البداية والنهاية/الجزء الثامن/وهذه ترجمة أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو بكر.
ويقال له: أبو خبيب القرشي الأسدي، أول مولود ولد بعد الهجرة بالمدينة من المهاجرين.
وأمه: أسماء بنت أبي بكر الصديق، ذات النطاقين، هاجرت وهي حامل به ثم فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة.
وقيل: إنما ولدته في شوال سنة ثنتين من الهجرة.
قال الواقدي، ومصعب الزبيري وغيرهما: والأول أصح لما رواه أحمد، عن أبي أسامة، عن هشام، عن أبيه، عن أسماء: أنها حملت بعبد الله بمكة.
قالت: فخرجت به وأنا متم فأتيت المدينة فنزلت بقبا فولدته، ثم أتيت به رسول الله ﷺ فوضعه على حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه، فكان أول ما دخل في جوفه ريق رسول الله ﷺ.
قالت: ثم حنكه ثم دعا له وتبرك عليه، فكان أول مولود ولد في الإسلام.
وهو صحابي جليل، روى عن النبي ﷺ أحاديث، وروى عن أبيه، وعمر، وعثمان وغيرهم.
وعنه جماعة من التابعين، وشهد الجمل مع أبيه وهو صغير، وحضر خطبة عمر بالجابية، ورواها عنه بطولها.
ثبت ذلك من غير وجه.
وقدم دمشق لغزو القسطنطينية، ثم قدمها مرة أخرى وبويع بالخلافة أيام يزيد بن معاوية لما مات معاوية بن يزيد، فكان على الحجاز، واليمن، والعراقيين، ومصر، وخراسان، وسائر بلاد الشام إلا دمشق، وتمت البيعة له سنة أربع وستين وكان الناس بخير في زمانه.
وثبت من غير وجه عن هشام، عن أبيه، عن أسماء أنها خرجت بعبد الله من مكة مهاجرة وهي حبلى به فولدته بقبا أول مقدمهم المدينة، فأتت به رسول الله ﷺ فحنكه وسماه: عبد الله ودعا له، وفرح المسلمون به لأنه كانت اليهود قد زعموا أنهم قد سحروا المهاجرين فلا يولد لهم في المدينة.
فلما ولد ابن الزبير كبر المسلمون، وقد سمع عبد الله بن عمر جيش الشام حين كبروا عند قتله.
فقال: أما والله للذين كبروا عند مولده خير من هؤلاء الذين كبروا عند قتله.
وأذن الصديق في أذنه حين ولد رضي الله عنهما، ومن قال: إن الصديق طاف به حول الكعبة وهو في خرقة فهو واهم والله أعلم.
وإنما طاف الصديق به في المدينة ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود.
وقال مصعب الزبيري: كان عارضا عبد الله خفيفين، وما اتصلت لحيته حتى بلغ ستين سنة.
وقال الزبير بن بكار: حدثني علي بن صالح، عن عامر بن صالح، عن سالم بن عبد الله بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله ﷺ كلم في غلمة ترعرعوا منهم عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعمر بن أبي سلمة.
فقيل: يا رسول الله لو بايعتهم فتصيبهم بركتك ويكون لهم ذكر، فأتي بهم إليه فكأنهم تكعكعوا واقتحم عبد الله بن الزبير، فتبسم رسول الله ﷺ وقال: «إنه ابن أبيه وبايعه».
وقد روي من غير وجه: أن عبد الله بن الزبير شرب من دم النبي ﷺ، كان النبي ﷺ قد احتجم في طست فأعطاه عبد الله بن الزبير ليريقه فشربه فقال له: «لا تمسك النار إلا تحلة القسم، وويل لك من الناس، وويل للناس منك».
وفي رواية: أنه قال له: «يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهريقه حيث لا يراك أحد».
فلما بعُد عمد إلى ذلك الدم فشربه، فلما رجع قال: «ما صنعت بالدم؟»
قال: إني شربته لأزداد به علما وإيمانا، وليكون شيء من جسد رسول الله ﷺ في جسدي، وجسدي أولى به من الأرض.
فقال: «ابشر لا تمسك النار أبدا، وويل لك من الناس وويل للناس منك».
وقال محمد بن سعد: أنبأ مسلم بن إبراهيم، ثنا الحارث بن عبيد، ثنا أبو عمران الجوني أن نوفا كان يقول: إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء.
وقال حماد بن زيد، عن ثابت البناني قال: كنت أَمُرُ بعبد الله بن الزبير وهو يصلي خلف المقام كأنه خشبة منصوبة لا يتحرك.
وقال الأعمش: عن يحيى بن وثاب: كان ابن الزبير إذا سجد وقعت العصافير على ظهره تصعد وتنزل لا تراه إلا جذم حائط.
وقال غيره: كان ابن الزبير يقوم ليله حتى يصبح، ويركع ليله حتى يصبح، ويسجد ليله حتى يصبح.
وقال بعضهم: ركع ابن الزبير يوما فقرأت البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وما رفع رأسه.
