ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/الباب الثاني والعشرون

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال أبو محمد: اتفقنا نحن وجميع أهل الإسلام ـــــ جنهم وإنسهم ــــــ في كل زمان إجماعاً صحيحاً متيقناً، على أن القرآن الذي أنزله الله على محمد رسول الله وكل ما قاله محمد فإنه حق لازم لكل أحد، وإنه دين الإسلام. ثم اختلفوا في الطريق المؤدية إلى رسوله ، فاعلموا رحمكم الله أن من اتبع نص القرآن، وما أسند من طريق الثقات إلى رسول الله فقد اتبع الإجماع يقيناً، وأن من عاج عن شيء من ذلك فلم يتبع الإجماع. وكذلك إجماع أهل الإسلام كلهم جنهم وإنسهم، في كل زمان وكل مكان، على أن السنة واجب اتباعها، وأنها ما سنه رسول الله ، وكذلك اتفقوا على وجوب لزوم الجماعة، فاعلموا رحمكم الله أن ما اتبع ما صحّ برواية الثقات مسنداً إلى رسول الله فقد اتبع السنة يقيناً، ولزوم الجماعة وهم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعون لهم بإحسان، ومن أتى بعدهم من الأئمة وأن من اتبع أحداً دون رسول الله فلم يتبع السنة، ولا الجماعة وأنه كاذب في ادعائه السنة والجماعة فنحن ــــــ معشر المتبعين للحديث المعتمدين عليه ــــــ أهل السنة والجماعة حقّاً بالبرهان الضروري، وأننا أهل الإجماع كذلك، والحمد لله رب العالمين. ثم اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من علماء أهل الإسلام حجة وحق مقطوع به في دين الله عز وجل. ثم اختلفنا، فقالت طائفة: هو شيء غير القرآن وغير ما جاء عن النبي ، لكنه: أن يجتمع علماء المسلمين على حكم لا نص فيه، لكن برأي منهم أو بقياس منهم عن منصوص. وقلنا نحن: هذا باطل ولا يمكن البتة أن يكون إجماع من علماء الأمة على غير نص ـــــ من قرآن أو سنة عن رسول الله ـــــــ يبين في أي قول المختلفين هو الحق، لا بد من هذا فيكون من وافق ذلك النص، هو صاحب الحق المأجور مرتين، مرة على اجتهاده وطلبه الحق، ومرة ثانية على قوله بالحق واتباعه له. ويكون من خالف ذلك النص ــــــ غير مستجيز لخلافه، لكن قاصداً إلى الحق مخطئاً ـــــ مأجوراً أجراً واحداً على طلبه للحق، مرفوعاً عنه الإثم إذا لم يعمد له. وقد تيقن ألا يختلف المسلمون في بعض النصوص، ولكن يوقع الله عز وجل لهم الإجماع عليه كما أوقع تعالى بينهم الاختلاف فيما شاء أن يختلفوا فيه من النصوص. واحتجت الطائفة المخالفة لنا بأن قالت: قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .

قالوا: فافترض الله طاعة أولي الأمر، كما افترض طاعة رسوله ، وكما افترض طاعة نفسه عز وجل أيضاً ولا فرق. فلو كان عزّ وجل إنما افترض طاعتهم فيما نقلوه إلينا عن رسول الله لما كان لتكرار الأمر بطاعتهم بمعنى، لأنه يكتفي عز وجل بذكر طاعة رسوله فقط، لأنها على قولكم معنى واحد، فصح أنه إنما افترض عز وجل طاعتهم فيما قالوه برأي أو قياس، مما ليس فيه نص عن الله تعالى ولا عن رسوله . قال أبو محمد: وجمعوا في استدلالهم بهذه الآية إلى تصحيح الإجماع، تصحيح القول بالرأي والقياس فيما ظنوا، وقالوا أيضاً: قال عز وجل: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً } قالوا: وهذه كالتي قبلها، وقالوا أيضاً: قال الله عز وجل: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } قالوا: فتوعدوا على مخالفة سبيل المؤمنين أشد الوعيد، فصح فرض اتباعهم فيما أجمعوا عليه، من أي وجه أجمعوا عليه، لأنه سبيلهم الذي لا يجوز ترك اتباعه. وذكروا ما حدثناه عبد الله بن يوسف، ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى، ثنا أحمد بن محمد، ثنا أحمد بن علي، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا سعيد بن منصور، وأبو الربيع العتكي، وقتيبة، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبى، عن ثوبان قال: قال رسول الله : «لا تَزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله» ـــــ زاد العتكي وسعيد في روايتهما ــــــ: «وهم كذلك» . وبه إلى مسلم حدثنا منصور بن أبي مزاحم، ثنا يحيى بن حمزة، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني عمير بن هاني، قال: سمعت معاوية على المنبر يقول: سمعت رسول الله يقول: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس» .

حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الهمداني، ثنا إبراهيم بن أحمد، ثنا الفريري، ثنا البخاري، ثنا الحميدي، ثنا الوليد هو ابن مسلم، ثنا ابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ــــــ حدثني عمير بن هاني قال: سمعت معاوية يقول: سمعت رسول الله : «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ الله لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ الله وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» قالوا: فصح أنه لا تجتمع أمة محمد على غير الحق أبداً، لأنه قد أنذر بأنه لا يزال منهم قائم بالحق أبداً. قال أبو محمد: وقد روي أنه عليه السلام قال: «لا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلاَلَةٍ» وهذا وإن لم يصح لفظه ولا سنده فمعناه صحيح بالخبرين المذكورين آنفاً. قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به، ما لهم حجة غير هذا أصلاً. قال أبو محمد: وكل هذا حق لا ينكره مسلم ونحن لم نخالفهم في صحة الإجماع، وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم. أحدهما: تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص.

والثاني: دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل، بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان. أما في مكان قد صحّ فيه الاختلاف موجوداً، وإما في مكان لا نعلم نحن فيه اختلافاً إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن، نعم، وقد خالفوا الإجماع المتيقن على ما تبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فإذا الأمر هكذا فلا حجة لهم في شيء من هذه النصوص أصلاً فيما أنكرناه عليهم. إنما الأخبار التي ذكرنا عن رسول الله فإنما فيها أن أمته عليه السلام لا تجتمع ولا ساعة واحدة من الدهر على باطل، بل لا بد أن يكون فيهم قائل بالحق وقائم بالحق وقائم به، وهكذا نقول، وهذا الخبر إنما فيه بنص لفظه وجود الاختلاف فقط، وأن مع الاختلاف فلا بد فيهم من قائل بالحق. وأما قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } فإنها حجة قائمة عليهم، والحمد لله رب العالمين، وذلك أن الله تعالى لم يتوعد في هذه الآية متبع على غير سبيل المؤمنين فقط، لا مع مشاقته لرسول الله بعد أن تبين الهدى وهذا نص قولنا، والحمد لله رب العالمين. واعلم أنه لا سبيل للمؤمنين البتة إلا طاعة القرآن والسنن الثابتة على رسول الله ، وأما إحداث شرع لم يأت به نص فليس سبيل المؤمنين، بل هو سبيل الكفر، قال الله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } .

قال أبو محمد: هذه سبيل المؤمنين بنص كلام اللـه تعالى، لا سبيل لـهم غيرها أصلاً فعادت هذه الآية حجة لنا عليهم، وأما قولـه تعالى: { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ } وقولـه تعالى: { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ } فإن هذا مكان قد اختلف الصدر الأول فيه في من هم أولي الأمر كما حدثنا أحمد بن محمد الطَّلَمَنْكي، ثنا محمد بن مفرج، ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس، ثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، ثنا سعيد بن منصور، ثنا أبو معاوية ــــــ هو محمد بن خازم الضرير ـــــ عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قولـه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } قال: هم الأمراء. وروينا عن مجاهد والحسن وعكرمة وعطاء قال: هم الفقهاء، وروينا ذلك بالسند المذكور إلى سعيد بن منصور، عن هشيم وسفيان بن عيينة، قال هشيم: أخبرنا أبو معاوية، ومنصور، وعبد الملك بن معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، ومنصور، عن الحسن، وعبد الملك، عن عطاء، وقال سفيان عن الحكم بن أبان عن عكرمة.

