ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الرابع/فصل في من قال ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة
وأما من قال: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف وزفر بن الهذيل العنبري ومحمد بن الحسن مولى بني شيبان، والحسن بن زياد اللؤلؤي.
وقول بكر بن العلاء: ليس لأحد أن يختار بعد التابعين من التاريخ. وقول القائل: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجراح الكلابي، وعبد الله بن المبارك مولى بني حنظلة ــــ فأقوال في غاية الفساد، وكيد الدين لا خفاء به، وضلال مغلق وكذب على الله تعالى، إذا نسبوا ذلك إليه أو دين جديد أتونا به من عند أنفسهم ليس من دين محمد في شيء وهي كما نرى متدافعة متفاسدة، ودعاوى متفاضحة متكاذبة ليس بعضها بأولى من بعض ولا بعضها بأدخل في الضلالة والحمق من بعض.
ويقال لبكر من بينهم فإذاً لا يجوز الاختيار بعد المائتين عندك ولا غيرك، فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المائتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين، أو من هو مثله من فقهاء الأمصار أو من جاء بعد متعقباً عليه وعلى غيره، ممن هو أعلم منه بالسنن وأصح نظراً أو مثله، كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وغيرهما.
ويقال له أيضاً: إن قولك هذا السخيف الدال على ضلالة قائله وجهالته وابتداعه ما لم يقله مسلم قبله يوجب أن أشهب وابن الماجشون ومطرف بن عبد الله وأصبغ بن الفرج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعدل وهم أئمتك بإقرارك كان لهم أن يختاروا إلى أن انسلخ ذو الحجة من سنة مائتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومائتين وغابت الشمس من تلك حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقاً لهم قبل ذلك من الاختيار فهل سمع بأسخف من هذا الاختلاط وليت شعري ما الفرق بين سنة مائتين وبين سنة ثلاثمائة أو أربعمائة أو غيرها من سني التاريخ.
ويقال للحنفيين: أليس من عجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والقول في دين الله تعالى بالظن الكاذب، والرأي الفاسد، والشرع لما لم يأذن به الله تعالى لأبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد بن الحسن واللؤلؤي على جهلهم بالسنن والآثار، وفساد رأيهم وقياساتهم التي لم يوفقوا منها إلا لكل بارد متخاذل، والتي هي في المضاحك أدخل منها في الجد، ويجعلون تلك الأقوال الفاسدة خلافاً على القرآن وسنن رسول الله ثم لا يجيزون الأخذ بالسنن الثابتة للشافعي، ولا لأحمد بن حنبل، ولا لإسحاق بن راهويه، وداود بن علي، وأبي ثور، ومحمد بن نصر ونظرائهم، على سعة علم هؤلاء بالسنن، ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم، وعلى تبحرهم في معرفة أقوال الصحابة والتابعين، وثقة نظرهم. ولطف استخراجهم للدلائل.
وأن من قال منهم بالقياس فقياسه من أعذب القياس وأبعده من ظهور الفساد فيه وأجرأه على علته مع شدة ورع هؤلاء، وما منحهم اللـه تعالى من محبة المؤمنين لـهم، وتعظيم المسلمين علمائهم وعامتهم لـهم، وحلول أبي حنيفة وأصحابه في صدر هذه المنازل. فإن موّهوا بتقدم عصر أبي حنيفة، وموّه المالكيون بتقديم عصر مالك وتأخر عصر من ذكرنا، قلنا: هذا عجب آخر، وقد علمنا وعلمتم أنه لم يكن بين آخر وقت فتيا أبي حنيفة وأول أوقات الشافعي إلا نحو ثلاثين عاماً، ولم يكن بين آخر فتيا مالك وبين أول فتيا الشافعي إلا عام أو نحوه ولعلـه قد أفتى في حياة مالك. وقد أفتى الشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن واللؤلؤي أحياء وكذلك أفتى المغيرة وابن كنانة وابن القاسم وابن وهب وأشهب وابن الماجشون أحياء، ومات الشافعي وأشهب في شهر واحد، ومات الحسن بن زياد بعدهم بنحو عام ومات الماجشون ومطرف بعدهما بأعوام كثيرة.
