ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في نسخ الفعل بالأمر والأمر بالفعل
قال أبو محمد: قد بيّنا أن كل ما فعله من أمور الديانة، أو قاله منها فهو وحي من عند الله عز وجل، بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } وبقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } والله تعالى يفعل ما يشاء فمرة ينزل أوامره بوحي يتلى، ومرة بوحي ينقل ولا يتلى، ومرة بوحي يعمل به ولا يتلى ولا ينقل، لكنه قد رفع رسمه وبقي حكمه، ومرة أن يري نبيه في منامه ما شاء، ومرة يأتيه جبريل بالوحي، لا معقب لحكمه، فجائز نسخ أمره بفعله، وفعله بأمره، وجائز نسخ القرآن بكل ذلك، وجائز نسخ كل ذلك بالقرآن وكل ذلك سواء ولا فرق.
وكذلك الشيء يراه رسول الله ويقره ولا ينكره، وقد كان تقدم عنه تحريم جلي، فإن ذلك نسخ لتحريمه، لأنه مفترض عليه التبليغ، وإنكار المنكر، وإقرار المعروف، وبيان اللوازم، وهو معصوم من الناس، ومن خلاف ما أمره به ربه تعالى، فلما صحّ كل ما ذكرنا أيقنّا أنه إذا علم شيئاً كان قد حرمه ثم علمه ولم يغيره ــــــ: أن التحريم قد نسخ، وأن ذلك قد عاد حقّاً مباحاً ومعروفاً غير منكر.
وأما إن كان قد تقدم في ذلك الشيء نهي فقط ثم رآه أو علمه فأقره، فإنما ذلك بيّن أن ذلك النهي على سبيل الكرامة فقط، لأنه لا يحل لأحد أن يقول في شيء من الأوامر، إن هذا منسوخ إلا ببرهان جلي، إذ كلها على وجوب الطاعة لها، وما تيقنّا وجوب طاعتنا له، فحرام علينا مخالفته لقول قائل: هذا منسوخ، ولو جاز قبول ذلك ممن ادعاه بلا برهان لسقطت الشرائع كلها، لأنه ليس قول زيد وعمر ومالك والشافعي وأبي حنيفة: هذا منسوخ، بأولى من قول كل من على ظهر الأرض ـــــ فيما يستعمله من ذكرنا ـــــ: هذا أيضاً منسوخ.
وقد قال تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ومن قال في شيء من أوامر الله تعالى، أو أوامر رسوله : هذا منسوخ أو هذا متروك، أو هذا مخصوص، أو هذا ليس عليه العمل، فقد قال: دعوا ما أمركم به ربكم أو نبيكم ولا تعملوا به، وخذوا قولي وأطيعوني في خلاف ما أمرتم به.
قال أبو محمد: فحق من قال ذلك أن يعصى، ولا يلتفت إلى كلامه، إلا أن يأتي ببرهان من نصّ أو إجماع، كما قدمنا في فصل كيفية معرفة المنسوخ من المحكم. قال أبو محمد: ومما ذكرنا أنه نهى عنه ، ثم رآه فلم ينكره نهيه المصلين خلف الجالس عن القيام. ثم صلى عليه السلام في مرضه الذي مات فيه جالساً، والناس وراءه قيام، ولم ينكر عليه السلام ذلك، فصح أن ذلك النهي الأول ندب، إلا من فعل ذلك إعظاماً للإمام، فهو حرام على ما بيّن عليه السلام يوم صلاته إذ ركب فرس أبي طلحة فسقط.