ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/الباب الحادي والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } . وأنبأنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد عن عائشة. قالت: تلا رسول الله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } .

قالت: قال رسول الله : «إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهم الله تَعَالَى فَاحْذَرُوهُمْ» ، وبه إلى مسلم قال: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني قال: حدثنا زكريا، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول ، ـــــ وأهوى النعمان بأصبعه إلى أذنيه: «إِنَّ الحَلاَلَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهما مُشْتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهات وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكَ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ» وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .

قال أبو محمد: فوجدناه تعالى قد حضّ على تدبر القرآن، وأوجب التفقه فيه، والضرب في البلاد لذلك ووجدناه تعالى قد نهى عن اتباع المتشابه منه، ووجدناه قد أخبر بأن المتشابهات ــــــ التي بين الحرام البين والحلال البين ــــــ لا يعلمها كثير من الناس، فكان ذلك فضلاً لمن علمها، فأيقنا أن الذي نهى عز وجل عن تتبعه، هو غير الذي أمر بتتبعه وتدبره والتفقه فيه، وأيقنا بلا شك أن المشتبه الذي غبط عالمه، هو غير المتشابه الذي حذر من تتبعه، هذا الذي لا يقوم في المعقول سواه، إذ لا يجوز أن يكلفنا تعالى طلب شيء، وينهانا عن طلبه في وقت واحد، فلما علمنا ذلك وجب علينا طلب المتشابه الذي أمرنا بطلبه، لنتفقه فيه، وأن نعرف أي الأشياء هو المتشابه الذي نهينا عن تتبعه فنمسك عن طلبه. فنظرنا في القرآن وتدبرناه، كما أمرنا تعالى فوجدناه جاء بأشياء منها التوحيد وإلزامه، فكان ذلك مما أمرنا باعتقاده والفكرة فيه، فعلمنا أنه ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها صحة النبوة وإلزامنا الإيمان بها، فعلمنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها الشرائع المفترضة والمحرمة والمندوب إليها والمكروهة والمباحة، وذلك كله مفترض علينا تتبعه وطلبه، فأيقنا أن ذلك مما أمرنا بالتفكير فيه بقوله تعالى: {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } وبقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } مثنياً عليهم، فأيقنا أنه ليس من المتشابه.

ومنها أخبار سالفة جاءت على معنى الوعظ لنا، وهي مما أمرنا بالاعتبار به بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه، ومنها وعد أمرنا وحضضنا على العمل لاستحقاقه، ووعيد حذرنا منه، وكل ذلك مما أمرنا به بالفكرة فيه لنجتهد في طلب الجنة، ونفر عن النار، فأيقنا أن ذلك ليس من المتشابه الذي نهينا عن تتبعه.

فلما علمنا أن كل ما ذكرنا ليس متشابهاً، وعلمنا يقيناً أنه ليس في القرآن إلا محكم ومتشابه، وأيقنا أن كل محكم فلما أيقنا ذلك ضرورة علمنا يقيناً أن ما عدا ما ذكرنا هو المتشابه، فنظرنا لنعلم أي شيء هو فنجتنبه ولا نتتبعه ــــــ وإنما طلبناه لنعلم ماهيته لا كيفيته ولا معناه، فلم نجد في القرآن شيئاً غير ما ذكرنا، حاشا الحروف المقطعة التي في أوائل بعض السور، وحاشا الأقسام التي في أوائل بعض السور أيضاً فعلمنا يقيناً أن هذين النوعين هما المتشابه الذي نهينا عن اتباعه، وحذر النبي من المتبعين له، وكذلك وجدنا عمر رضي الله عنه، قد أوجع صبيّاً على سؤاله عن تفسير والذاريات. فصحّ ضرورة أن هذين القسمين هما المتشابه الذي نهينا عن ابتغاء تأويله، إذ لم يبق بعد ما ذكرنا مما أمرنا بتتبعه إلا هذان النوعان، فلم يبق غيرهما، فحرام على كل مسلم أن يطلب معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور. مثل: {كَهيعَص} و {حم عَسَقَ } و {ن} و {الم} و {ص} و {طَسَم} وحرام أيضاً على كل مسلم أن يطلب معاني الأقسام التي في أوائل السور، مثل: {والنَّجْم} و {الذَّارِيات} {والطور} {والمرسلات عُرفاً} {والعاديَاتِ ضَبْحاً} وما أشبه ذلك. قال أبو محمد: وقد قال قوم: إن المتشابه هو ما اختلف فيه من أحكام القرآن.

قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لأن هذا القول دعوى ورأي من قائله لا برهان على صحته، وأيضاً فإن ما اختلف فيه، فلا بد من أن الحق في بعض ما قيل فيه موجود واضح لمن طلبه برهان ذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وقوله تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فالبيان مضمون موجود، فمن طلبه طلباً صحيحاً وفقه الله تعالى، وأيضاً فإن الأحكام المختلف فيها فرض علينا تتبعها، وابتغاء تأويلها، وطلب حكمها الحق فيها والعناية بها والعمل بها، وأما المتشابه فحرام علينا بالنص تتبعه وطلب معناه، فبطل بذلك أن يكون المختلف فيه متشابهاً. وإذا بطل ذلك صحّ أنه محكم، ولا يضر الحق جهل من جهل، ولا اختلاف من اختلف فيه. وقال آخرون: المتشابه هو ما تقابلت فيه الأدلة.

قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لأنه دعوى من قائله بلا برهان، ورأي فاسد، ولأن تقابل الأدلة باطل، وشيء معدوم لا يمكن وجوده أبداً في الشريعة، ولا في شيء من الأشياء، والحق لا يتعارض أبداً. وإنما أتى من أتى في ذلك لجهله بيان الحق، ولإشكال تمييز البرهان عليه مما ليس ببرهان، وليس جهل من جهل في إبطال الحق . ودليل الحق ثابت لا معارض له أصلاً. وقد بينا وجوه البراهين في كتابنا «التقريب» وكتابنا الموسوم بالفصل، وفي كتابنا هذا ولا سبيل إلى أن يأمرنا تعالى بطلب أدلة قد ساوى فيها بين الحق والباطل، ومن نسب هذا إلى الله تعالى فقد ألحد، وأكذبه ربه تعالى إذ يقول: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } وإذ يقول تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وبقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } فصح أن متشابه الأحكام الذي ذكر أنها لا يعلمها كثير من الناس مبينة بالقرآن والسنة، يعلمها من وفقه الله تعالى لفهمه من الفقهاء الذين أمر عز وجل بسؤالهم إذ يقول تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } .

وقد قال قوم إن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } معطوف على الله عز وجل.

قال أبو محمد: وهذا غلط فاحش، وإنما هو ابتداء وخبره في: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } والواو لعطف جملة على جملة. وبرهان ذلك أن الله حرم تتبع ذلك المتشابه، وأخبر أن متّبعه وطالب تأويله زائغ القلب مبتغي فتنة، وحذر النبي ممن اتبعه، ولا سبيل إلى علم معنى شيء دون تتبعه وطلب معناه، فإذا كان التتبع حراماً فالسبيل إلى علمه مسدود، وإذا كانت مسدودة فلا سبيل إلى علمه أصلاً، فصح أن الراسخين لا يعلمونه أبداً، وأيضاً فإن فرضاً على العلماء بيان ما علموا الناس كلهم يقول الله تعالى: {وَإِذَ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } وبقوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ } . قال أبو محمد: فلو علمه الراسخون في العلم، لكان فرضاً عليهم أن يبينوه للناس ولو لم يبينوه لكانوا ملعونين، ولو بينوه لعلمه الناس، ولو علمه الناس لكان محكماً لا متشابهاً. ولتساوى فيه الراسخون وغيرهم، وهذا ضد ما قال تعالى، فبطل بذلك قول من ظن أن الراسخين يعلمونه وأما ذمه عليه السلام من جهل تلك المتشابهات إن وقع حولها، فإنما ذلك بنص الحديث خوف مواقعة الحرام البين، فصحّ أن تلك المتشابهات ليست حراماً في ذاتها على من جهلها خاصة، ليست حراماً عليه، إذ لم يبلغه تفصيل تحريمها عليه، ولكن الورع أن يتركها خوف وقوعه في الحرام البين.

قال أبو محمد: وبيّن صحة قولنا في هذا الباب ما حدثناه عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى بن أحمد بن محمد، عن أحمد بن عليّ، عن مسلم، ثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب، ثنا يزيد بن إبراهيم التستري، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة قالت: تلا رسول الله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } قالت قال رسول الله : «إِذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ» .

قال أبو محمد: فقد حذر عليه السلام ممن اتبع ما تشابه من القرآن، وقد علمنا أن اتباع أحكامه كلها فرض، فصح أن المتشابه هو غير ما أمرنا بتدبيره والتفقه فيه كما ذكرنا. وقد تأول قوم في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } إن ذلك نزل في قوم من المنافقين كانوا يعترضون على التنازل من القرآن ويقولون لعله سينزل غداً نسخه، فيحملون معنى تأويله على أنه مآله. أي لا يعلم النازل من القرآن أينسخ أم لا لا إِله إلا الله تعالى. قال أبو محمد: وهذا فاسد لأنه دعوى بلا برهان، وما كان هكذا هو باطل بيقين. لقول الله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وتخصيص ما يقتضيه كلام الله تعالى ما لم يقل وكذب عليه، نعوذ بالله من هذا، وليكن هذا تخصيصاً للآية بلا دليل. وقد أبطلنا تخصيص الظواهر بلا دليل فيما خلا من كتابنا هذا لأننا الآن قد علمنا ما لكل آية في القرآن وغيرها ما قد نسخ منها وما لم ينسخ بعد أبداً. وقال قوم أيضاً: إن معنى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } أي وما يعلم علة نزول الآيات إلا الله. قال أبو محمد: وهذا أيضاً فاسد كالذي قبله، لأنه دعوى بلا برهان وتقويل لله ما لم يقل، وإخبار عنه تعالى بما لم يخبر به عن نفسه، ولأنه لو كان كما ذكروا لكان لنزول الآيات علل لا يعلمها إلا الله عز وجل، وقد أبطلنا قول من قال: إن الله تعالى يفعل لعلة في باب إبطال العلل من كتابنا هذا، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