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء: كنت إذا رأيت ابن الزبير يصلي كأنه كعب راسب، وفي رواية ثابت.
وقال أحمد: تعلم عبد الرزاق الصلاة من ابن جريج، وابن جريج من عطاء، وعطاء من ابن الزبير، وابن الزبير من الصديق، والصديق من رسول الله ﷺ.
وقال الحميدي: عن سفيان بن عيينة، عن هشام بن عروة، عن ابن المنكدر قال: لو رأيت ابن الزبير يصلي كأنه غصن شجرة يصفقها الريح، والمنجنيق يقع هاهنا وهاهنا.
قال سفيان: كأنه لا يبالي به ولا يعده شيئا.
وحكى بعضهم لعمر بن عبد العزيز: أن حجرا من المنجنيق وقع على شرفة المسجد فطارت فلقة منه فمرت بين لحية ابن الزبير وحلقه، فما زال عن مقامه ولا عرف ذلك في صورته.
فقال عمر بن عبد العزيز: لا إله إلا الله، جاء ما وصفت.
وقال عمر بن عبد العزيز يوما لابن أبي ملكية: صف لنا عبد الله بن الزبير.
فقال: والله ما رأيت جلدا قط ركب على لحم ولا لحما على عصب ولا عصبا على عظم مثله، ولا رأيت نفسا ركبت بين جنبين مثل نفسه، ولقد مرت آجرة من رمي المنجنيق بين لحيته وصدره فوالله ما خشع ولا قطع لها قراءته، ولا ركع دون ما كان يركع، وكان إذا دخل في الصلاة خرج من كل شيء إليها.
ولقد كان يركع فيكاد الرخم أن يقع على ظهره ويسجد فكأنه ثوب مطروح.
وقال أبو القاسم البغوي: عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن منصور بن زاذان قال: أخبرني من رأى ابن الزبير يسرب في صلاته وكان ابن الزبير من المصلين.
وسئل ابن عباس عن ابن الزبير فقال: كان قارئا لكتاب الله، متبعا لسنة رسول الله، قانتا لله صائما في الهواجر من مخافة الله، ابن حواريّ رسول الله ﷺ، وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله، زوجة رسول الله ﷺ، فلا يجهل حقه إلا من أعماه الله.
وروي: أن ابن الزبير كان يوما يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت على بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية فقتلوها، وسلم الولد فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا دري بما جرى حتى سلم.
وقال الزبير بن بكار: حدثني محمد بن الضحاك الخزامي، وعبد الملك بن عبد العزيز، ومن لا أحصي كثرة من أصحابنا أن ابن الزبير كان يواصل الصوم سبعا، يصوم ليلة الجمعة ولا يفطر إلا ليلة الجمعة الأخرى، ويصوم بالمدينة ولا يفطر إلا بمكة، ويصوم بمكة ولا يفطر إلا في المدينة، وكان إذا أفطر أول ما يفطر على لبن لقحة وسمن وصبر.
وفي رواية أخرى فأما اللبن فيعصمه، وأما السمن فيقطع عنه العطش، وأما الصبر فيفتق الأمعاء.
وقال ابن معين عن روح، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام ويصبح في الثامن وهو أليثنا.
وروي مثله من غير وجه.
وقال بعضهم: لم يكن يأكل في شهر رمضان سوى مرة واحدة في وسطه.
وقال خالد بن أبي عمران: كان ابن الزبير لا يفطر من الشهر إلا ثلاثة أيام.
ومكث أربعين سنة لم ينزع ثوبه عن ظهره.
وقال ليث: عن مجاهد لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة رضي الله عنه.
ولقد جاء سيل مرة فطبق البيت فجعل ابن الزبير يطوف سباحة.
وقال بعضهم: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاث، في العبادة، والشجاعة، والفصاحة.
وقد ثبت أن عثمان جعله في النفر الذين نسخوا المصاحف مع زيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكره سعيد بن المسيب في خطباء الإسلام مع معاوية وابنه وسعيد بن العاص وابنه.
وقال عبد الواحد بن أيمن: رأيت على ابن الزبير رداءا يمانيا عدنيا يصلي فيه، وكان صيتا إذا خطب تجاوبه الجبلان أبو قبيس وزروراء.
وكان آدم نحيفا ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة، مجتهدا شهما، فصيحا، صواما قواما، شديد البأس ذا أنفة له نفس شريفة، وهمة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلا.
وكانت له جمة وكان له لحية صفراء.
وقد ذكرنا أنه شهد مع ابن أبي سرح قتال البربر وكانوا في عشرين ومائة ألف، والمسلمون عشرون ألفا، فأحاطوا بهم من كل جانب، فما زال عبد الله بن الزبير يحتال حتى ركب في ثلاثين فارسا.
