صيد الخاطر/فصل: مغالطة النفس ليتم العيش
فصل: مغالطة النفس ليتم العيش
لما سطرت هذا الفصل المتقدم، ورأيت إدكار النفس بما لا بد لها في الطريق منه. وهو أنه لا بد لها من التلطف، فإن قاطع مرحلتين في مرحلة خليق بأن يقف. فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن. وإذا تعبت الرواحل نهض الحادي يغنيها، وأخذ الراحة للجد جد، وغوص السابح في طلب الدر صعود. ودوام السير يحسر الإبل، والمفازة صعبة. ومن أراد أن يرى التلطف بالنفس، فلينظر في سيرة الرسول ﷺ، فإنه كان يتلطف بنفسه، ويمازح، ويخالط النساء، ويقبل ويمص اللسان، ويختار المستحسنات، ويستعذب له الماء ويختار الماء البارد، والوفق من المطاعم، كلحم الظهر والذراع والحلوى، وهذا كله رفق بالناقة في طريق السير. فأما من جرد عليها السيوط فإنه يوشك ألا يقطع الطريق. وقد قال ﷺ: إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا ابقى. واعلم أنه ينبغي للعاقل أن يغالط نفسه فيما يكشف العقل عن عوراه، فإن فكر المتيقظ قبل مباشرة المرأة إلى أنها اعتناق بجسد يحتوي على قذارة، وقبل بلع اللقمة إلى أنها متقلبة في الريق، ولو أخرجها الإنسان لفظها. ولو فكرت في قرب الموت وما يجري عليه بعده، لبغض عاجل لذته. فلا بد من مغالطة تجري لينتفع الإنسان بعيشة كما قال لبيد:
فأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزري بالأمل
وقال البستي:
أفد طبعك المكدود بالهم راحة تجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته ذاك فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح
وقال أبو علي بن الشبل:
وإذا هممت فناج نفسك بالمنى وعدا، فخيرات الجنان عدات
واجعل رجاءك دون بأسك جنة حتى تزول بهمك الأوقات
واسر عن الجلساء بثك، إنما جلساؤك الحساد والشمات
ودع التوقع للحوادث إنه للحى ـ من قبل الممات ـ ممات
فالهم ليس له ثبات مثل ما في أهله ما للسرور ثبات
لولا مغالطة النفوس عقولها لم تصف للمتيقظين حياة
وقال أيضا:
بحفظ الجسم تبقى النفس فيه بقاء النار تحفظ بالوعاء
فباليأس الممض فلا تمتها ولا تمدد لها طول الرجاء
وعدها في شدائدها رخاء وذكرها الشدائد في الرخاء
يعد صلاحها هذا وهذا وبالتركيب منفعة الدواء
وقد كان عموم السلف يخضبون الشيب لئلا يرى الإنسان منهم ما يكره. وإن كان الخضاب لا يعدم النفس علمها بذلك. ولكنه نوع مخادعة للنفس. وما زالت النفوس ترى الظاهر. وإنما الفكر والعقل مع الغائب. ولا بد من مغالطة تجري ليتم العيش. ولو عمل العامل بمقتضى قصر الأمل، ما كتب العلم ولا صنف. فافهم هذا الفصل مع الذي تقدمه، فإن الأول في مقام العزيمة، وهذا في مكان الرخصة. ولا بد للتعب من راحة وإعانة، والله عز وجل معك على قدر صدق الطلب، وقوة اللجأ، وخلع الحول والقوة، وهو الموفق.