قال أبو محمد: فإذا لم يأت قرآن ببيان أنهم العلماء المجمعون، ولا صحّ بذلك إجماع، فالواجب حمل الآيتين على ظاهرهما، ولا يحل تخصيصهما بدعوى بلا برهان، لأنه مع ذلك تقويل للـه عز وجل ما لم يقل، ونحن نقطع بأنه تعالى لو أراد بعض أولي الأمر دون بعض لبيّنه لنا، ولم يدعنا في لبس فوجب ما قلناه من حمل الآيتين على عمومهما. فنقول: إن أولي الأمر منا، وإذ هذا هو الحق، فمن الباطل المتيقن أن يقول قائل: إن اللـه تعالى أمرنا بقبول طاعة الأمراء العلماء فيما لم يأمر به اللـه تعالى ولا رسولـه فصح أن طاعة العلماء الأمراء إنما تجب علينا فيما أمرنا به، مما أمر اللـه به تعالى ورسولـه فقط. وأما قولـهم: إن اللـه تبارك وتعالى لو أراد هذا لاكتفى بالأمر بطاعة الرسول عليه السلام على أن يذكر تعالى أولى الأمر ـــــ فكلام فاسد، لأنه يقال لـهم: إن قلتم إن ذكره تعالى طاعة أولي الأمر منا فيما قالوا برأي أو قياس لا فيما نقلوه إلينا عن النبي ، إذ قد أغنى أمره تعالى بطاعة الرسول عن تكراره ـــــ: فيلزمكم سواء بسواء أن تقولوا أيضاً: إن أمره تعالى بطاعة رسولـه بعد أمره بطاعة نفسه عز وجل، دليل على أنه عز وجل، إنما أمرنا بطاعة رسول الله فيما قاله من عند نفسه، لا فيما أتانا به من عند ربه عز وجل، إذ قد أغنى أمر بطاعة نفسه عن تكراره لا فرق بين القولين. فإن أبيتم من هذا ظهر تناقضكم وتحكمكم بالباطل بلا برهان، وإن جسرتم وقلتموه أيضاً كنتم أتيتم بعظائم مخالفة للقرآن وللرسول عليه السلام وللإجماع المتيقن، إذ جوزتم أن يأتي رسول الله بشرائع لم يوح الله تعالى بشيء منها إليه قط، والله تعالى قد أكذب هذا القول إذ أمره أن يقول: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } وإذ يقول عز وجل مخبراً عنه : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فأخبر تعالى عن أن النبي لا ينطق البتة إلا بوحي يوحى إليه، وأنه لا يتبع البتة إلا ما يوحي الله تعالى إليه فقط، فمن كذب ربه فلينظر أين مستقره.

وإذا جوزتم أن يجمع الناس على شرائع يحدثونها لم يوح بها الله تعالى إلى رسوله ولا بيّنها رسوله ، والله تعالى يكذب من قال هذا، إذ يقول: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فالدين قد كمل وما كمل فلا مزيد فيه أصلاً. وأما تكرار الله تعالى الأمر بطاعة رسوله بعد أمره بطاعة نفسه تعالى، وتكراره الأمر بطاعة أولي الأمر بعد أمره بطاعة الرسول وإن كان كل ذلك ليس فيه إلا طاعة ما أمر الله به فقط لا ما لم يأت به الوحي منه عز وجل، فوجه ذلك واضح وهو بيان زائد، لولا مجيئه لالتبس على بعض الناس فهم ذلك الأمر، وذلك أنه لو لم يأمرنا الله تعالى إلا على الأمر بطاعته فقط، لتوهم بعض الجهال أنه لا يلزمنا إلا ما قاله تعالى في القرآن فقط، وأنه لا يلزمنا طاعة رسوله فيما جاءنا به مما ليس في نص القرآن، فلما أمر تعالى مع طاعته بطاعة رسوله ليظهر البيان ولم يمكن أن يمنع من طاعة رسول الله فيما أمرنا إلا معاند له.

ولو لم يأمرنا تعالى إلا على الأمر بطاعة أولي الأمر منا لأمكن أن يهم جاهل فيقول: لا يلزمنا طاعة رسول الله إلا فيما سمعنا منه مشافهة.

فلما أمرنا تعالى بطاعة أولي الأمر منا ظهر البيان في وجوب طاعة ما نقله إلينا العلماء عن النبي فقط، فبطل أن يكون لهاتين الآيتين متعلق، والحمد لله رب العالمين. فإن قالوا: لو كان هذا لما كان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } معنى، لأن ما جاءنا عن الله تعالى وعن النبي فواجب قبوله، اتفق عليه أو اختلف فيه، فأي معنى للفرق وبين أمره تعالى بطاعة أولي الأمر، ثم أمره بالرد عند الشارع إلى الله ورسوله؟. قلنا: ليس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } خلاف لأمره تعالى بطاعة أولي الأمر، بل كل ذلك ليس فيه إلا طاعة القرآن والسنن المبلغة إلينا فقط، ولكن في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } معنى زائد ليس فيما تقدم من الآية، وهو نهيه تعالى عن تقليد أحد واتباعه، والأمر بالاقتصار على القرآن والسنة فقط ولا مزيد.

