على ما هي عليه، فبعدوا ذلك، فمن مشبه قدرة ربه تعالى حكم عقله فيصرفه به، تعالى الله عما يقول أهل الظلم علوّاً كبيراً. ومن مفسد رتب المخلوقات، وساع في إبطال حدودها، وإفساد الاستدلال بها على التوحيد: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة فيحكم بيننا فيما فيه نختلف، وتالله لتطولن ندامة من لم يجعل حظه من الدين والعلم إلا نصر قول فلان بعينه، ولا يبالي ما أفسد من الحقائق في تلك السبيل العضلة، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان، فقال هذا الجاهل: إن من الدليل على أن الحجارة تعقل قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } قال: فقد أخبر تعالى أن منها ما يهبط من خشية الله، فدل ذلك على أن لها عقلاً، أو كلاماً هذا معناه.

قال علي: ونحن نقول: إن من العجب العجيب استدلال هذا الرجل بعقله على أنه لا يخشى الله تعالى إلا ذو عقل، فهلا استدل بذلك العقل نفسه على ما شاهد بحسه من أن الحجارة لا عقل لها، وكيف يكون لها تمييز وعقل، والله تعالى قد شبّه قلوب الكفار التي لم تنقد إلى معرفته عز وجل بالحجارة في أنها لا تذعن للحق الوارد عليها، فكذب الله تعالى في نفيه المعرفة عن الحجارة نصاً، إذ جعلها تعالى بمنزلة قلوب الكفار في عنود تلك القلوب عن الطاعة له عز وجل، فكيف يكون للحجارة عقل أو تمييز بعد هذا. فإن قال قائل: فما وجه إضافة الخشية إلى الحجارة؟ قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قد قدمنا أن الله تعالى رتب الأسماء على المسميات، وجعل ذلك سبباً للتفاهم، ولولا ذلك ما كان تفاهم أبداً، ولا فهمنا عنه تعالى شريعة، ولا علمنا مراده عز وجل في أمر ولا نهي، ولا في خبر أخبرنا به، وعرفنا تعالى بذلك التمييز الذي وضع فينا من صفات المخلوقات ما قد عرفناه، وجعل لتلك الصفات أسماء نعبر بها عنها ونفاهم بها الأخبار عنها. فكان مما رتب لنا من ذلك في اللغة العربية، إن سمينا تمييزاً حال من رأيناه يفهم ويتكلم ويسأل عن وجوه الأشياء المشكلة، فيجاب فيفهم، ويسأل عما علم منها فيجب ويحدث بما رأى وشاهد وسمع، ويؤمر بالكلام وينهى عن ضروب مختلفة من الأفاعيل، فيفهم ما يزاد منه كل ذلك. وكان مما رتب لنا أيضاً عز وجل أن لم تكن فيه هذه الصفات سميناه غير مميز، فإن كان من الحيوان مما سوى الملائكة والجن والإنس سميناه حياً غير مميز، وإن كان من غير الحيوان سميناه جماداً غير حي، إن كان من الشجر أو الحجارة أو الأرض أو الماء أو النار أو الهواء أو غير ذلك. وأقرّ تعالى هذه الرتب في أنفسنا ــــــ بما وضع فيها من التمييز ـــــ إقراراً صار من أنكر شيئاً منه ربما آل به إلى أن نسقط عنه الحدود، ولا يقتص منه إن قتل. وتسقط عنه الشرائع، ويصير في محل من لا يخاطب لعدم عقله وتمييزه، فإن زاد ذلك، لم يؤمن عليه أن يغل ويداوي دماغه الذي هو منبعث الحس والحركة، بأنواع كريهة من العلاج.

فلما أيقنا أن تلك الصفات ـــــ المسماة برتبة الله تعالى تمييزاً ــــ ليست في الحجارة وجب ضرورة أن تسمى مميزة. وأيضاً فقد قال تعالى مصدقاً لإبراهيم خليله عليه السلام في قوله: {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ يأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } وإنما كان يعبد الحجارة. فصح بالنص أنها لا تفهم ولا تعقل. فلما رأيناه تعالى قد أوقع عليها خشية له، علمنا أن هذه اللفظة هنالك منقولة عن موضعها عندنا إلى صفة أخرى من صفات الحجارة، وهي تصريفه لها تعالى كيف شاء، لا تخرج تلك الخشية عن هذه الجملة التي فسرنا البتة. فهذا وجه إضافة الخشية إلى الحجارة، إذ الخشية المعهودة عندنا هي الخوف من وعيد الله عز وجل، والائتمار لأمره تعالى، والحجارة خالية بيقين من كل ذلك، وكيف يخشى من لم يؤمر ولا ينهى ولا كلف ولا وعد أم أي شيء يخشى غير العقاب ولا عقاب إلا على عاصٍ، ولا عاصي إلا مأمور والحجارة ليست بمأمورة، فليست عاصية فلا عقاب عليها ولا خشية عليها نعني الخشية المعهودة فيما بيننا ولا مميز إلا حي، والحجارة ليست حية فليست مميزة.