وسار نحو ملك البربر وهو منفرد وراء الجيش، وجواريه يظللنه بريش النعام، فساق حتى انتهى إليه والناس يظنون أنه ذاهب برسالة إلى الملك، فلما فهمه الملك ولى مدبرا فلحقه عبد الله فقتله واحتز رأسه وجعله في رأس رمح، وكبر وكبر المسلمون، وحملوا على البربر فهزموهم بين أيديهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا، وغنموا أموالا وغنائم كثيرة جدا.
وبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر.
قال: نعم!
فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب الناس وذكر لهم كيفية ما جرى.
قال عبد الله: فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد أن يرتج عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فرمزني بعينه وأشار إليّ ليحضني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني اسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني.
وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: خرج ابن الزبير في ليلة مقمرة على راحلة له فنزل في تبوك، فالتفت فإذا على الراحلة شيخ أبيض الرأس واللحية فشد عليه ابن الزبير فتنحى عنها، فركب ابن الزبير راحلته ومضى.
قال فناداه: والله يا ابن الزبير لو دخل قلبك الليلة مني شعرة لخبلتك.
قال: ومنك أنت يا لعين يدخل قلبي شيء؟
وقد روى لهذه الحكاية شواهد من وجوه أخرى جيدة.
وروى عبد الله بن المبارك: عن إسحاق بن يحيى، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: أقبل عبد الله بن الزبير من العمرة في ركب من قريش، فلما كانوا عند اليناصب أبصروا رجلا عند شجرة، فتقدمهم ابن الزبير، فلما انتهى إليه سلم عليه فلم يعبأ به ورد ردا ضعيفا، ونزل ابن الزبير فلم يتحرك له الرجل.
فقال له ابن الزبير: تنح عن الظل، فانحاز متكارها.
قال ابن الزبير: فجلست وأخذت بيده وقلت: من أنت؟
فقال: رجل من الجن.
فما عدا أن قالها حتى قامت كل شعرة مني فاجتذبته وقلت: أنت رجل من الجن، وتبدو إلي هكذا؟
وإذا له سفلة وانكسر ونهرته وقلت: إليّ تتبدا وأنت من أهل الأرض، فذهب هاربا.
وجاء أصحابي فقالوا: أين الرجل الذي كان عندك؟
فقلت: إنه كان من الجن فهرب.
قال: فما منهم رجل إلا سقط إلى الأرض عن راحلته، فأخذت كل رجل منهم فشددته على راحلته حتى أتيت بهم الحج وما يعقلون.
وقال سفيان بن عيينه قال ابن الزبير: دخلت المسجد ذات ليلة فإذا نسوة يطفن في بالبيت فأعجبنني، فلما قضين طوافهن خرجن فخرجت في إثرهن لأعلم أين منزلهن، فخرجن من مكة حتى أتين العقبة ثم انحدرن حتى أتين فجا فدخلن خربة، فدخلت في إثرهن.
فإذا مشيخة جلوس فقالوا: ما جاء بك يا ابن الزبير؟
فقلت: اشتهي رطبا، وما بمكة يومئذٍ من رطبة، فأتوني برطب فأكلت ثم قالوا: احمل ما بقي معك، فجئت به المنزل فوضعته في سفط وجعلت السفط في صندوق، ثم وضعت رأسي لأنام، فبينما أنا بين النائم واليقظان إذ سمعت جلبة في البيت.
فقال بعضهم لبعض: أين وضعه؟
قالوا: في الصندوق، ففتحوه فإذا هو في السفط داخله، فهمّوا بفتحه.
فقال بعضهم: إنه ذكر اسم الله عليه، فأخذوا السفط بما فيه فذهبوا به.
قال: فلم آسف على شيء أسفي كيف لم أثب عليهم وهم في البيت.
وقد كان عبد الله بن الزبير ممن حاجف عن عثمان يوم الدار، وجرح يومئذٍ بضع عشرة جراحة، وكان على الراجلة يوم الجمل وجرح يومئذ تسع عشرة جراحة أيضا.
وقد تبارز يومئذٍ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي: اقتلوني ومالكا، واقتلوا مالكا معي، فأرسلهما مثلا.
ثم تفرقا ولم يقدر عليه الأشتر.
وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضع وأربعون جراحة، ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لمن بشرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم، وسجدت لله شكرا، وكانت تحبه حبا شديدا، لأنه ابن أختها، وكان عزيزا عليها.
وقد روي عن عروة: أن عائشة لم تكن تحب أحدا بعد رسول الله ﷺ وأبي بكر مثل حبها ابن الزبير.
قال: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير.
وقال الزبير بن بكار: حدثني أخي هارون بن أبي بكر، عن يحيى بن إبراهيم، عن سليمان بن محمد، عن يحيى بن عروة، عن عمه عن عبد الله بن عروة قال: أفحمت ألسنة نابغة بني جعدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام، فأنشد هذه الأبيات:
حكيت لنا الصديق لما وليتها * وعثمان وفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في الحق فاستووا * فعاد صباحا حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب به الدجا * دجبى الليل جواب الفلاة غشمشم
لتجير منه جائيا غدرت به * صروف الليالي والزمان المصمم
فقال له ابن الزبير: هون عليك أبا ليلى، فإن الشعر أهون رسائلك عندنا، أما صفوه فما لنا فلآل الزبير، وأما عفوه فإن بني أسد يشغلها عنك وتيما، ولكن لك في مال الله حقان: حق لرؤيتك لرسول الله ﷺ، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم.
