ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في متى يقع النسخ عمن بعد عن موضع نزول الوحي
قال أبو محمد: قال قوم: النسخ يقع حين نزول الوحي، لأن المنسوخ ـــــ على ما بيّنا ــــــ إنما هو أمر الله المتقدم لا أفعال المأمورين، إلا أن الغائب لا يقع عليه الملامة، ولا الوعيد إلا بعد بلوغ الأمر الناسخ إليه، وكذلك سائر الأوامر التي لم تنسخ هي لازمة لكل من قرب وبعد، ولكل من لم يخلق بعد، لكن الملامة والوعيد مرفوعان عمن لم يبلغه حتى يبلغه.
فإذا بلغته فأطاع حمد وأجر وإن عصى ليم واستحق الوعيد وأجره على فعل ما نسخ ـــــ مما لم يبلغه نسخه ـــــ أجر واحد، لأنه مجتهد مخطىء كما نصّ رسول الله في ذلك. والذي نقول به: إن النسخ لا يلزم إلا إذا بلغ وبين ما قلنا قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } فإما أوجب الحكم بعد البلوغ. فلو أن من بلغه المنسوخ ــــــ ممن بعد عن رسول الله ثم لم يبلغه الناسخ أقدم على ترك المنسوخ الذي بلغه دون علم الناسخ وعمل بالناسخ، كان عليه إثم المستسهل لترك الفرض، لا إثم تارك الفرض: إنه لا يجوز لمن علم نسخ الحكم أن ينفذ عليه حكم ما بلغه تحريم الحكم على الجاهل، لم يجز له أن يحكم عليه بحكم العالم. مثال ذلك: رجل لقي رجلاً فقتله على نية الحرابة، فإذا بذلك المقتول هو قاتل والد الذي قتله، أو وجده مشركاً محارباً، فهذا ليس عليه إثم قاتل مؤمن عمداً، ولا قود عليه ولا دية، لأنه لم يقتل مؤمناً حرم الدم عليه، وإنما عليه إثم مريد قتل المؤمن عمداً ولم ينفذ ما أراد، وبين الإثمين بون كبير، لأن أحدهما هام، والآخر فاعل، وكإنسان لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها، فإذا بها زوجته، فهذا ليس عليه إثم الزنى، ومن قذفه حُدَّ حدّ القذف، لكن عليه إثم مريد الزنى. ولا حدّ عليه، ولا يقع عليه اسم فاسق بذلك.
وقد صح عن رسول الله : «مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةِ فَلَمْ يَعْمَلْها لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ» ، ولو أن رجلاً ممن بلغه فرض استقبال بيت المقدس ولم يبلغه نسخ ذلك، وصلى إلى الكعبة لكان مفسداً لصلاته بعبثه فيها، لا بصلاته إلى غير القبلة، ولأن الائتمار إنما يكون بعد العلم بالأمر اللازم له لا قبل، ولا تكون طاعة أصلاً إلا بنية وقصد إلى عمل بعدما أمر به علمه بأنه لازم له، وإلا فهو عبث، لا يسمى ذلك في اللغة طائعاً أصلاً، ولكتب عليه اسم المستسهل للصلاة إلى غير القبلة، ومثاله الآن: بينما رجل في صحراء أداه اجتهاده إلى جهة ما فخالفها متعمداً، فوافق في الوجهة التي صلى إليها إن كانت القبلة على حق، فهذا عابث في صلاته فاسق، وليس مصلياً إلى غير القبلة.
قال أبو محمد: كذلك كانت صلاة أهل قُباء، ومن كان بأرض الحبشة إلى بيت المقدس صلاة تامة، وإن كان النسخ قد وقع بالقبلة إلى الكعبة على من بلغه لأنهم لم يعلموا ذلك، ولكن أجرهم على صلاتهم كذلك أجران، وأما من بلغه ذلك ثم نسيه، أو تأول فيه فأجرهم على صلاته كذلك أجراً واحداً لأنهم مجتهدون أخطؤوا ما عند الله عز وجل، وهم مأمورون باستقبال الكعبة، ولكنهم غير ملومين ولا آثمين في ترك ذلك، لأنهم معذورون بالجهل، وهذا بيّن وبالله تعالى التوفيق، وليس كذلك أهل قباء، ومن كان بأرض الحبشة، لأن فرضهم البقاء على ما بلغهم، حتى ينتقل بلوغ النسخ إليهم. قال أبو محمد: وقد تبين بهذا ما قلناه في غير موضع من كتابنا، أن المخطىء أفضل عند الله من المقلد المصيب، وكذلك قلنا في جميع العبادات، فإن سأل سائل عن قولنا في الوكيل يعزله موكله أو يموت، فينفذ الوكيل ما كان وكل عليه بعد عزله، وهو يعلم أنه معزول، أو بعد موت الذي وكله وهو لا يعلم بموته قلنا له، وبالله تعالى التوفيق: قال الله عز وجل: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } . وقال : «دِمَاؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْراضُكُمْ وَأَبْشَارُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» فكل أمر انفذه الوكيل بعد عزله وهو غير عالم فنافذ، لأن عازله ولا يعلمه مضار، وقد قال : «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ الله بِهِ» فهو منهي عن المضارة. وأما ما أنفذ بعد موت موكله ـــــ وهو عالم أو غير عالم ـــــ فهو مردود منسوخ، لأنه كاسب على غيره بغير نص ولا إجماع، ولا يجوز القياس أصلاً ولكل حكم حكمه، وليست هذه الأمور باباً واحداً فيستوي الحكم فيها، إلا أن يكون وكله على دفع وديعة أو دين أو حق لآخر فهذا نافذ، عزله أو علم الوكيل أنه عزله أو أنه مات، أو لم يعلم لأن الذي فعل حق للمدفوع إليه لا للدافع، فليس كاسباً على غيره بل فعل فعلاً واجباً على كل أحد أن يفعله، أمر بذلك أو لم يؤمر، لأنه قيام بالقسط. قال الله تعالى: { كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ } ومن البر إيصال كل أحد حقه.
وأما القاضي والأمين يعزله الأمير فليس للإمام أن يضيع أمور المسلمين فيبقيهم دون من ينفذ أحكامهم، لكن يكتب أو يوصي إلى القاضي أو الوالي إذا أتاك عهدي فاعتزل عملنا. فإن لم يفعل كذلك فكل حكم أنفذه المعزول قبل أن يعلم العزل بحق فهو نافذ، لأنه لم يكلف علم الغيب، وقد ظلم الإمام إذ عزله دون تقديم غيره، والظلم مردود، ومن باع مال غيره أو تأمر فحكم فوافق أن صاحب ذلك المال المبيع قد كان وكله قبل أن يبيع ما باع، ولم يعلم الوكيل بذلك، أو وافق أن الإمام قد كان ولاه ما تأمر عليه، ولم يعلم هو بذلك، فكل ما فعل فمردود منسوخ، لأنهما غير مطيعين بما فعلا، بل هما عاصيان لأن الطاعة عمل من الأعمال والأعمال بالنيات، ولا نية لهذين فيما فعلا لأنهما لم يفعلا كما أمرا بل كما لم يؤمرا. كما قلنا قبل فيمن صلى إلى جهة ولا يشك أنها غير القبلة. فوافق أنها القبلة فصلاته فاسدة، لأنه لم ينو الطاعة المأمور بها، وكذلك من باع فوافق أنه ماله ولا يعلم، أو قد ورثه أو استحقه فبيعه ذلك مردود أبداً، وكذلك هبته وصدقته لو وهبه أو تصدق به. وكذلك لو كان عبداً فأعتقه. ويرد كل ذلك لأنه عمل لم يعمل بالنية التي أبيح له أن يعمله بها ولا عمل إلا بنية. وأما من لقي امرأة فظنها أجنبية فوطئها فإذا هي زوجته. فإنها تستحق بذلك جميع المهر وتحل لمطلقها ثلاثاً، لأن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية، وقد رجم النبي بوطء في الكفر، ولو تزوجها وهو عاقل ثم جن فوطأها في حال جنونه لاستحقت في ماله جميع الصداق بلا خوف، ويلحق به الولد بلا خوف فصح أن الوطء لا يحتاج فيه إلى نية بإجماع. وأما من صام رمضان وهو لا يدري فوافق رمضان فلا يجزيه. وكذلك الصلاة يصليها وهو لا يدري أدخل وقتها أم لا. لأن هذه الأعمال تقضي نية مرتبطة بها لا يصلح العمل إلا بها. فإن امتزجت بغير تلك النية أو عدمت ارتباط النية بها بطلت، وكذلك الصلاة خاصة. فإنها قد دخل فيها عمل يبطلها وهو العبث، وكذلك الزكاة يعطيها بغير نية أنها زكاة. قال أبو محمد: وموت الموكل عزل لوكيله البتة. وموت الإمام بخلاف ذلك، وليس موته عزلاً لعماله حتى يعزلهم الإمام الوالي بعده، لأن مال الموكل قد انتقل إلى وراثة غيره. وقد قال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، ولأن رسول الله قد مات وله عمال باليمن والبحرين وغيرهما، فلم يختلف مسلمان في أن موته لم يكن عزلاً لمن ولى حتى عزل أبو بكر من عزل منهم. والقياس باطل وهاتان مسألتان قد فرق بينهما النص والإجماع، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.