وأيضاً والكل من المسلمين متفقون على أن رسول الله أمرنا أن نصلي إلى بيت المقدس مدة، ثم أمرنا بترك تلك القبلة وبالصلاة إلى مكة، فوجب ذلك، وأنه عليه السلام لو نهانا عن أن نصلي الخمس وعن صوم رمضان لحرم علينا أن نصليها أو نصومه، وهكذا في سائر الشرائع، أفهكذا القول عندكم و أمرنا بذلك بعد جميع أهل الأرض؟ فإن قالوا: نعم، كفروا، وإن قالوا: لا، فرقوا بين طاعته عليه السلام وطاعة أولي الأمر.

فإن قالوا: هذا محال، لا يجوز أن يجمع الناس على ذلك لأنه كفر وضلال، قلنا: صدقتم وكذلك أيضاً محال لا يجوز أن يجمعوا على إحداث شرع ــــــ لم يأمر الله تعالى به ولا رسوله برأي أو بقياس، ولا فرق، فبطل أن يكون لهم في شيء من النصوص المذكورة متعلق بوجه من الوجوه، والحمد لله كثيراً.

وقالوا: لو كان الإجماع لا يكون إلا عن نص وتوقيف لكان ذلك النص محفوظاً، لأن الله تعالى قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } فلما لم يوجد ذلك النص علمنا أن الإجماع ليس على نص. قال أبو محمد: وهذا كلام أوله حق وآخره كذب. ونحن نقول: لا إجماع إلا عن نص، وذلك النص: إما كلام منه فهو منقول، ولا بد محفوظ حاضر، وإما عن فعل منه عليه السلام فهو منقول أيضاً كذلك، وإما إقراره ــــــ إذ علمه فأقره ولم ينكره ـــــ فهي أيضاً حال منقولة محفوظة، وكل من ادعى إجماعاً علمه على غير هذه الوجوه كلفناه تصحيح دعواه، في أنه إجماع لا سبيل إلى برهان على ذلك أبداً بأكثر من دعواه، وما كان دعوى بلا برهان فهو باطل، فإن لجأ إلى ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع، قلنا له: وهذا تدبير من الكذب والدعوى الأفيكة بلا برهان وتمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى في باب بعد هذا ـــــ مفرد لبعض قول من قال: إن ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع ـــــ ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكيف وفيما ذكرنا ههنا من أنها دعوى بلا برهان كفاية.

قال أبو محمد: وإذا قد بطل كل ما اعترضوا به، فلنقل بعون الله تعالى على إيراد البراهين على صحة قولنا، قال عز وجل: {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } فأمرنا تعالى أن نتبع ما أنزل ونهانا عن أن نتبع أحداً دونه قطعاً، فبطل بهذا أن يصح قول أحد لا يوافق النص، وبطل بهذا أن يكون إجماع على غير نص، لأن النص باطل، والإجماع حق، والحق لا يوافق الباطل. وقد ذكرنا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فصح أنه لا يحدث بعد النبي شيء من الدين، وهذا باطل أن يجمع على شيء من الدين لم يأت به قرآن ولا سنة، ويصح بضرورة العقل أنه لا يمكن أن يعرف أحد ما كلفه الله تعالى عباده إلا بخبر من عنده عز وجل، وإلا فالخبر عنه تعالى بأنه أمر بكذا، ونهي عن كذا كاذب على الله عز وجل إلا أن يخبر بذلك عنه تعالى من يأتيه الوحي من عند ربه فقط. وصحّ أيضاً بضرورة العقل، أن من أدخل في الدين حكماً يقر بأنه لم يأت به وحي من عند الله تعالى عن رسوله ، فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وقد ذم الله تعالى ذلك وأنكره في نص القرآن فقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . قال أبو محمد: ومن طريق النظر الضروري الراجع إلى العقل والمشاهدة والحس أننا نسأل من أجاز أن يجمع علماء المسلمين على ما لا نص فيه فيكون حقّاً لا يسع خلافه، فنقول له، وبالله تعالى التوفيق: أفي الممكن عندك أن يجتمع علماء جميع الإسلام في موضع واحد، حتى لا يشذ عنهم منهم أحد بعد افتراق الصحابة رضي الله عنهم في الأمصار؟ أم هذا ممتنع غير ممكن البتة؟ فإن قال: هذا ممكن، كابر العيان، لأن علماء أهل الإسلام قد افترق الصحابة رضي الله عنهم في عصر رسول الله إلى اليوم وهلَّم جَرّاً لم يجتمعوا مذ أن افترقوا، فصار بعضهم في اليمن في مدنها، وبعضهم في عُمان، وبعضهم في البحرين، وبعض في الطائف، وبعض بمكة، وبعض بنجد. وبعض بجبل طيِّىء، وكذلك في سائر جزائر العرب.