ومما ذكرنا من نقل بعض الأسماء إلى غير معهودها قول رسول اللـه في الفرس: «إِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً» فأوقع عليه السلام لفظة بحر على الفرس الجواد، وكذلك لما قال رسول اللـه : «ارْفقْ بِالقَوَارِيرِ» يعني ــــــ النساء ــــــ كان ذلك نقلاً لاسم القوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى النساء، وكذلك قولـه تعالى: {قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } هو نقل أيضاً للقوارير عن موضوعه في اللغة عن الزجاج إلى الفضة، إلا أنه لا يحل لمسلم أن يقول في لفظه لم يأت نص ولا ضرورة حس بأنها منقولة عن موضوعها إنها منقولة ولا يتعدى بكل ذلك ما جاء في نص أو ضرورة حس، ولا يصرف لفظ عن موضوعه إلا بأحد هذين الوجهين، وإلا فهي باقية في مرتبتها في اللغة، وليس لأحد أن يصرف عنه وجهه إذ لم يصرفه اللـه تعالى ولا رسولـه وإن العجب ليكثر ممن يقول إن الشحم يسمى «ندى» فإذا سئل من أين قلت ذلك؟ أنشد قول أعرابي جلف: كثوب العَدابِ الفرد يضربه الندى تعلَّى الندى في متنه وتحدرا فيكون ذلك قاطعاً لخصمه، يستشهد أن الجواري يسمين القوارير وأن الفرس الجواد يسمى بحراً، وأن الخشية قد يسمى بها الوقوع تحت التدبير: بأن خالق اللغات والمتكلمين أوقع هذا الاسم على هذا المعنى، وبأن أفصح العرب سمى النساء قوارير، والفرس بحراً. ولعمري لو أنه عليه السلام يقول ذلك قبل بلوغه أربعين عاماً، وقبل أن ينبأ لكان قولـه أعظم حجة لفصاحته وعلمه بلغة قومه، وأنه من وسيطة قريش ومسترضع في بني سعد بن أبي بكر بن هوازن فجمع فصاحة الحيين: خندف وقيس أهل تهامة والحجارة العالية، الذين إليهم انتهت الفصاحة في اللغة العربية الإسماعيلية والذي لا شك فيه، فهو أنه عليه السلام أفصح من امرىء القيس، ومن الشماخ، ومن حسن البصري، وأعلم بلغة قومه من الأصمعي وأبي عبيدة، وأبي عبيد. فما في الضلال أبعد من أن يحتج في اللغة بألفاظ هؤلاء، ولا يحتج بلفظة فيها عليه السلام فكيف وقد أضاف ربه تعالى فيه إلى ذلك العصمة، ومن الخطأ فيها القول والتأييد الإلـهي، والنبوة والصدق المقطوع على غيبه الذي صحبه خرق العادات والآيات والمعجزات، وفي أقل من هذا كفاية لمن كانت فيه حشاشة، فكيف أن يظن به عليه السلام أن يخبر عن ربه تعالى خبراً يكلفنا فهمه، وهو بخلاف ما يفهم ويعقل ويشاهد ويحس ما ينسب هذا إليه إلا ملحد في الدين كائد.

وأعجب العجب أن هؤلاء القوم يأتون إلى الألفاظ اللغوية فينقلونها عن موضوعها بغير دليل، فيقولون: معنى قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } ليس للثياب المعهودة، وإنما هو القلب. ثم يأتون إلى ألفاظ قد قام البرهان الضروري على أنها منقولة عن موضعها في اللغة إلى معنى آخر، وهو إيقاع الخشية على الحجارة. فيقولون: ليس هذا اللفظ ههنا منقولاً عن موضوعه مكابرة للعيان، وسعياً في طمس نور الحق، وإقراراً لعيون الملحدين الكائدين لهذا الدين، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