ثم أخذ بيده فأدخله دار النعم فأعطاه قلائص سبعا وجملا وخيلا، وأوقر له الركاب برا وتمرا وثيابا، فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا.
فقال له ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد.
فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما وليت قريش وعدلت، واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فأنا والنبيون فرط العاصفين».
وقال محمد بن مروان صاحب كتاب المجالسة: أخبرني خبيب بن نصير الأزدي، ثنا محمد بن دينار الضبي، ثنا هشام بن سليمان المخزومي، عن أبيه قال: أذن معاوية للناس فدخلوا عليه فاحتفل المجلس وهو على سريره، فأجال بصره فيهم فقال:
أنشدوني لقدماء العرب ثلاثة أبيات جامعة من أجمع ما قالتها العرب.
ثم قال: يا أبا خبيب.
فقال: مهيم.
قال: أنشد ذلك.
فقال: نعم يا أمير المؤمنين بثلاثمائة ألف كل بيت بمائة ألف.
قال: نعم إن ساوت.
قال: أنت بالخيار، وأنت واف كاف، فأنشده للأفوه الأزدي:
بلوت الناس قرنا بعد قرنٍ * فلم أر غير ختالٍ وقال
فقال معاوية: صدق.
ولم أر في الخطوب أشد وقعا * وكيدا من معادات الرجال
فقال معاوية: صدق.
وذقت مرارة الأشياء طرا * فما شيء أمرُّ من السؤال
فقال: صدق.
ثم قال معاوية: هيه يا خبيب.
قال: إلى ههنا انتهى.
قال: فدعا معاوية بثلاثين عبدا على عنق كل واحد منهم بدرة، وهي عشرة آلاف درهم، فمروا بين يدي ابن الزبير حتى انتهوا إلى داره.
وروى ابن أبي الدنيا: عن أبي يزيد النميري، عن أبي عاصم النبيل، عن جويرية بن أسماء: أن معاوية لما حج تلقته الناس وتخلف ابن الزبير ثم جاءه وقد حلق رأسه.
فقال: يا أمير المؤمنين ما أكبر حجرة رأسك!!
فقال له: اتق أن لا يخرج عليك منها حية فتقتلك، فلما أفاض معاوية طاف معه ابن الزبير وهو آخذ بيده ثم استدعاه إلى داره ومنازله بقعيقعان، فذهب معه إليها.
فلما خرجا قال: يا أمير المؤمنين إن الناس يقولون جاء معه أمير المؤمنين إلى دوره ومنازله ففعل معه ماذا، لا والله لا أدعك حتى تعطيني مائة ألف.
فأعطاه، فجاء مروان فقال: والله يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلك، جاءك رجل قد سمى بيت مال الديوان وبيت الخلافة، وبيت كذا، وبيت كذا، فأعطيته مائة ألف.
فقال له: ويلك كيف أصنع بابن الزبير؟
وقال ابن أبي الدنيا: أخبرني عمر بن بكير، عن علي بن مجاهد بن عروة قال: سأل ابن الزبير معاوية شيئا فمنعه، فقال: والله ما أجهل أن ألزم هذه البنية فلا أشتم لك عرضا ولا أقصم لك حسبا، ولكني أسدل عمامتي من بين يدي ذراعا، ومن خلفي ذراعا في طريق أهل الشام، وأذكر سيرة أبي بكر الصديق وعمر فيقول الناس: من هذا؟
فيقولون: ابن حوارّي رسول الله ﷺ وابن بنت الصديق.
فقال معاوية: حسبك بهذا شرفا.
ثم قال: هات حوائجك.
وقال الأصمعي: ثنا غسان بن نصر، عن سعيد بن يزيد.
قال: دخل ابن الزبير على معاوية فأمر ابنا له صغيرا فلطمه لطمة دوخ منها رأسه، فلما أفاق ابن الزبير قال للصبي: ادن مني.
فدنا منه.
فقال له: ألطم معاوية.
قال: لا أفعل.
قال: ولِمَ؟
قال: لأنه أبي، فرفع ابن الزبير يده فلطم الصبي لطمة جعل يدور منها كما تدور الدوامة.
فقال معاوية: تفعل هذا بغلام لم تجز عليه الأحكام؟
قال: إنه والله قد عرف ما يضره مما ينفعه، فأحببت أن أحسن أدبه.
وقال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: عن عبد الله بن أبي بكر قال: لحق ابن الزبير معاوية وهو سائر إلى الشام فوجده وهو ينعس على راحلته، فقال له: أتنعس وأنا معك؟ أما تخاف مني أن أقتلك؟
فقال: إنك لست من قتال الملوك، إنما يصيد كل طائر قدره.