ثم اتسع الأمر بعده عليه السلام، فصاروا من السند وكابل، إلى مغارب الأندلس، وسواحل بلاد البربر، ومن سواحل اليمن إلى ثغور أرمينية، فما بين ذلك من البلاد البعيدة واجتماع هؤلاء ممتنع غير ممكن أصلاً لكثرتهم وتنائي أقطارهم. فإن قال: ليس اجتماعهم ممكناً، قلنا: صدقت. وأخبرنا الآن كيف الأمر إذا قال بعضهم قولاً لا نص فيه، أتقطع على أنه حق، وأنت لا تدري أيجمع عليه سائرهم أم لا؟ أم تقف فيه؟ فإن قال: أقطع بأنه حق، قلنا: حكمت بالغيب وبما لا تدري، وحكمت بالباطل بلا شك، فإن قال: بل أقف فيه حتى يجمع عليه سائرهم قلنا: فإنما يصح إذ قال به آخر قائل منهم، فلا بد من نعم فيقال لهم: فلو خالفهم فعلى قولك لا يكون حقّاً، فمن قوله نعم فيقال له: فكيف يكون حقّاً ما يمكن أمس أن يكون باطلاً، وهذا حكم على الله تعالى، وليس هذا حكم الله وكفى بهذا بياناً.

وأيضاً فإن اليقين قد صحّ بأن الناس مختلفون في هممهم، واختيارهم وآرائهم وطبائعهم الداعية إلى اختيار ما يختارونه، وينفرون عما سواه، متباينون في ذلك تبايناً شديداً متفاوتاً جداً فمنهم رقيق القلب يميل إلى الرفق بالناس، ومنهم قاسي القلب شديد يميل إلى التشديد على الناس، ومنهم قوي على العمل مجد إلى العزم والصبر والتفرد، ومنهم ضعيف الطاقة يميل إلى التخفيف، ومنهم جانح إلى لين العيش يميل إلى الترفيه، ومنهم مائل إلى الخشونة مجنح إلى الشدة، ومنهم معتدل في كل ذلك إلى التوسط، ومنهم شديد الغضب يميل إلى شدة الإنكار، ومنهم حليم يميل إلى الإغضاء، ومن المحال اتفاق هؤلاء كلهم على إيجاب حكم برأيهم أصلاً، لاختلاف دعاويهم ومذاهبهم فيما ذكرنا، وإنما يجمع ذو الطبائع المختلفة على ما استووا فيه من الإدراك بحواسهم، وعلموه ببدائة عقولهم فقط، وليست أحكام الشريعة من هذين القسمين فبطل أن يصح فيها إجماع على غير توقيف، وهذا برهان قاطع ضروري. وأما الإجماع على القياس، فيبطل من قرب، لأنهم لم يجمعوا على صحة القياس، فكيف يجمعون على ما لم يجمعوا عليه؟. قال أبو محمد: فاعترض فيها بعض المخالفين فقال: قد اختلف الناس في القول بخبر الواحد، وقد أجمع على بعض ما جاء به خبر الواحد.