فليت شعري من المبيح لبعضهم ما حجزوه عن بعض؟ ثم لم يكن بين آخر فتيا مالك وأول وقت فتيا أحمد وإسحاق وأبي ثور إلا عشرين عاماً أفي مدة عشرين عاماً يغلق باب الاختبار؟ تعالى اللـه عن قول المجانين، وكل هؤلاء أفتى والحسن بن زياد حي. فما الذي أباح للحسن بن زياد ولابن القاسم من الفتيا، ما لم يبح لأحمد وإسحاق وأبي ثور؟ وباللـه إن بينهم وبين ذينك من التفاوت في العلم أكثر مما بين المشرق والمغرب ثم أفتى داود بن علي ومحمد بن نصر ونظراؤهما مع أحمد وإسحاق وأبي ثور، ثم هكذا ينشأ العلماء ويموت العلماء عاماً عاماً، وما هو إلا ليلة ثم جمعة ثم شهر إلى شهر وعام إلى عام، حتى يرث اللـه الأرض ومن عليها، فمن حد حداً أو وقف الاختيار عليه ومنعه بعده فقد سخف وكذب واخترع دين ضلالة وقال بلا علم، ونعوذ باللـه العظيم من مثل هذا. قال اللـه عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } وقال تعالى: {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } فلم يخص عز وجل عصراً من عصر، ولا إنساناً من إنسان. فمن خالف هذا فهو مضل داخل في أعداد النوكى لإطلاقه لسانه بالتخليط.
والحق في هذا الذي لا يحل خلافه، فهو إن خالف ما جاء به رسول الله عن ربه تعالى في القرآن وفي السنن المبينة للقرآن، لا يحل لأحد أصلاً ولا يجوز أن يعد قول قائل ــــ كائناً من كان ــــ خلافاً لذلك، بل يطرح على كل حال. وأما خلاف أبي حنيفة ومالك ففرض على الأمة، لا نقول مباح، بل فرض لا يحل تعديه، لأنهما لا يخلو أن في كل فتيا لهم من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلاً، إما موافقة النص من القرآن والسنة الثابتة، وإما مخالفة النص كذلك، فإن كانت فتياهما أو فتيا أحدهما موافقة نص القرآن أو السنة، فالمتبع هو القرآن والسنة لا قول أبي حنيفة ولا قول مالك، لأن الله تعالى لم يأمرنا قط باتباعهما فمتبعهما مخالف لله تعالى، وإن كانت فتياهما مخالفة للنص، فلا يحل لأحد اتباع ما خالف نص القرآن والسنة، وهكذا نقول في كل مفت بعد رسول الله . أنبأنا محمد بن سعيد بن نبات، نا أحمد بن عون الله، نا قاسم بن أصبغ، نا محمد بن عبد السلام الخشني، نا محمد بن المثنى، نا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: قال معاوية لابن عباس: أنت على ملة علي؟ قال: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة النبي . نا يونس بن عبد الله بن مغيث، نا يحيى بن عابد، نا الحسين بن أحمد بن أبي خليفة، نا أبو جعفر أحمد بن محمد الطحاوي، نا يوسف بن يزيد القراطيسي، نا سعيد بن منصور، نا هشيم عن المغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي قال: كان يكره أن يقال سنة أبي بكر وعمر، ولكن سنة الله عز وجل وسنة رسوله . نا حمام بن أحمد، نا عبد الله بن محمد بن علي الباجي، نا عبد الله بن يونس المرادي، نا بقي بن مخلد، نا أبو بكر بن أبي شيبة، نا محمد بن بشر، نا عبد الله بن الوليد، نا عبيد بن الحسين. قال: قالت الخوارج لعمر بن عبد العزيز: تريد أن تسير فينا بسيرة عمر بن الخطاب، قال عمر بن عبد العزيز: قاتلهم الله، ما أردت دون رسول الله إماماً.
