صيد الخاطر/فصل: الإنسان والملك
فصل: الإنسان والملك
ما أزال اتعجب ممن يرى تفضيل الملائكة على الأنبياء والأولياء، فإن كان التفضيل بالصورة، فصورة الآدمي أعجب من ذوي أجنحة. وإن تركت صورة الآدمي لأجل أوساخها المنوطة بها، فالصورة ليست الآدمي، إنما هي قالب. ثم استحسن منها ما يستقبح في العبادة مثل خلوف فم الصائم، ودم الشهداء، والنوم في الصلاة فبقيت صورة معمورة وصار الحكم للمعنى. ألهم مرتبة يحبهم، أو فضيلة يباهى بهم، وكيف دار الأمر فقد سجدوا لنا. وهو صريح في تفضيلنا عليهم، فإن كانت الفضيلة بالعلم فقد علمت القصة، يوم لا علم لنا يا آدم أنبئهم. وإن فضلت الملائكة بجوهرية ذواتهم فجوهرية أرواحنا من ذلك الجنس، وعلينا أثقال أعباء الجسم. بالله لولا احتياج الراكب إلى الناقة فهو يتوقف لطلب علفها، ويرفق في السير بها لطرق أرض منى قبل العشر. واعجبا أتفضل الملائكة بكثرة التعبد. فما ثم صعاد. أو يتعجب من الماء إذا جرى، أو من منحدر يسرع؟ إنما العجب من مصاعد يشق الطريق ويغالب العقبات. بلى قد يتصور منهم الخلاف، ودعوى الإلهية لقدرتهم على دك الصخور، وشق الأرض لذلك توعدوا: ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم، لكنهم يعلمون عقوبة الحق فيحذرونه. فأما بعدنا عن المعرفة الحقيقية وضعف يقيننا بالناهي، وغلبة شهوتنا مع الغفلة يحتاج إلى جهاد أعظم من جهادهم. تالله لو ابتلى أحد المقربين بما ابتلينا به، لم يقدر على التماسك. يصبح أحدنا وخطاب الشرع يقول له: الكسب لعائلتك، واحذر في كسبك. وقد تمكن منه ما ليس من فعله، كحب الأهل، وعلوق الولد بنياط القلب، واحتياج بدنه إلى ما لا بد منه. فتارة يقال للخليل عليه السلام: [ اذبح ولدك بيدك، واقطع ثمرة فؤادك بكفك، ثم قم إلى المنجنيق لترمي في النار ]. وتارة يقال لموسى عليه السلام: [ صم شهرا، ليلا ونهارا]. ثم يقال للغضبان: اكظم، وللبصير اغضض، ولذي المقول اصمت، ولمستلذ النوم تهجد، ولمن مات حبيبه اصبر، ولمن أصيب في بدنه أشكر، وللواقف في الجهاد بين اثنين لا يحل أن تفر. ثم اعلم أن الموت يأتي بأصعب المرارات، فينزع الروح عن البدن فإذا نزل فاثبت. واعلم أنك ممزق في القبر فلا تتسخط لأنه مما يجري به القدر. وإن وقع بك مرض فلا تشك إلى الخلق. فهل للملائكة من هذه الأشياء شيء؟ وهل ثم إلا عبادة ساذجة ليس فيها مقاومة طبع، ولا رد هوى؟ وهل هي إلا عبادة صورية بين ركوع وسجود وتسبيح؟ فأين عبادتهم المعنوية من عبادتنا؟ ثم أكثرهم في خدمتنا بين كتبة علينا، ودافعين عنا، ومسخرين لإرسال الريح والمطر، وأكبر وظائفهم الاستغفار لنا. فكيف يفضلون علينا بلا علة ظاهرة؟. وإذا ما حكت على محك التجارب طائفة منهم مثل ما روى عن هاروت وماروت، فخرجوا أقبح من بهرج. ولا تظنن أني أعتقد في تعبد الملائكة نوع تقصير، لأنهم شديد والإشفاق والخوف، لعلمهم بعظمة الخالق. لكن طمأنينة من لم يخطئ تقوى نفسه. وانزعاج الغائص في الزلل يرقي روحه إلى التراقي. فاعرفوا إخواني شرف أقداركم، وصونوا جواهركم عن تدنيسها بلوم الذنوب، فأنتم معرض الفضل على الملائكة، فاحذروا أن تحطكم الذنوب إلى حضيض البهائم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.