صيد الخاطر/فصل: ولا تنس نصيبك من الدنيا
فصل: ولا تنس نصيبك من الدنيا
تأملت أحوال الصوفية والزهاد، فرأيت أكثرها منحرفا عن الشريعة، بين جهل بالشرع، وابتداع بالرأي. يستدلون بآيات لا يفهمون معناها، وبأحاديث لها أسباب، وجمهورها لا يثبت. فمن ذلك، أنهم سمعوا في القرآن العزيز: وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة ثم سمعوا في الحديث: للدنيا أهون على الله من شاة ميتة على أهلها. فبالغوا في هجرها من غير بحث عن حقيقتها. وذلك أنه ما لم يعرف حقيقه الشيء فلا يجوز أن يمدح ولا أن يذم. فإذا بحثنا عن الدنيا رأينا هذه الأرض البسيطة التي جعلت قرارا للخلق، تخرج منها أقواتهم، ويدفن فيها أمواتهم. ومثل هذا لا يذم لموضع المصلحة فيه ورأينا ما عليها من ماء، وزرع، وحيوان، كله لمصالح الآدمي، وفيه حفظ لسبب بقائه. ورأينا بقاء الآدمي سببا لمعرفة ربه، وطاعته إياه، وخدمته، وما كان سببا لبقاء العارف العابد، يمدح ولا يذم، فبان لنا أن الذم إنما هو لأفعال الجاهل، أو العاصي في الدنيا، فإنه إذا اقتنى المال المباح وأدى زكاته، لم يلم. فقد علم ما خلف الزبير، وابن عوف وغيرهما، وبلغت صدقة علي ـ رضي الله عنه ـ أربعين ألفا. وخلفت ابن مسعود تسعين ألفا، وكان الليث ابن سعد يشتغل كل سنة عشرين ألفا، وكان سفيان يتجر بمال، وكان ابن مهدي يشتغل كل سنة ألفى دينار. وإن أكثر من النكاح والسراري، كان ممدوحا لا مذموما فقد كان للنبي ﷺ زوجات، وسراري. وجمهور الصحابة، كانوا على الإكثار من ذلك. وكان لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أربع حرائر، وتسع عشرة أمة. وتزوج ولده الحسن، نحوا من أربعمائة. فإن طلب التزوج للأولاد، فهو الغاية في التعبد، وإن أراد التلذذ فمباح، يندرج فيه من التعبد ما لا يحصى، من إعفاف نفسه والمرأة، إلى غير ذلك. وقد أنفق موسى ـ عليه السلام ـ من عمره الشريف عشر سنين في مهر بنت شعيب. فلولا أن النكاح من أفضل الأشياء، لما ذهب كثير من زمان الأنبياء فيه وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: [ خيار هذه الأمة أكثرها نساء ]. وكان يطأ جارية له، وينزل في أخرى. وقالت سرية الربيع بن خيثم: كان الربيع يعزل. وأما المطعم، فالمراد منه تقوية هذا البدن لخدمة الله عز وجل، وحق على ذي الناقة أن يكرمها لتحمله. وقد كان النبي ﷺ، يأكل ما وجد اللحم أكله ويأكل لحم الدجاج، وأحب الأشياء إليه الحلوى والعسل، وما نقل عنه أنه امتنع من مباح. وجيء علي رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه، وقال: [ ما هذا ]؟ قالوا: يوم النوروز، فقال: [ نوروزنا كل يوم ]. وإنما يكره الأكل فوق الشبع، واللبس على وجه الاختيال والبطر. وقد اقتنع أقوام بالدون من ذلك، لأن الحلال الصافي لا يكاد يمكن فيه تحصيل المراد، وإلا فقد لبس النبي ﷺ حلة اشتريت له بسبعة وعشرين بعيرا. وكان لتميم الداري حلة اشتريت بألف درهم، يصلي فيها بالليل. فجاء أقوام، فأظهروا التزهد، وابتكروا طريقة زينها لهم الهوى، ثم تطلبوا لها الدليل. وإنما ينبغي للإنسان أن يتبع الدليل، لا أن يتبع طريقا ويتطلب دليلها. ثم انقسموا: فمنهم، متصنع في الظاهر، لبث الشري في الباطن، يتناول في خلواته الشهوات، وينعكف على اللذات. ويري الناس بزيه أنه متصوف متزهد، وما تزهد إلا القميص، وإذا نظر إلى أحواله فعنده كبر فرعون. ومنهم: سليم الباطن، إلا أنه في الشرع جاهل. ومنهم: من تصدر، وصنف، فاقتدى به الجاهلون في هذه الطريقة، وكانوا كعمي اتبعوا أعمى. ولو أنهم تلمحوا الأمر الأول، الذي كان عليه الرسول ﷺ والصحابة رضي الله عنهم، لما زلوا. ولقد كان جماعة من المحققين،لا يبالون بمعظم في النفوس إذا حاد عن الشريعة، بل يوسعونه لوما. فنقل عن أحمد أنه قال له المروذي: ما تقول في النكاح؟ فقال: [ سنة النبي ﷺ ]. فقال: فقد قال إبراهيم. قال: فصاح بي وقال: جئتنا ببنيات الطريق؟ وقيل له: إفي سريا السقطي قال: لما خلق الله تعالى الحروف، وقف الألف وسجدت الباء، فقال: نفروا الناس عنه. واعلم أن المحقق لا يهوله اسم معظم، كما قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أتظن أنا نظن أن طلحة والزبير كانا على الباطل؟ فقال له: [ إن الحق لا يعرف بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله ]. ولعمري أنه قد وقر في النفوس تعظيم أقوام، فإذا نقل عنهم شيء فسمعه جاهل بالشرع قبله، لتعظيمهم في نفسه. كما ينقل عن أبي يزيد رضي الله عنه، أنه قال: [ تراعنت علي نفسي فحلفت لا أشرب الماء سنة ]. وهذا إذا صح عنه، كان خطأ قبيحا. وزلة فاحشة، لأن الماء ينفذ الأغذية إلى البدن، ولا يقوم مقامه شيء. فإذا لم يشرب فقد سعى في أذى بدنه. وقد كان يستعذب الماء لرسول الله ﷺ. أفترى هذا فعل من يعلم أن نفسه ليست له، وأنه لا يجوز التصرف فيها إلا عن إذن مالكها. وكذلك ينقلون عن بعض الصوفية، أنه قال: [ سرت إلى مكة على طريق التوكل حافيا، فكانت الشوكة تدخل في رجلي فأحكها بالأرض ولا أرفعها، وكان علي مسح، فكانت عيني إذا آلمتني أدلكها بالمسح فذهبت إحدى عيني ]. وأمثال هذا كثير، وربما حملها القصاص على الكرامات، وعظموها عند العوام، فيخايل لهم أن فاعل هذا أعلى مرتبة من الشافعي، وأحمد. ولعمري، إن هذا من أعظم الذنوب أقبح العيوب، لأن الله تعالى قال ولا تقتلوا أنفسكم. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن لنفسك عليك حقا. وقد طلب أبو بكر رضي الله عنه، في طريق الهجرة للنبي ﷺ، ظلا، حتى رأى صخرة ففرش له في ظلها. وقد نقل عن قدماء هذه الأمة بدايات هذا التفريط، وكان سببه من وجهين: أحدهما: الجهل بالعلم، والثاني: قرب العهد بالرهبانية. وقد كان الحسن يعيب فرقد السبخي، ومالك بن دينار، في زهدهما فرأى عنده طعام فيه لحم، فقال: [ لا رغيفي مالك، ولا صحنا فرقد ]. ورأى على فرقد كساء، فقال: [ يا فرقد إن أكثر أهل النار أصحاب الأكسية ]. وكم قد زوق قاص مجلسه بذكر أقوام خرجوا إلى السياحة بلا زاد ولا ماء وهو لا يعلم أن هذا من أقبح الأفعال، وأن الله تعالى لا يجرب عليه. فربما سمعه جاهل من التائبين فخرج فمات في الطريق، فصار للقائل نصيب من إثمه. وكم يروون عن ذي النون: أنه لقي امرأة في السياحة فكلمها وكلمته، وينسون الأحاديث الصحاح: لا يحل لامرأة أن تسافر يوما وليلة إلا بمحرم. وكم ينقلون: أن أقواما مشوا على الماء، وقد قال إبراهيم الحربي: [ لا يصح أن أحدا مشى على الماء قط ]. فإذا سمعوا هذا قالوا: أتنكرون كرامات الأولياء الصالحين؟ فنقول: لسنا من المنكرين لها، بل نتبع ما صح، والصالحون هم الذين يتبعون الشرع، ولا يتعبدون بآرائهم. وفي الحديث: إن بني إسرائيل شددوا فشدد الله عليهم. وكم يحثون على الفقر حتى حملوا خلقا على إخراج أموالهم، ثم آل بهم الأمر إما إلى التسخط عند الحاجة، وإما إلى التعرض بسؤال الناس. وكم تأذى مسلم بأمرهم الناس بالتقلل، وقد قال النبي ﷺ: ثلث طعام، وثلث شراب، وثلث نفس. فما قنعوا حتى أمروا بالمبالغة في التقلل. فحكى أبو طالب المكي في [ قوت القلوب ]: أن فيهم من كان يزن قوته بكربة رطبة، ففي كل ليلة يذهب من رطوبتها قليل، وكنت أنا ممن اقتدى بقوله في الصبا، فضاق المعي وأوجب ذلك، مرض سنين. أفترى هذا شيئا تقتضيه الحكمة، أو ندب إليه الشرع؟ وإنما مطية الأدمي قواه، فإذا سعى في تقليلها، ضعف عن العبادة. فإنا لو دخلنا ديار الروم، فوجدنا أثمان الخمور وأجرة الفجور، كان لنا حلالا بوصف الغنيمة. أفتريد حلالا، على معني أن الحبة من الذهب لم تنتقل مذ خرجت من المعدن، على وجه لا يجوز؟ فهذا شيء لم ينظر فيه رسول الله ﷺ. أو ليس قد سمعت أن الصدقة عليه حرام، فلما تصدق على بريرة بلحم فأهدته، جاز له آكل تلك العين لتغير الوصف. وقد قال أحمد بن حنبل [ أكره التقلل من الطعام، فإن أقواما ما فعلوه فعجزوا عن الفرائض ]. وهذا صحيح. فإن المتقلل لا يزال يتقلل إلى أن يعجز عن النوافل ثم الفرائض، ثم يعجز عن مباشرة أهله وإعفافهم، وعن بذل القوى في الكسب لهم، وعن فعل خير قد كان يفعله. ولا يهولنك ما تسمعه من الأحاديث التي تحث على الجوع، فإن المراد بها إما الحث على الصوم وإما النهي عن مقاومة الشبع. فأما تنقيص المطعم على الدوام، فمؤثر في القوى، فلا يجوز. ثم في هؤلاء المذمومين من يرى هجر اللحم، والنبي ﷺ كان يود أن يأكله كل يوم. واسمع مني بلا محاباة: لا تحتجن علي بأسماء الرجال، فتقول: قال بشر، وقال إبراهيم بن أدهم، فإن من احتج بالرسول ﷺ وأصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ أقوى حجة. على أن لأفعال أولئك وجوها نحملها عليهم بحسن الظن. ولقد ذاكرت بعض مشايخنا ما يروى عن جماعة من السادات، أنهم دفنوا كتبهم فقلت له: ما وجه هذا؟ فقال: أحسن ما نقول أن نسكت، يشير إلى أن هذا جهل من فاعله. وتأولت أنا لهم، فقلت: لعل ما دفنوا من كتبهم، فيه شيء من الرأي، فما رأوا أن يعمل الناس به. ولقد روينا في الحديث، عن أحمد بن أبي الحواري: أنه أخذ كتبه فرمى بها في البحر، وقال: [ نعم الدليل كنت. ولا حاجة لنا إلى الدليل بعد الوصول إلى المدلول ]. وهذا ـ إذا أحسنا به الظن ـ قلنا: كان فيها من كلامهم ما لا يرتضيه. فأما إذا كانت علوما صحيحة، كان هذا من أفحش الإضاعة، وأنا وإن تأولت لهم هذا، فهو تأويل صحيح في حق العلماء منهم، لأنا قد روينا عن سفيان الثوري: أنه قد أوصى بدفن كتبه، وكان ندم على أشياء كتبها، عن قوم، وقال: حملني شهوة الحديث ـ وهذا لأنه كان يكتب عن الضعفاء والمتروكين، فكأنه لما عسر عليه التمييز أوصى بدفن الكل. وكذلك من كان له رأي من كلامه ثم رجع عنه، جاز أن يدفن الكتب التي فيها ذلك، فهذا وجه التأويل للعلماء. فأما المتزهدون، الذين رأوا صورة فعل العلماء، ودفنوا كتبا صالحة لئلا تشغلهم عن التعبد، فإنه جهل منهم، لأنهم شرعوا في إطفاء مصباح يضيء لهم، مع الإقدام على تضييع مال لا يحل تضييعه. ومن جملة من عمل بواقعه في دفن كتب العلم، يوسف بن أسباط، ثم لم يصبر عن التحديث فخلط، فعد في الضعفاء. أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك، قال: أخبرنا محمد بن المظفر الشامي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد العتيقي، قال: حدثنا يوسف بن أحمد، قال: حدثنا محمد ابن عمرو العقيلي قال: حدثنا محمد بن عيسى، قال: أخبرنا أحمد بن خالد الخلال. قال: سمعت شعيب بن حرب يقول: قلت ليوسف بن أسباط: كيف صنعت بكتبك؟ قال: [ جئت إلى الجزيرة، فلما نضب الماء دفنتها عليها، فذهبت ]. قلت: ما حملك على ذلك؟ قال: [ أردت أن يكون الهم هما واحدا ]. قال العقيلي: وحدثني آدم، قال: سمعت البخاري قال: قال صدقة: [ دفن يوسف بن أسباط كتبه، وكان يغلب عليه الوهم فلا يجيء كما ينيغي ]. قال المؤلف: قلت: الظاهر أن هذه كتب علم ينفع، ولكن قلة العلم أوجبت هذا التفريط، الذي قصد به الخير، وهو شر. فلو كانت كتبه من جنس كتب الثوري، فإن فيها، عن ضعفاء ولم يصح له التمييز، قرب الحال. إنما تعليله يجمع الهم هو الدليل على أنها ليست كذلك، فانظر إلى قلة العلم، ماذا تؤثر مع أهل الخير. ولقد بلغنا في الحديث عن بعض من نعظمه، ونزوره، أنه كان على شاطئ دجلة، فبال ثم تيمم، فقيل له: الماء قريب منك، فقال: خفت ألا أبلغه.. وهذا وإن كان يدل على قصر الأمل، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تلاعبوا به، من جهة أن التيمم، إنما يصح عند عدم الماء. فإذا كان الماء موجودا كان تحريك اليدين بالتيمم عبثا. وليس من ضروري وجود الماء أن يكون إلى جانب المحدث، بل لو كان على أزرع كثيرة، كان موجودا فلا فعل للتيمم ولا أثر حينئذ. ومن تأمل هذه الأشياء، علم أن فقيها واحدا ـ وإن قل أتباعه وخفت إذا مات أشياعه ـ أفضل من ألوف تتمسح العوام بهم تبركا، ويشيع جنائزهم ما لا يحصى. وهل الناس إلا صاحب أثر نتبعه، أو فقيه يفهم مراد الشرع ويفتي به؟ نعوذ بالله من الجهل، وتعظيم الأسلاف تقليدا لهم بغير دليل. فإن من ورد المشرب الأول، رأى سائر المشارب كدرة. والمحنة العظمى مدائح العوام، فكم غرت..... كما قال علي رضي الله عنه: [ ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئا ]. ولقد رأينا وسمعنا من العوام، أنهم يمدحون الشخص، فيقولون: لا ينام الليل، ولا يفطر النهار، ولا يعرف زوجة، ولا يذوق من شهوات الدنيا شيئا، قد نحل جسمه، ودق عظمه حتى أنه يصلي قاعدا، فهو خير من العلماء الذين يأكلون ويتمتعون. ذلك مبلغهم من العلم، ولو [ فقهوا ] علموا أن الدنيا لو اجتمعت في لقمة فتناولها عالم يفتي عن الله، ويخبر بشريعته، كانت فتوى واحدة منه يرشد بها إلى الله تعالى خيرا وأفضل من عباده ذلك العابد باقي عمره. وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: [ فقيه واحد، أشد على إبليس من ألف عابد ]. ومن سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه. وإنما أمدح العاملين بالعم، وهم أعلم بمصالح أنفسهم. فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش، كأحمد بن حنبل. وكان فيهم، من يستعمل رقيق العيش، كسفيان الثوري، مع ورعه، ومالك مع تدينه، والشافعي مع قوة فقهه. ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه. فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه. وقد قالت رابعة: [ إن كان صلاح قلبك في الفالوذج، فكله ]. ولا تكون أيها السامع ممن يرى صور الزهد. فرب متنعم لا يريد التنعم وإنما يقصد المصلحة. وليس كل بدن يقوى على الخشونة، خصوصا من قد لاقى الكد وأجهده الفكر، وأمضه الفقر، فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجبا عليه من الرفق بها. فهذه جملة لو شرحتها بذكر الأخبار والمنقولات لطالت، غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري، والله ولي النفع برحمته.