قال: لقد سرت تحت لواء أبي إلى علي بن أبي طالب، وهو من تعلمه.
فقال: لا جرم قتلكم والله بشماله.
قال: أما إن ذلك كان في نصرة عثمان، ثم لم يجز بها.
فقال: إنما كان لبغض علي لا لنصرة عثمان.
فقال له ابن الزبير: إنا قد أعطيناك عهدا فنحن وافون لك به ما عشت، فسيعلم من بعدك.
فقال: أما والله ما أخافك إلا على نفسك، وكأني بك قد خبطت في الحبالة واستحكمت عليك الأنشوطة، فذكرتني وأنت فيها.
فقلت: ليت أبا عبد الرحمن لها، ليتني والله لها، أما والله لها، أما والله لأحللتك رويدا ولأطلقتك سريعا، ولبئس الولي أنت تلك الساعة.
وحكى أبو عبد الله نحو هذا، وقد تقدم أن معاوية لما مات وجاءت بيعة يزيد بن معاوية إلى المدينة انشمر منها ابن الزبير والحسين بن علي فقصدا مكة فأقاما بها، ثم خرج الحسين إلى العراق، وكان من أمره ما تقدم.
وتفرد بالرياسة والسؤدد بمكة ابن الزبير، ولهذا كان ابن عباس ينشد:
يالك من قنبرةٍ بمعمري * خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري
يعرض بابن الزبير.
وقيل: إن يزيد بن معاوية كتب إلى ابن الزبير يقول: إني قد بعثت إليك بسلسلة من فضة وقيد من ذهب وجامعة من فضة، وحلفت لتأتيني في ذلك فأبر قسمي ولا تشق العصا.
فلما قرأ كتابه ألقاه من يده وقال:
ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضع الحجر
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بن يزيد من بعده قريبا، استفحل أمر عبد الله بن الزبير جدا، وبويع له بالخلافة في جميع البلاد الإسلامية، وبايع له الضحاك بن قيس بدمشق وأعمالها، ولكن عارضه مروان بن الحكم في ذلك وأخذ الشام ومصر من نواب ابن الزبير.
ثم جهز السرايا إلى العراق، ومات وتولى بعده عبد الملك بن مروان فقتل مصعب بن الزبير بالعراق وأخذها.
ثم بعث إلى الحجاج فحاصر ابن الزبير بمكة قريبا من سبعة أشهر حتى ظفر به في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين.
وكانت ولاية ابن الزبير في سنة أربع وستين، وحج بالناس فيها كلها، وبنى الكعبة في أيام ولايته كما تقدم، وكساها الحرير، وكانت كسوتها قبل ذلك الأنطاع والمسوح.
وكان ابن الزبير عالما عابدا، مهيبا وقورا، كثير الصيام والصلاة، شديد الخشوع، جيد السياسة.
قال أبو نعيم الأصبهاني: حدثنا أبو حامد بن جبلة، ثنا محمد بن إسحاق الثقفي، ثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، عن عمر بن قيس.
قال: كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغة غير لغة الآخر، وكان ابن الزبير يكلم كل واحد منهم بلغته، وكنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت: هذا رجل لم يرد الله والدار الآخرة طرفة عين، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت: هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين.
وقال الثوري: عن الأعمش، عن أبي الضحى قال: رأيت على رأس ابن الزبير من المسك ما لو كان لي كان رأس مال.
وكان يطيب الكعبة حتى كان يوجد ريحها من مسافة بعيدة.
وقال ابن المبارك: عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه قال: دخل ابن الزبير على امرأته بنت الحسن فرأى ثلاثة مثل - يعني: أفرشة - فقال: هذا لي، وهذا لابنة الحسن، وهذا للشيطان، فأخرجوه.
وقال الثوري: عن عبد الله بن أبي بشير، عن عبد الله بن مساور.
قال: سمعت ابن عباس يعاتب ابن الزبير على البخل ويقول: قال رسول الله ﷺ: «ليس بالمؤمن من يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع».
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن أبان الوراق، ثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى، عن عثمان بن عفان.
قال: قال له عبد الله بن الزبير حين حصر: إن عندي نجائب قد أعددتها لك، فهل لك أن تتحول إلى مكة فيأتيك من أراد أن يأتيك؟
قال: لا! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يلحد كبش من قريش اسمه عبد الله عليه مثل أوزار الناس».
وهذا الحديث منكر جدا وفي إسناده ضعف، ويعقوب هذا هو القمي وفيه تشيع، ومثل هذا لا يقبل تفرده به، وبتقدير صحته فليس هو بعبد الله بن الزبير، فإنه كان على صفات حميدة، وقيامه في الإمارة إنما كان لله عز وجل.
ثم هو كان الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد من مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم، ثنا إسحاق بن سعيد، ثنا سعيد بن عمرو قال: أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو في الحجر جالس فقال: يا ابن الزبير، إياك والإلحاد في حرم الله، فإني أشهد أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يحلها وتحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها».
فانظر أن لا تكونه.
