صيد الخاطر/فصل: قدماء العلماء وهمتهم العالية
فصل: قدماء العلماء وهمتهم العالية
كانت همم القدماء من العلماء عالية، تدل عليها تصانيفهم التي هي زبدة أعمارهم. إلا أن أكثر تصانيفهم دثرت، لأن همم الطلاب ضعفت، فصاروا يطلبون المختصرات ولا ينشطون للمطولات. ثم إقتصروا على ما يدرسون به من بعضها، فدثرت الكتب ولم تنسخ. فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الإطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم، لا نرى فيهم ذا همة عالية فيقتدي بها المبتدي، ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد. فالله الله وعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم، وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال:
فاتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره، فكأني وقعت على كنز. ولقد نظرت في ثبت الكتب الموقوفة في المدرسة النظامية، فإذا به يحتوي على نحو ستة آلاف مجلد، وفي ثبت كتب أبي حنيفة، وكتب الحميدي، وكتب شيخنا عبد الوهاب وابن ناصر وكتب أبي محمد بن الخشاب وكانت أحمالا، وغير ذلك من كل كتاب أقدر عليه. ولو قلت أني طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعد في الطلب. فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم، ما لا يعرفه من لم يطالع. فصرت أستزري ما الناس فيه وأحتقر همم الطلاب والله الحمد.