صيد الخاطر/فصل: سلم لما لا تعلم
فصل: سلم لما لا تعلم
[عدل]من تفكر في عظمة الله عز وجل، طاش عقله، لأنه يحتاج أن يثبت موجودا لا أول لوجوده. هذا شيء لا يعرفه والحس، وإنما يقربه العقل ضرورة. وهو متحير بعد الإقرار، ثم يرى من أفعاله ما يدل على وجوده ثم تجري في أقداره أمور لولا ثبوت الدليل على وجوده لأوجبت الجحد. فإنه يفرق البحر لبني إسرائيل، وذلك شيء لا يقدر عليه سوى الخالق، ويصير العصا حية ثم يعيدها تلقف ما صنعوا ولا يزيد فيها شيء. فهل بعد هذا بيان؟ فإذا آمنت السحرة تركهم مع فرعون يصلبهم ولا يمنع، والأنبياء يبتلون بالجوع والقتل، وزكريا ينشر، ويحيى تقتله زانية، ونبينا ﷺ يقول كل عام: من يؤويني؟ من ينصرني؟ فيكاد الجاهل بوجود الخالق يقول: لو كان موجودا لنصر أولياءه. فينبغي للعاقل الذي قد ثبت عنده وجوده بالأدلة الظاهرة الجلية ألا يمكن عقله من الإعتراض عليه في أفعاله، لا يطلب لها علة. إذ قد ثبت أنه مالك وحكيم، فإذا خفي علينا وجه الحكمة في فعله، نسبنا ذلك العجز إلى فهومنا. وكيف لا وقد عجز موسى عليه السلام أن يعرف حكمة خرق السفينة، وقتل الغلام، فلما بان له حكمة ذلك الفساد في الظاهرة أقر. فلو قد بانت الحكمة في أفعال الخالق جحد العقل جحد موسى يوم الخضر. فمتى رأيت العقل يقول لم فأخرسه بأن تقول له: يا عاجز أنت لا تعرف حقيقة نفسك، فما لك والإعتراض على المالك؟ وربما قال العقل: أي فائدة في الابتلاء وهو قادر أن يثيب ولا بلاء؟ وأي غرض في تعذيب أهل النار وليس ثم تشف؟ قل له حكمته فوق مرتبتك، فسلم لما لا تعلم، فإن أول من إعترض بعقله إبليس، رأى فضل النار على الطين فأعرض عن السجود. وقد رأينا خلقا كثيرا وسمعنا عنهم أنهم يقدحون في الحكمة لأنهم يحكمون العقول على مقتضاها، وينسون أن حكمة لخالق وراء العقول. فإياك أن تفسح لعقلك في تعليل، أو أن تطلب له جواب إعتراض، وقل له: سلم تسلم، فإنك لا تدري غور البحر إلا وقد أدركك الغرق قبل ذلك. هذا أصل عظيم، متى فات الآدمي أخرجه الاعتراض إلى الكفر.