فقال له: يا ابن عمر، فإنك قرأت الكتب وصحبت النبي ﷺ، قال: فإني أشهد أن هذا وجهي إلى الشام مجاهدا.
وهذا قد يكون رفعه غلطا، وإنما هو من كلام عبد الله بن عمر، وما أصابه من الزاملتين يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب، والله أعلم.
وقال وكيع: عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن حبشي الكناني، عن عليم الكندي، عن سلمان الفارسي.
قال: ليحرقن هذا البيت على يدي رجل من آل الزبير.
وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: عن يحيى بن معين، عن أبي فضيل، ثنا سالم بن أبي حفصة، عن منذر الثوري قال: قال ابن الحنفية: اللهم إنك تعلم أني كنت أعلم مما علمتني أن ابن الزبير لا يخرج منها إلا قتيلا يطاف برأسه في الأسواق.
وقد روى الزبير بن بكار: عن هشام بن عروة قال: إن أول ما فصح به عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه.
وكان الزبير إذا سمع ذلك منه يقول له: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام.
وقد تقدم كيفية مقتله، وأن الحجاج صلبه على جذع فوق الثنية، وأن أمه جاءت حتى وقفت عليه فدعت له طويلا ولا يقطر من عينها دمعة ثم انصرفت، وكذلك وقف عليه ابن عمر فدعا له وأثنى عليه ثناء كثيرا جدا.
وقال الواقدي: حدثني نافع بن ثابت، عن عبد الله مولى أسماء قال: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمه حتى وقفت عليه وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه، فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟
فقالت: ربما أديل الباطل على الحق وأهله، وإنك بين فرثها والجنة.
فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم.
قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسر به رسول الله ﷺ وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحا به، وقد فرحت أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ بمولده خير منك ومن أصحابك.
وكان مع ذلك برا بالوالدين صواما قواما بكتاب الله، معظما لحرم الله، يبغض من يعصى الله عز وجل، أشهد على رسول الله ﷺ لسمعته يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير».
وفي رواية: «سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول وهو مبير»، فانكسر الحجاج وانصرف.
فبلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء، وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح؟
وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه: ثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، أنبأنا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل.
قال: رأيت عبد الله بن الزبير على ثنية الحجون مصلوبا فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد الله بن عمر فوقف عليه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا.
أما والله إن كنت ما علمتُ صواما قواما وصولا للرحم، أما والله لأمة أنت شرها لأمة خير، ثم بعد عبد الله بن عمر.
فبلغ الحجاج وقوف ابن عمر عليه وقوله ما قال، فأرسل إليه فأنزله عن جذعه وألقي في قبور اليهود.
ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك من قرونك.
فأبت وقالت: والله لا آتيه حتى يبعث إليّ من يسحبني بقروني.
فقال الحجاج: أروني سبتيتي فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف حتى دخل عليها فقال: كيف رأيتيني صنعت بعد والله؟
قالت: رأيتك فسدت عليه دنياه، وأفسدت عليك آخرتك، بلغني أنك تقول: يا ابن ذات النطاقين، أنا والله ذات النطاقين، أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله ﷺ وطعام أبي بكر، وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه، أما إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا، فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا أخالك إلا إياه.
قال: فقام عنها ولم يراجعها. انفرد به مسلم.
وروى الواقدي: أن الحجاج لما صلب ابن الزبير على ثنية الحجون بعثت إليه أسماء تدعو عليه، وطلبت منه أن يدفن فأبى عليها، حتى كتب إلى عبد الملك في ذلك فكتب إليه أن يدفن فدفن بالحجون، وذكروا أنه كان يشتم من عند قبره ريح المسك.
وكان الحجاج قد قدم من الشام في ألفي فارس وانضاف إليه طارق بن عمرو في خمسة آلاف.
وروى محمد بن سعد وغيره بسنده: أن الحجاج حاصر ابن الزبير، وأنه اجتمع معه أربعون ألفا، وأنه نصب المنجنيق على أبي قبيس ليرمي به المسجد الحرام، وأنه أمن من خرج إليه من أهل مكة ونادى فيهم بذلك، وقال: إنا لم نأت لقتال أحد سوى ابن الزبير، وأنه خير ابن الزبير بين ثلاث: إما أن يذهب في الأرض حيث شاء، أو يبعثه إلى الشام مقيدا بالحديد، أو يقاتل حتى يقتل.
فشاور أمه فأشارت عليه بالثالث فقط، ويروى: أنها استدعت بكفن له وبخرته وشجعته على القتل، فخرج بهذه النية فقاتل يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين قتالا شديدا فجاءته آجرة ففلقت رأسه فسقط على وجهه إلى الأرض.
ثم أراد أن ينهض فلم يقدر فاتكأ على مرفقه الأيسر وجعل يحدم بالسيف من جاءه، فأقبل إليه رجل من أهل الشام فضربه فقطع رجله، ثم تكاثروا عليه حتى قتلوه واحتزوا رأسه، وكان مقتله قريبا من الحجون.
