صيد الخاطر/فصل: حديث ابن الجوزي عن نفسه
فصل: حديث ابن الجوزي عن نفسه
تأملت أحوال الناس في حالة علو شأنهم، فرأيت أكثر الخلق تبين خسارتهم حينئذ. فمنهم من بالغ في المعاصي من الشباب، ومنهم من فرط إكتساب العلم، ومنهم من أكثر من الإستمتاع باللذات. فكلهم نادم في حاله الكبر حين فوات الإستدراك لذنوب سلفت أو قوى ضعفت، أو فضيلة فاتت، فيمضي زمان الكبر في حسرات. فإن كانت للشيخ إفاقة من ذنوب قد سلفت قال: واأسفا على ما جنيت. وإن لم يكن له إفاقة صار متأسفا على فوات ما كان يلتذ به. فإما من أنفق عصر الشباب في العلم فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم. هذا مع وجود لذاته في الطلب الذي كان يتأمل به إدراك المطلوب. وربما كانت تلك الأعمال أطيب مما نيل منها،كما قال الشاعر:
اهتز عند تمني وصلها طربا ورب أمنية أحلى من الظفر
ولقد تاملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذبين أنفقوا أعمالهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه. ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم. وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم. فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟ فقلت له:أيها الجاهل، تقطيع الأيدي لا وقع له عند رؤية يوسف. وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جرى الله المسير إليه خيرا وإن ترك المطايا كالمزاد
ولقد كنت في حلاوة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو. كنت زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء. فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم. فأثمر ذلك عندي أني عرفت بكثرة سماعي لحديث الرسول ﷺ وأحواله وآدابه، وأحوال أصحابه وتابعيهم، فصرت في معرفة طريقه كابن أجود. وأثمر ذلك عندي من المعاملة ما لا يدري بالعلم، حتى أنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي العلم من خوف الله عز وجل. ولولا خطايا لا يخلو منها البشر، لقد كنت أخاف على نفسي من العجب. غير أنه عز وجل صانني، وعلمني، وأطلعني من أسرار العلم على معرفة، وإيثار الخلوة به، حتى إنه لو حضر معي معروف وبشر لرأيتهما زحمة. ثم عاد فغمسني في التقصير والتفريط حتى رأيت أقل الناس خيرا مني. وتارة يوقظني لقيام الليل ولذة مناجاتة، وتارة يحرمني ذلك مع سلامة بدني. ولولا بشارة العلم بأن هذانوع تهذيب وتأديب لخرجت إما إلى العجب عند العمل، وإما إلى اليأس عند البطالة. لكن رجائي في فضله قد عادل خوفي منه. وقد يغلب الرجاء بقوة أسبابه، لأني رأيت أنه قد رباني منذ كنت طفلا فإن أبي مات وأنا لا أعقل، والأم لم تلتفت إلي. فركز في طبعي حب العلم. وما يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب، حتى قوم أمري. وكم قد قصدني عدو فصده عني. وإذ رأيته قد نصرني وبصرني ودافع عني، ووهب لي، قوى رجائي في المستقبل بما قد رأيت في الماضي. ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف. وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس. وكم سالت عين مختبر بوعظي لم تكن تسيل. ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام. وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي. ولقد جلست يوما فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه، أو دمعت عيناه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجونا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غدا فلا تعلمهم بعذابي، صيانة لكرمك لا لأجل، لئلا يقولوا عذب من دل عليه. إلهي قد قيل لنبيك ﷺ: إقتل ابن أبي المنافق، فقال: لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. إلهي فأحفظ حسن عقائدهم في بكرمك أن تعلمهم بعذاب الدليل عليك. حاشاك والله يارب من تكدير الصافي.
لا تبر عودا أنت ريشته حاشا لباني الجود أن ينقضا
لا تعطش الزرع الذي نبته بصوب إنعامك قد روضا