قال أبو محمد: وهذا باطل ومخرقة ضعيفة، لأن المسلمين لم يختلفوا قط في وجوب طاعة رسول الله ، وإنما اختلفوا في الطريق المؤدية إليه والذين لا يقولون بخبر الواحد. ثم أجمعوا على حكم ما جاء من أخبار الآحاد ــــــ فإنهم يقولون: إنما قلنا به لأنه نقل كافة، لا لأنه خبر واحد. فإن قلتم: إن من القياس ما يوافق النص، قلنا لكم: المتبع حينئذ إنما هو النص ولا نبالي وافقه القياس أو خالفه، فلم نتبع القياس قط وافق النص أو خالفه، وكذلك لا يجوز الإجماع على قول إنسان دون النبي لأنه لا أحد بعده إلا وقد خالفه طوائف من المسلمين في كثير من قوله. وأيضاً فإن كان من بعده عليه السلام فممكن أن يصيب وأن يخطىء، فاتباع خطأ من أخطأ باطل وأما صواب المصيب في الدين، فإنما هو باتباع النص، فالنص هو المتبع حينئذ لا قول الذي اتبع النص، وإنما يجب اتباع النص سواء وافقه الموافق أو خالفه المخالف. وأيضاً فإنه يقال لمن أجاز الإجماع على غير نص من قرآن أو سنة عن رسول الله : أخبرونا عما جوزتم من الإجماع ـــــ بعد رسول الله على غير نص، هل يخلو من أربعة أوجه لا خامس لها؟ إما أن يجمعوا على تحريم شيء مات ولم يحرمه، أو على تحليل شيء مات رسول الله وقد حرمه، أو على إيجاب فرض مات رسول الله ولم يوجبه أو على إسقاط فرض مات رسول الله قد أوجبه، وكل هذه الوجوه كفر مجرد وإحداث دين بدل به دين الإسلام، ولا فرق بين هذه الوجوه، وبين من جوَّز الإجماع على إسقاط الصلوات الخمس أو بعضها أو ركعة منها، أو على إيجاب صلوات غيرها أو ركوع زائدة فيها، أو على إبطال صوم رمضان أو على إيجاب صوم شهر رجب، أو على إبطال الحج إلى مكة، أو على إيجابه إلى الطائف، أو على إباحة الخنزير، أو على تحريم الكبش، كل هذا كفر صراح لا خفاء به.

فإن قالوا: كل هذه نصوص، وإنما جوزنا الإجماع على ما لا نص فيه، قلنا: وكل ما ذكرنا لا نص فيه، وإنما هي شرائع زائدة في دين الله تعالى أو ناقصة منه هذه صفة ما لا نص فيه لا سبيل إلى أن يكون حكم لا نص فيه يخرج من أحد هذين الوجهين. فإن قالوا: هذا لا يجوز، رجعوا إلى قولنا من قرب، ومن أجاز شيئاً من هذا كفر، وبالله تعالى التوفيق. وهذا أيضاً برهان قاطع في إبطال القول بالقياس بالرأي والاستحسان لا مخلص منه. واعلموا أن قولهم: هذه المسألة لا نص فيها، قول باطل، وتدليس في الدين، وتطريق إلى هذه العظائم، لأن كل ما يحرمه الله تعالى على لسان نبيه إلى أن مات فقد حلله بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } وكل ما لم يأمر به عليه السلام فلم يوجبه، وهذه ضرورة لا يمكن أن يقوم في عقل أحد غيرها، وأما كل ما نص يأمر به بالأمر به أو النهي عنه فقد حرمه أو أوجبه فلا يحل لأحد مخالفته، فصح أنه لا شيء إلا وفيه نص جلي فصح أنه لا إجماع إلا على نص، ولا اختلاف إلا في نص كما ذكرنا، ولا قياس يوجب في نص إلا وهو زائد في الدين أو ناقص منه ولا بد. ثم نقول لهم أيضاً: أخبرونا عن الإجماع جملة، هل يخلو من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها بضرورة العقل؟ أما أن يجمع الناس على ما لا نص فيه كما ادعيتم فقد أريناكم بطلان ذلك، وأنه محال ذلك وأنه محال وجوده لصحة وجود النصوص في كل شيء من الدين أو يكون إجماع الناس على خلاف النص الوارد من غير نسخ أو تخصيص له وردا قبل موت رسول الله فهذا كفر مجرد كما قدمنا.

أو يكون إجماع الناس على شيء منصوص فهذا قولنا هذه قسمة ضرورية لا محيد عنها أصلاً، وإذ هو كما ذكرنا فاتباع النص فرض، سواء أجمع الناس عليه أو اختلفوا فيه، لا يزيد النص مرتبة في وجوب الاتباع أن يجمع الناس عليه، ولا يوهن وجوب اتباع اختلاف الناس فيه، بل الحق حق وإن اختلف فيه، وإن الباطل باطل وإن كثر القائلون به، ولولا صحة النص عن النبي بأن أمته لا يزال منهم من يقوم بالحق ويقول به ــــــ فبطل بذلك أن يجمعوا على باطل ـــــ لقلنا: والباطل باطل وإن أجمع عليه، لكن لا سبيل إلى الإجماع على باطل.

