البداية والنهاية/الجزء الثامن/سنة ستين من الهجرة النبوية
فيها: كانت غزوة مالك بن عبد الله مدينة سورية.
قال الواقدي: وفيها: دخل جنادة بن أبي أمية جزيرة رودس.
وفيها: أخذ معاوية البيعة ليزيد من الوفد الذين قدموا صحبة عبيد الله بن زياد إلى دمشق.
وفيها: مرض معاوية مرضه الذي توفي فيه في رجب منها كما سنبينه.
فروى ابن جرير: من طريق أبي مخنف: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها، دعا ابنه يزيد فقال: يا بني إني قد كفيتك الرحلة والرجال.
ووطأت لك الأشياء، ودللت لك الأعزاء، وأخضعت لك أعناق العرب، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي أسسته إلا أربعة نفر: الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر.
كذا قال، والصحيح أن عبد الرحمن كان قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كما قدمنا، فأما ابن عمر فهو رجل ثقة قد وقدته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك.
وأما الحسين فإن أهل العراق خلفه لا يدعونه حتى يخرجونه عليك، فإن خرج فظفرت به فاصفح عنه، فإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وأما ابن أبي بكر فهو رجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله، ليست له همة إلا في النساء واللهو.
وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك روغان الثعلب، وإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.
قال غير واحد: فحين حضرت معاوية الوفاة كان يزيد في الصيد، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري - وكان على شرطة دمشق - ومسلم بن عقبة فأوصى إليهما أن يبلغا يزيد السلام ويقولان له يتوصى بأهل الحجاز، وإن سأله أهل العراق في كل يوم أن يعزل عنهم عاملا ويولي عليهم عاملا فليفعل.
فعزل واحد وأحب إليك من أن يُسل عليك مائة سيف، وأن يتوصى بأهل الشام، وأن يجعلهم أنصاره، وأن يعرف لهم حقهم، ولست أخاف عليه من قريش سوى ثلاثة: الحسين، وابن عمر، وابن الزبير.
ولم يذكر عبد الرحمن بن أبي بكر، وهذا أصح، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف، وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة، وحقا عظيما.
وقرابة من محمد ﷺ، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فافصح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه.
وأما ابن الزبير: فإنه خب ضب فإن شخص لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت.
وكان موت معاوية لاستهلال رجب من هذه السنة، قاله هشام بن الكلبي.
وقيل: للنصف منه، قاله الواقدي.
وقيل: يوم الخميس لثمان بقين منه، قاله المدائني.
قال ابن جرير: وأجمعوا على أنه هلك في رجب منها، وكان مدة ملكه استقلالا من جمادى سنة إحدى وأربعين حين بايعه الحسن بن علي باذرج، فذلك تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر.
وكان نائبا في الشام عشرين سنة تقريبا.
وقيل: غير ذلك.
وكان عمره ثلاثا وسبعين سنة.
وقيل: خمسا وسبعين سنة.
وقيل: ثمانيا وسبعين سنة.
وقيل: خمسا وثمانين سنة، وسيأتي بقية الكلام في آخر ترجمته.
وقال أبو السكن زكريا بن يحيى: حدثني عم أبي زحر بن حصين، عن جده حميد بن منهب.
قال: كانت هند بنت عتبة عند الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع الفاكه وهند فيه في وقت القائلة.
ثم خرج الفاكه لبعض شأنه، وأقبل رجل ممن كان يغشاه فولج البيت فلما رأى المرأة فيه ولى هاربا، ورآه الفاكه وهو خارج من البيت، فأقبل إلى هند وهي مضطجعة فضربها برجله وقال: من هذا الذي عندك؟
قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني أنت.
فقال لها: الحقي بأبيك، وتكلم فيها الناس، فقال لها أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك القالة فأنبئيني نبأك، فإن يكن الرجل عليك صادقا دسست إليه من يقتله فينقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن، فعند ذلك حلفت هند لأبيها بما كانوا يحلفون في الجاهلية إنه لكاذب عليها.
فقال عتبة بن ربيعة للفاكه: يا هذا إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، وعار كبير، لا يغسله الماء، وقد جعلتنا في العرب بمكان ذلة ومنقصة، ولولا أنك مني ذو قرابة لقتلتك، ولكن سأحاكمك إلى كاهن اليمن.
فحاكمني إلى بعض كهان اليمن، فخرج الفاكه في بعض جماعة من بني مخزوم -أقاربه - وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف، وخرجوا بهند ونسوة معها من أقاربهم، ثم ساروا قاصدين بلاد اليمن.
فلما شارفوا بلاد الكاهن قالوا: غدا نأتي الكاهن، فلما سمعت هند ذلك تنكرت حالها وتغير وجهها، وأخذت في البكاء.
فقال لها أبوها: يا بنية، قد أرى ما بك من تنكر الحال وكثرة البكاء، وما ذاك أراه عندك إلا لمكروه أحدثتيه، وعمل اقترفتيه، فهلا كان هذا قبل أن يشيع في الناس ويشتهر مسيرنا؟
فقالت: والله يا أبتاه ما هذا الذي تراه مني لمكروه وقع مني، وإني لبريئة، ولكن هذا الذي تراه من الحزن وتغير الحال هو أني أعلم أنكم تأتون هذا الكاهن وهو بشر يخطئ ويصيب، وأخاف أن يخطئ في أمري بشيء يكون عاره عليّ إلى آخر الدهر، ولا آمنه أن يسمني ميسما تكون عليّ سبة في العرب.
فقال لها أبوها: لا تخافي فإني سوف أختبره وأمتحنه قبل أن يتكلم في شأنك وأمرك، فإن أخطأ فيما أمتحنه به لم أدعه يتكلم في أمرك.
ثم إنه انفرد عن القوم - وكان راكبا مهرا - حتى توارى عنهم خلف رابية فنزل عن فرسه ثم صفر له حتى أدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليل المهر، وأوكى عليها بسير حتى أحكم ربطها.
ثم صفر له حتى اجتمع إحليله، ثم أتى القوم فظنوا أنه ذهب ليقضي حاجة له، ثم أتى الكاهن فلما قدموا عليه أكرمهم ونحر لهم.
فقال له عتبة: إنا قد جئناك في أمر، ولكن لا أدعك تتكلم فيه حتى تبين لنا ما خبأت لك، فإني قد خبأت لك خبيئا فانظر ما هو، فأخبرنا به.
قال الكاهن: ثمرة في كمرة.
قال: أريد أبين من هذا
قال: حبات بر في إحليل مهر.
قال: صدقت، فخذ لما جئناك له، انظر في أمر هؤلاء النسوة، فأجلس النساء خلفه وهند معهم لا يعرفها، ثم جعل يدنو من إحداهن فيضرب كتفها ويبريها ويقول: انهضي، حتى دنا من هند فضرب كتفها وقال: انهضي حصان رزان، غير رسخا، ولا زانية، ولتلدنّ ملكا يقال له معاوية.
فوثب إليها الفاكه فأخذ بيدها، فنترت يدها من يده، وقالت له: إليك عني، والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادة، والله لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان بن حرب فجاءت منه بمعاوية هذا.
وفي رواية: أن أباها هو الذي قال للفاكه ذلك والله سبحانه أعلم.