ويقال: بل قتل وهو متعلق بأستار الكعبة فالله أعلم.
ثم صلبه الحجاج منكسا على ثنية كدا عند الحجون، ثم لما أنزله دفنه في مقابر اليهود كما رواه مسلم.
وقيل: دفن بالحجون بالمكان الذي صلب فيه، فالله أعلم.
وقال عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال قال عبد الله بن الزبير لما جيء برأس المختار: ما كان يحدثنا كعب الأحبار شيئا إلا وجدناه إلا قوله إن فتى ثقيف يقتلني، وهذا رأسه بين يدي.
قال ابن سيرين: ولم يشعر أنه قد خبئ له الحجاج.
وروي هذا من وجه آخر.
قلت: والمشهور أن مقتل الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الأولى.
وقيل: الآخرة منها.
وعن مالك وغيره: أن مقتله كان على رأس اثنين وسبعين، والمشهور الصحيح هو الأول.
وكانت بيعته في سابع رجب سنة أربع وستين، وكان مولده في أول سنة إحدى من الهجرة.
وقيل: في شوال سنة ثنتين من الهجرة، فمات وقد جاوز السبعين قطعا والله أعلم.
وأما أمه: فإنها لم تعش بعده إلا مائة يوم.
وقيل: عشرة أيام.
وقيل: خمسة، والأول هو المشهور.
وستأتي ترجمتها قريبا رضي الله عنها وعن أبيها وابنها.
وقد رثي ابن الزبير وأخوه مصعب بمراثي كثيرة حسنة بليغة، من ذلك قول معمر بن أبي معمر الذهلي يرثيهما بأبيات:
لعمرك ما أبقيت في الناس حاجة * ولا كنت ملبوس الهدى متذبذبا
غداة دعاني مصعب فأجبته * وقلت له أهلا وسهلا ومرحبا
أبوك حواريّ الرسول وسيفه * فأنت بحمد الله من خيرنا أبا
وذاك أخوك المهتدى بضيائه * بمكة يدعونا دعاء مثوبا
ولم أك ذا وجهين وجه لمصعب * مريض ووجه لابن مروان إذ صبا
وكنت امرأ ناصحته غير مؤثر * عليه ابن مروان ولا متقربا
إليه بما تقذى به عين مصعب * ولكنني ناصحت في الله مصعبا
إلى أن رمته الحادثات بسهمها * فيالله سهما ما أسد وأصوبا
فإن يك هذا الدهر أردى بمصعب * وأصبح عبد الله شلوا ملحبا
فكل امرئ حاس من الموت جرعة * وإن حاد عنها جهده وتهيبا
وقيل: إن عبد الله بن الزبير غسلته أمه أسماء بعد أن قطعت مفاصله وحنطته وطيبته وكفنته وصلت عليه وحملته إلى المدينة، فدفنته بدار صفية بنت حيي، ثم إن هذه الدار زيدت في مسجد النبي ﷺ فهو مدفون في المسجد مع النبي ﷺ وأبي بكر وعمر، وقد ذكر ذلك غير واحد فالله أعلم.
وقد روى الطبراني: عن عامر بن عبد الله بن الزبير: أن أباه حدثه أن النبي ﷺ أعطاه دم محاجمه يهريقه فحساه، فلما رجع إلى النبي ﷺ قال: «ما صنعت يا عبد الله بالدم؟»
قلت: جعلته في مكان ظننت أنه خافٍ على الناس.
قال: «فلعلك شربته».
قلت: نعم!
قال: «ومن أمرك أن تشرب الدم؟ ويل لك من الناس، وويل للناس منك».
ودخل سلمان الفارسي مرة على النبي ﷺ فإذا عبد الله بن الزبير قائم في الدهليز ومعه طست يشرب منه، فدخل سلمان ودخل عبد الله على رسول الله ﷺ قال له: «فرغت؟»
قال: نعم.
قال سلمان: وما ذاك يا رسول الله؟
قال: «أعطيته غسالة محاجمي يهريق ما فيها».
قال سلمان: شربها والذي بعثك بالحق؟.
قال: شربته؟
قال: نعم!
قال: «لِمَ؟»
قال: أحببت أن يكون دم رسول الله ﷺ في جوفي.
فقال بيده على رأس ابن الزبير، وقال: «ويل لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار إلا تحلة القسم».
ولما بعث يزيد بن معاوية إلى ابن الزبير ذلك القيد من ذهب وسلسة من فضة وجامعة من فضة وأقسم لتأتيني فيها.
فقالوا له: بر قسم أمير المؤمنين.
فقال:
ولا ألين لغير الحق أسأله * حتى تلين لضرس الماضغ الحجر
ثم قال: والله لضربة بسيف بعز، أحب إليّ من ضربة بسوط في ذل، ثم دعا إلى نفسه وأظهر الخلاف ليزيد بن معاوية.
وروى الطبراني: أن ابن الزبير دخل على أمه فقال: إن في الموت لراحة.