فهؤلاء الصحابة والتابعون فيمن تعلق المخالفون؟ فإن موهوا، بكثرة أتباع أبي حنيفة ومالك وبولاية أصحابهما القضاء فقد قدمنا أن الكثرة لا حجة فيها ويكفي من هذا قول الله عز وجل: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقال: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } وقال رسول الله : «إِنَّ هَذا الدِّينَ بَدَأَ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» وأنذر عليه السلام بدروس العلم وظهور الجهل. فلعمري لئن كان العلم ما هم عليه من حفظ رأي أبي حنيفة ومالك والشافعي فما كان العلم قط أكثر مما هو منه الآن، وهيهات: إذا هبطتْ نجرانَ من رملٍ عالج فقولا لها ليس الطريُق هنالك ولكن الحق والصدق هو ما أنذر به رسول الله من دروس العلم والذي درس هو اتباع القرآن والسنن، فهذا هو الذي قلَّ بلا شك وأصحابه هم الغرباء القليلون، جعلنا الله منهم ولا عدا بنا عنهم، وثبتنا في عدادهم، وأحشرنا في سوادهم. آمين آمين. وأما ولايتهم القضاء فهذه أخزى وأندم، وما عناية جورة الأمراء، وظلمة الوزراء خلة محمودة ولا خصلة مرغوب فيها في الآخرة، وأولئك القضاة وقد عرفناهم إنما ولاهم الطغاة العتاة من ملوك بني العباس وبني مروان، بالعنايات والتزلف إليهم عند دروس الخير وانتشار البلاء وعودة الخلافة ملكاً عضوضاً وانبراء على أهل الإسلام وابتزازاً للأمة أمرها بالغلبة والعسف، فأولئك القضاة هم مثل من ولاهم من المبطلين سنن الإسلام، المحيين لسنن الجور والمكر والقبالات وأنواع الظلم وحل عرى الإسلام، وقد علمنا أحوال أولئك القضاة الذين يأخذون دينهم عنهم، وكيف كانوا في مشاهدة إظهار البدع من المحنة في القرآن بالسيف والسياط والسجن والقيد والنفي ثم سائر ما كانوا يتشاهدونه معهم على ما استعانوا هم عليه من تسمية أمور ملكهم، فمثل هؤلاء لا يتكثر بهم وإنما كان أصل ذلك تغلب أبي يوسف على هارون الرشيد وتغلب يحيى بن يحيى على عبد الرحمن بن الحكم فلم يقلد للقضاء شرقاً وغرباً إلا من أشار به هذان الرجلان واعتنيا به، والناس حراص على الدنيا فتلمذ لهما الجمهور، لا تديناً لكن طلباً للدنيا، وولاية القضاء والفتيا، والتديك على الجيران في المدن والأرياض والقرى، واكتساب المال بالتسمي بالفقه.
هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره فاضطرت العامة إليهم في أحكامهم وفتياهم وعقودهم ففشا المذهبان فشوّاً طبق الدنيا. قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ } وقال رسول الله : «حُفَّت الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَواتِ» وصار من خالفهم مقصوداً بالأذى مطلوباً في دمه أو مهجوراً مرفوضاً إن عجزوا عن أذاه لمنزلة له عند السلطان أو لكفه للسانه وسدّه لبابه إذ وسعته التقية والصبر صبر.
وكذلك إفريقية كان الغالب فيها السنن والقرآن إلى أن غلب أسد بن الفرات بن أبي حنيفة، ثم ثار عليهم سحنون بن أبي مالك فصار القضاء فيهم دولاً، يتصاولون على الدنيا تصاول الفحول على الشول إلى أن تولى القضاء بها بنو هاشم الخيار، وكان مالكيّاً فتوارثوا القضاء كما تورث الضياع فرجعوا كلهم إلى رأي مالك طمعاً في الرياسة عند العامة فقط. هذا أمر لا يقدر أحد على إنكاره، قرب إلينا داء الأمم قبلنا. كما قال رسول الله : «إِنَّنا سَنَرْكَبُ سُنَنَ مَنْ قَبْلِنا» . فقيل: اليهود والنصارى يا رسول الله ؟ قال: «فَمَنْ إِذاً» وهذا مما أنذر به رسول الله ، فهو من معجزات نبوته وبراهينه عليه السلام، وهكذا قلدت هاتان الطائفتان أحبارهم وأساقفتهم فحملوهم على آرائهم. قال أبو محمد: وتكلموا أيضاً في معنى نسبوه إلى الإجماع، وهو أن يختلف المسلمون في مسألتين على أقوال، فيقوم برهان من النص على صحة أحد تلك الأقوال في المسألة الواحدة. فقال أبو سليمان: إنه برهان على صحة قولهم في المسألة الأخرى، وخالفه في ذلك ابنه أبو بكر وأبو الحسن بن المغلس وجمهور أصحابنا، وقول أبي سليمان في هذه المسألة خطأ لا خفاء به، لأنه قول بلا برهان ثم يجب لو صح هذا أن يكون صواب من أصحاب في مسألة برهاناً على أنه مصيب في كل مسألة قالها، وهذا لا يخفى على أحد بطلانه، وما ندري كيف وقع لأبي سليمان هذا الوهم الظاهر الذي لا يشكل؟.
وتكلموا أيضاً في معنى نسبة هذا الإجماع وهو أن يصح إجماع الناس، على أن حكم أمر كذا كحكم أمر كذا، ثم اختلفوا فمن مانع لا من موجب، ومن مبيح لكليهما، أو من موجب حكماً في كليهما، فقال برهان من النص على حكم ما جاء في إحدى المسألتين، فواجب أن يكون حكم الأخرى كحكمها لصحة الإجماع على أن حكمهما سواء. قال أبو محمد: لو أمكن ضبط جميع أقوال علماء جميع أهل الإسلام، حتى لا يشذ منها شيء لكان هذا حكماً صحيحاً، ولكن لا سبيل لضبط ذلك البتة، وغير ما قدمنا مما لا يكون مسلماً من لم يقل به، وحتى لو أمكن معرفة قول العالم، فقد كان يمكن رجوعه عن ذلك القول إذا ولى عنه السائل ليعرف قول غيره فوضح أنه لا سبيل البتة، ولا إمكان أصلاً في حصر أقوال جميع علماء أهل الإسلام في فتيا خارجة عن الجملة التي ذكرنا. قال أبو محمد: ونحن في غنى فائض ولله الحمد عن هذا التكلف. وفي مناديح رحبة في هذا التعسف بنصوص القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله ، فلا سبيل إلى وجود شرع لم ينص على حكمه والحمد لله رب العالمين.
والمتكلمون في هذه المسألة حكمهم فيها بالمساقاة والمزارعة على الثلث والربع فإنهم قالوا: قد اختلف الناس في ذلك، فمن مانع من المساقاة أو المزارعة جملة، ومن مبيح لها جملة، ثم صحّ النص بإباحتها عن النصف، وقد صحّ الإجماع على أن حكمها أقل من النصف، وأكثر من النصف كالحكم في النصف. قال أبو محمد: ما نحتاج إلى هذه الشغاب الحرجة، والدعاوى المعوجة، بل نقول: إن رسول الله أباح لأصحاب الضياع في تلك المعاملة النصف، والمعاملين النصف، فدخلها دون النصف ضرورة بالمشاهدة فيما جعل لكل طائفة من النصف، فإذا تراضى الفريقان على أن يترك أحدهما مما يجعل له أخذه جزءاً مسمى، ويقتصر على بعضه. فذلك له، إذ كل أحد محكم في مثل ذلك مما جعل له كما لو وهب الوارث بعض ميراث لمن يشركه في الميراث أو لغيره، فإن قيل: فهلا أجزتم هذا بعينه في التراضي فيما يقع فيه الربا على خلاف التماثل؟ قلنا: لم يجز ذلك لأن النص الوارد في الربا مما عنى التماثل، وحظره وتوعدنا عليه، ولم يأت حكم نص المساقاة المزارعة والمواريث واشتراط مال المملوك المبيع والثمرة المأبورة بالمنع مما عدا ذلك، بل أباح الاشتراط للنصف أو الكل، ولم يمنع ما دخل في الإباحة المذكورة بالنص ما هو أقل من النصف أو الكل، وبالله التوفيق. قال أبو محمد علي: وكثيراً ما نحتج مع المخالفين بما أجمعوا عليه معنا، ثم ننكر عليهم الانتقال عنه إلى حكم آخر، كقولنا لمن حرم الماء وحكم بنجاسته في إبل حرام حله، فلم يغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، ومثل هذا كثير جدّاً فعاب ذلك علينا من لم يحصل وقال: قد جمعتم في هذه الطريق وجهين من عظيمين، أحدهما الاحتجاج بإجماعهم معكم، وأنتم تنكرون دعوى معنى الإجماع، وتجعلونها كذباً على الأمر أن يقال لكم: فما الذي أنكرتم على اليهود إذ قالوا: قد أجمعتم معنا على نبوة موسى عليه السلام وصحة التوراة وحكم السبت، وخالفناكم في نبوة محمد وصحة القرآن وشرائع دينكم. قال أبو محمد: فقلنا: ما تناقضنا في شيء من ذلك، وأما احتجاجنا على مخالفينا موافقتهم لنا على حكم ما، وإنكارنا عليه الخروج مما أجمع معنا عليه فإنما فعلنا ذلك لخروجه عما قد حكم بصحته إلى قول آخر بلا برهان من قرآن أو سنة فقط، فبيَّنا عليهم القول في الدين بلا برهان، وهذا حرام ومعيب بالقرآن والسنة، ولم ندع إجماعاً ولم نصححه، إنما ادعينا على الخصم ما ينكره من إجماعه معنا، بمعنى موافقته لنا فقط، فلاح الفرق بين الدعوى المكذوبة، وأما الذي أنكرناه على اليهود فإنه ضد المسألة التي تكلمنا فيها آنفاً وهو امتناع اليهود من الإقرار بما ظهر البرهان بصحته وأقوى من برهانهم على ما ادعوا أننا أجمعنا معهم عليه، وأنكرنا على المذكورين آنفاً أن قالوا قولاً بلا برهان، وخروجهم عما قد صحّ البرهان بصحته، وأنكرنا على اليهود تركهم القول بما قد صح برهانه، وتماديهم على ما قد صح البرهان ببطلانه وسلكنا بين الطائفتين طريق الحق وشارع النجاة، والحمد لله رب العالمين، وهو الثبات مع البرهان إذا ثبت، والانتقال معه إذا نقل فقط، وبالله تعالى التوفيق.