قال أبو محمد: فإذا الأمر كذلك فإنما علينا صُلب أحكام القرآن والسنن الثابتة عن رسول الله : إذ ليس في الدين سواهما أصلاً ولا معنى لطلبنا هل أجمع على ذلك الحكم أو هل اختلف فيه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. فإن قيل: فقد صححتم الإجماع آنفاً، ثم توجبون الآن أنه لا معنى له، قلنا: الإجماع موجود كما الاختلاف موجود، إلا أننا لم يكلفنا الله تعالى معرفة شيء من ذلك، إنما كلفنا اتباع القرآن وبيان رسول الله الذي نقله إلينا الأمر منا، على ما بيّنا فقط، ولأن أحكام الدين كلها من القرآن والسنن لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما وحي مثبت في المصحف، وهو القرآن وإما وحي غير مثبت في المصحف، وهو بيان رسول الله ، قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } . ثم ينقسم كل ذلك ثلاثة أقسام لا رابع لها، إما شيء نقلته الأمة كلها عصراً بعد عصر، كالإيمان والصلوات والصيام ونحو ذلك، وهذا هو الإجماع ليس من هذا القسم شيء لم يجمع عليه، وإما شيء نُقِلَ نَقْلَ تواتر كافة عن كافة من عندنا كذلك إلى رسول الله ككثير من السنن وقد يجمع على بعض ذلك، وقد يختلف فيه، كصلاة النبي قاعداً بجميع الحاضرين من أصحابه، وكدفعه خيبر إلى يهود بنصف ما يخرج منها من زرع أو تمر يخرجهم إذا شاء وغير ذلك كثير، وإما شيء نقله الثقة عن الثقة كذلك مبلغاً إلى رسول الله فمنه ما أجمع على القول به، ومنه ما اختلف فيه، فهذا معنى الإجماع الذي لا إجماع في الديانة غيره البتة، ومن ادعى غير هذا فإنما يخبط فيما لا يدري، ويقول ما لا علم له، ويقول بما لا يفهم، ويدين بما لا يعرف حقيقته. وبالله تعالى التوفيق، وبه نعوذ من التخليط في الدين بما لا يعقل.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع

في أقل الجمع | في الاستثناء | في الكناية بالضمير | في الإشارة | في المجاز والتشبيه | فصل في التشبيه | في أفعال رسول الله | الكلام في النسخ | فصل في الأوامر في نسخها وإثباتها | فصل في قول الله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ | فصل في اختلاف الناس على النسخ | فصل في تشكيك قوم في معاني النسخ | فصل في إمكان النسخ ثم إيجابه ثم امتناعه | فصل هل يجوز نسخ الناسخ ؟ | فصل في مناقل النسخ | فصل في آية ينسخ بعضها، ما حكم سائرها ؟ | فصل لا يضر كون الآية المنسوخة متقدمة في الترتيب | فصل في نسخ الأخف بالأثقل والأثقل بالأخف | فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل | فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي | فصل في النسخ بالإجماع | فصل في رد المؤلف على من أجاز نسخ القرآن والسنة بالقياس | في المتشابه من القرآن والفرق بينه وبين المتشابه في الأحكام | في الإجماع، وعن أي شيء يكون الإجماع وكيف ينقل الإجماع | فصل في اختلاف الناس في وجوه من الإجماع | فصل ذكر الكلام في الإجماع إجماع من هو | فصل في ما إذا اختلف أهل عصر ما في مسألة ما | فصل في اختلاف أهل عصر ما ثم إجماع أهل عصر ثان | فصل في من قال إن افترق أهل عصر على أقوال كثيرة | فصل فيمن قال: ما لا يعرف فيه خلاف فهو إجماع | فصل في من قال بأن خلاف الواحد من الصحابة أو ممن بعدهم لا يعد خلافاً | فصل في قول من قال: قول الأكثر هو الإجماع ولا يعتد بقول الأقل | فصل في إبطال قول من قال: الإجماع هو إجماع أهل المدينة | فصل فيمن قال إن الإجماع هو إجماع أهل الكوفة | إن قول الواحد من الصحابة إذا لم يعرف له مخالف فهو إجماع | فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة | فصل في معنًى نسبوه إلى الإجماع | فصل واختلفوا: هل يدخل أهل الأهواء أم لا ؟