وكانت أمه قد أتت عليها مائة سنة لم تسقط لها سن، ولم يفسد لها بصر، فقالت: ما أحب أن أموت حتى آتي على أحد طرفيك، إما أن تملك فتقر عيني، وإما أن تقتل فأحتسبك.
ثم خرج عنها وهو يقول:
ولست بمبتاع الحياة بسبة * ولا بمريق من خشية الموت سلما
ثم أقبل على آل الزبير يعظهم ويقول: ليكن أحدكم سيفه كما وجهه فيدفع عن نفسه بيده كأنه أمراه، والله ما بقيت زحفا قط إلا في الرعيل الأول، وما ألمت جرحا إلا ألم الدواء.
ثم حمل عليهم ومعه سفيان، فأول من لقيه الأسود فضربه بسيفه حتى أطن رجله.
فقال له الأسود: أخ يا ابن الزانية.
فقال له ابن الزبير: اخسأ يا ابن حام أسماء زانية؟
ثم أخرجهم من المسجد، وكان على ظهر المسجد جماعة من أعوانه يرمون أعداءه بالآجر فأصابته آجرة من أعوانه من غير قصد من مفرق رأسه ففلقت رأسه فوقف قائما وهو يقول:
لو كان قرني واحدا كفيته
ويقول:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا * ولكن على أقدامنا يقطر الدم
ثم وقع فأكب عليه موليان له وهما يقولان:
العبد يحمي ربه ويحتمي
ثم أرسلوا إليه فحزوا رأسه.
وروى الطبراني أيضا: عن إسحاق بن أبي إسحاق قال: أنا حاضر مقتل عبد الله بن الزبير في المسجد الحرام، يوم قتل جعلت الجيوش تدخل من أبواب المسجد، وكلما دخل قوم من باب حمل عليهم حتى يخرجهم، فبينما هو على تلك الحال إذ جاءت شرفة من شرفات المسجد، فوقعت على رأسه فصرعته، وهو يتمثل بهذه الأبيات:
أسماء أسماء لا تبكيني * لم يبقى إلا حسبي وديني
وصارم لانت به يميني
وقد روي أن أمه قالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟
فقال الحجاج: ابنك المنافق.
فقالت: والله ما كان منافقا، إن كان لصواما قواما وصولا للرحم.
فقال: انصرفي يا عجوز، فإنك قد خرفت.
فقالت: والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله ﷺ يقول: «يخرج من ثقيف كذاب ومبير»، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت.
وقال مجاهد: كنت مع ابن عمر فمر على ابن الزبير فوقف فترحم عليه، ثم التفت إليّ وقال: أخبرني أبو بكر الصديق أن رسول الله ﷺ قال: «من يعمل سوءا يجز به».
وروى سفيان: عن ابن جريج، عن أبي مليكة قال: ذكرت ابن الزبير عند ابن عباس قال: كان عفيفا في الإسلام، قارئا للقرآن، صواما قواما.
أبوه الزبير، وأمه أسماء، وجده أبو بكر، وعمته خديجة، وجدته صفية، وخالته عائشة، والله لأحاسبن له بنفسي محاسبة لم أحاسبها لأبي بكر ولا لعمر.
وقال الطبراني: حدثنا زكريا الناجي، ثنا حوثرة بن محمد، ثنا أبو أسامة، ثنا سعيد بن المرزبان، أبو سعيد العبسي، ثنا محمد بن عبد الله الثقفي.
قال: شهدت خطبة ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم، فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط، ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فإنكم جئتم من أفاق شتى وفودا إلى الله عز وجل، فحق على الله أن يكرم وفده، فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فصدقوا قولكم بفعل، فإن ملاك القول الفعل والنية النية، والقلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجونها هاهنا، ثم لبى ولبى الناس فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ.
وروى الحسن بن سفيان قال: ثنا حيان بن موسى، ثنا عبد الله بن المبارك، ثنا مالك بن أنس، عن وهب بن كيسان قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة:
أما بعد، فإن لأهل التقوى علامات يعرفون بها ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء، ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذل لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حُمِلَ إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله.
وإن نفق الباطل عنده حمل إليه وجاءه أهله.
وقال أبو معاوية: ثنا هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان قال: ما رأيت ابن الزبير يعطي سلمة قط لرغبة ولا لرهبة سلطان ولا غيره.
وبهذه الإسنادات أهل الشام كانوا يعيرون ابن الزبير ويقولون له: يا ابن ذات النطاقين.
فقالت له أسماء: يا بني إنهم يعيرونك بالنطاقين، وإنما كان لي نطاق واحد شققته نصفين فجعلت في سفرة رسول الله ﷺ أحدهما، وأوكيت قربته بالآخر لما خرج هو وأبو بكر يريدان الهجرة إلى المدينة.
فكان ابن الزبير بعد ذلك إذا عيروه بالنطاقين يقول: إنها والله تلك شكاة ظاهر عنك عارها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وممن قتل مع ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين بمكة من الأعيان: