صيد الخاطر/فصل: استقامة الأمور باستقامة الباطن
فصل: استقامة الأمور باستقامة الباطن
[عدل]ما رأيت أظرف من لعب الدنيا بالعقول، وقد سمعنا ورأينا جماعة من الفطناء الكاملي العقل لعبت بهم الدنيا حتى صاروا كالمجانين. فولوا الولايات فخرجوا إلى القتل والضرب والحبس والشتم وذهاب الدين، والمباشرة للظلم كله لأجل دنيا تذهب سريعا. وهي في مدة إقامتها معجونة بالنغص. فيا أيها المرزوق عقلا لا تبخسه حقه، ولا تطفئ نوره، واسمع ما نشير به، ولا تلتفت إلى بكاء طفل الطبع لفوات غرضه. فإنك إن رحمت بكاءه لم تقدر على فطامه، ولم يمكنك تأديبه، فيبلغ جاهلا فقيرا:
لا تسه عن أدب الصغ ير ولو شكا ألم التعب
ودع الكبير لشأنه كبر الكبير عن الأدب
واعلم أن زمان الإبتلاء ضيف قراه الصبر، كما قال أحمد بن حنبل: [ إنما هو طعام دون طعام ولباس دون لباس، وأنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتلمح عواقبهم، ولا تضق صدرا بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدو تسير:
طاول بها الليل مال النجم أم جنحا وما طل النوم ضن الجفن أم سمحا
فإن تشكت فعللها المجرة من ضوء الصباح وعدها بالرواح ضحى
وقد كان أهدي إلى أحمد بن حنبل هدية فردها، ثم قال بعد سنة لأولاده: [ لو كنا قبلناها كانت قد ذهبت ]. ومر بشر على بئر، فقال له صاحبه: أنا عطشان، فقال: البئر الأخرى، فمر عليها فقال له: الأخرى، ثم قال: كذا تقطع الدنيا. ودخلوا إلى بشر الحافي وليس في داره حصير، فقيل له: ألا بذا تؤذى؟ فقال: هذا أمر ينقضي. وكان لداود الطائي دار يأوي إليها، فوقع سقف، فانتقل إلى سقف، إلى أن مات في الدهليز. فهؤلاء الذين نظروا في عواقب الأمور، وبعد هذا فلا أطالبك بهذه الرتبة، بل أقول لك: إن حصل لك شيء من المباح لا من فيه ولا أذى ولا نلته بسؤال ولا من يد ظالم تعلم أن ماله حرام أو فيه شبهة، فإفسح لنفسك في مباحاتها بمقدار ما تحتاج إليه، وكن مقدرا للنفقة غير مبذر. فإن الحلال لا يحتمل السرف، ومتى أسرفت إحتجت إلى التعرض للخلق. والتناول من الأكدار. وإن ضاق بك أمر فأصبر، فإن ضعف الصبر فسل فاتح الأبواب. فهو الكريم وعنده مفاتح الغيب. وإياك أن تبذل دينك بتصنع للخلق أو يتقرب إلى الأمراء وتستعطي أموالهم. وأذكر طريق السلف: كان ابن سمعون له ثياب يجلس فيها للناس ثم يطويها إلى المجلس الآخر ورثها عن أبيه بقيت أربعين سنة. وكانت ميمونة بنت شاقولة تعظ الناس ولها ثياب قد بقيت أربعين سنة. ومن صفا نظره وتهذب لفظه نفع وعظه، ومن كدر كدر عليه. والحالة العالية في هذا إقبال القلب على الله عز وجل، والتوكل عليه، والنظر إليه، وإلتفات القلب عن الخلق. فإن إحتجت فإسأله، وإن ضعفت فإرغب إليه. ومتى ساكنت الأسباب إنقطعت عنه، ومتى إستقام باطنك إستقامت لك الأمور.