صيد الخاطر/فصل: ويل لمن عرف مرارة الجزاء ثم آثر لذة المعصية
فصل: ويل لمن عرف مرارة الجزاء ثم آثر لذة المعصية
[عدل]اعلم أن الجزاء بالمرصاد إن كانت حسنة أو كانت سيئة. ومن الإغترار أن يظن المذنب إذا لم ير عقوبة أنه قد سومح، وربما جاءت العقوبة بعد مدة. وقل من فعل ذنبا إلا وقوبل عليه، قال عز وجل: من يعمل سوءا يجز به. هذا آدم عليه السلام أكل لقمة فقد عرفتم ما جرى عليه. قال وهب بن منبه: [ أوحى الله تعالى إليه ألم أصنعك لنفسي، وأحللتك داري، وأسجدت لك ملائكتي، فعصيت أمري، ونسيت عهدي؟ ] وعزتي لو ملأت الأرض كلهم مثلك، يعبدون يسبحون في الليل والنهار ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين. فنزع جبريل التاج عن رأسه، وحل ميكائيل الإكليل عن جبينه، وجذب بناصيته فأهبط. فبكى آدم ثلاث مائة عام على جبل الهند تجري دموعه في أودية جبالها، فنبتت بتلك المدامع أشجار طيبكم هذا. وكذلك داود عليه السلام، نظر نظرة فأوجبت عتابه وبكاءه الدائم، حتى نبت العشب من دموعه. وأما سليمان عليه السلام فإن قوما إختصموا إليه فكان هواه مع أحد الخصمين، فعوقب وتغير في أعين الناس، وكان يقول: [ أطعموني فلا يطعم ]. وأما يعقوب عليه السلام، فإنه يقال إنه ذبح عجلا بين يدي أمه، فعوقب بفراق يوسف. وأما يوسف عليه السلام فأخذ بالهم، وكل واحد من إخوته ولد له إثنا عشر ولدا، ونقص هو ولدا لتلك الهمة. وأما أيوب عليه السلام فإنه قصر في الإنكار على ملك ظالم، لأجل خيل كانت في ناحيته، فابتلى. وأما يونس عليه السلام فخرج عن قومه بغير إذن فالتقمه الحوت. وأوحى الله عز وجل إلى أرميا: إن قومك تركوا الأمر الذي أكرمت به أباءهم، وعزتي لأهيجن عليهم جنودا لا يرحمون بكائهم. فقال: يا رب هم ولد خليلك إبراهيم، وأمة صفيك موسى، وقوم نبيك داود، فأوحى الله تعالى إليه: إنما أكرمت إبراهيم وموسى وداود بطاعتي، ولو عصوني لأنزلتهم منازل العاصين. ونظر بعض العباد شخصا مستحسنا، فقال له شيخه: ما هذا النظر؟ ستجد غبه، فنسى القرآن بعد أربعين سنة. وقال آخر: قد عبت سخصا قد ذهب بعض أسنانه، فانتثرت أسناني. ونظرت إلى امرأة لا تحل، فنظر إلى زوجتي من لا أريد. وكان بعض العاقين ضرب أباه وسحبه إلى مكان، فقال له الأب: حسبك إلى ههنا سحبت أبي. وقال ابن سيرين: عيرت رجلا بالإفلاس فأفلست. ومثل هذا كثير. ومن أعجب ما سمعت فيه عن الوزير ابن حصير الملقب بالنظام أن المقتفي غضب عليه وأمر بأن يؤخذ منه عشرة آلاف دينار. فدخل عليه أهله محزونين وقالوا له: من أين لك عشرة آلاف دينار؟ فقال: ما يؤخذ مني عشرة ولا خمسة ولا أربعة. قالوا: من أين لك؟ قال: إني ظلمت رجلا فألزمته ثلاثة آلاف فما يؤخذ مني أكثر منها. فلما أدى ثلاثة آلاف دينار وقع الخليفة بإطلاقه ومسامحته في الباقي. وأنا أقول عن نفسي: ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكننني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني. ربما تأولت في بعد، فأرى العقوبة. فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب، فقل أن يسلم منه. وليجتهد في التوبة، فقد روي في الحديث: ما من شيء أسرع لحاقا بشيء من حسنة حديثة لذنب قديم. ومع التوبة يكون خائفا من المؤاخذة متوقعا لها، فإن الله تعالى قد تاب على الأنبياء عليهم السلام. وفي حديث الشفاعة يقول آدم: ذنبي، ويقول إبراهيم وموسى: ذنبي. فإن قال قائل: قوله تعالى: من يعمل سوءا يجز به خبر، فهو يقتضي ألا يجاوز عن مذنب، وقد عرفنا قبول التوبة والصفح عن الخاطئين. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن يحمل على من مات مصرا ولم يتب، فإن التوبة تجب ما قبلها. والثاني: أنه على إطلاقه، وهو الذي أختاره أنا وأستدل بالنقل والمعنى. أما النقل، فإنه لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله أو نجازي بكل ما نعمل؟ فقال: ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك البلاء؟ فذلك ما تجزون به. وأما المعنى فإن المؤمن إذا تاب وندم، كان أسفه على ذنبه في كل وقت أقوى من كل عقوبة. فالويل لمن عرف مرارة الجزاء الدائم، ثم آثر لذة المعصية لحظة.