البداية والنهاية/الجزء الثامن/ثم دخلت سنة سبع وستين
ففيها: كان مقتل عبيد الله بن زياد على يدي إبراهيم بن الأشتر النخعي، وذلك أن إبراهيم بن الأشتر خرج من الكوفة يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة في السنة الماضية.
ثم استهلت هذه السنة وهو سائر لقصد ابن زياد في أرض الموصل، فكان اجتماعهما بمكان يقال له: الخازر، بينه وبين الموصل خمسة فراسخ، فبات ابن الأشتر تلك الليلة ساهرا لا يستطيع النوم.
فلما كان قريب الصبح نهض فعبى جيشه وكتَّبَ كتائبه، وصلى بأصحابه الفجر في أول وقت، ثم ركب فناهض جيش ابن زياد، وزحف بجيشه رويدا وهو ماشٍ في الرجالة حتى أشرف من فوق تلٍ على جيش ابن زياد، فإذا هم لم يتحرك منهم أحد.
فلما رأوهم نهضوا إلى خيلهم وسلاحهم مدهوشين، فركب ابن الأشتر فرسه وجعل يقف على رايات القبائل فيحرضهم على قتال ابن زياد ويقول:
هذا قاتل ابن بنت رسول الله ﷺ، قد جاءكم الله به وأمكنكم الله منه اليوم، فعليكم به فإنه قد فعل في ابن بنت رسول الله ﷺ ما لم يفعله فرعون في بني إسرائيل هذا ابن زياد قاتل الحسين الذي حال بينه وبين ماء الفرات أن يشرب منه هو وأولاده ونساؤه، ومنعه أن ينصرف إلى بلده أو يأتي يزيد بن معاوية حتى قتله.
ويحكم!! اشفوا صدوركم منه، وارووا رماحكم وسيوفكم من دمه، هذا الذي فعل في آل نبيكم ما فعل، قد جاءكم الله به.
ثم أكثر من هذا القول وأمثاله، ثم نزل تحت رايته، وأقبل ابن زياد في خيله ورجله في جيش كثيف قد جعل على ميمنته حصين بن نمير وعلى الميسرة عمير بن الحباب السلمي - وكان قد اجتمع بابن الأشتر ووعده أنه معه وأنه سيهزم بالناس غدا - وعلى خيل ابن زياد شرحبيل بن الكلاع، وابن زياد في الرجالة يمشي معهم.
فما كان إلا أن تواقفا الفريقان حتى حمل حصين بن نمير بالميمنة على ميسرة أهل العراق فهزمها، وقتل أميرها علي بن مالك الجشمي فأخذ رايته من بعده ولده محمد بن علي فقتل أيضا، واستمرت الميسرة ذاهبة فجعل الأشتر يناديهم:
إلي يا شرطة الله، أنا ابن الأشتر، وقد كشف عن رأسه ليعرفوه، فالتاثوا به وانعطفوا عليه، واجتمعوا إليه، ثم حملت ميمنة أهل الكوفة على ميسرة أهل الشام.
وقيل: بل انهزمت ميسرة أهل الشام وانحازت إلى ابن الأشتر، ثم حمل ابن الأشتر بمن معه وجعل يقول لصاحب رايته: ادخل برايتك فيهم.
وقاتل ابن الأشتر يومئذٍ قتالا عظيما، وكان لا يضرب بسيفه رجلا إلا صرعه، وكثرت القتلى بينهم.
وقيل: إن ميسرة أهل الشام ثبتوا وقاتلوا قتالا شديدا بالرماح ثم بالسيوف، ثم أردف الحملة ابن الأشتر فانهزم جيش الشام بين يديه، فجعل يقتلهم كما يقتل الحملان، واتبعهم بنفسه ومن معه من الشجعان، وثبت عبيد الله بن زياد في موقفه حتى اجتاز به ابن الأشتر فقتله وهو لا يعرفه، لكن قال لأصحابه:
التمسوا في القتلى رجلا ضربته بالسيف فنفحتني منه ريح المسك، شرقت يداه وغربت رجلاه، وهو واقف عند راية منفردة على شاطئ نهر خازر: فالتمسوه فإذا هو عبيد الله بن زياد، وإذا هو قد ضربه ابن الأشتر فقطعه نصفين، فاحتزوا رأسه وبعثوه إلى المختار إلى الكوفة مع البشارة بالنصر والظفر بأهل الشام.
وقتل من رؤوس أهل الشام أيضا: حصين بن نمير، وشرحبيل بن ذي الكلاع.
واتبع الكوفيون أهل الشام فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وغرق منهم أكثر ممن قتل، واحتازوا ما في معسكرهم من الأموال والخيول.
وقد كان المختار بشر أصحابه بالنصر قبل أن يجيء الخبر، فما ندري أكان ذلك تفاؤلا منه أو اتفاقا وقع له أو كهانة.
وأما على ما كان يزعم أصحابه أنه أوحى إليه بذلك فلا، فإن من اعتقد ذلك كفر ومن أقرهم على ذلك كفر، لكن قال: إن الوقعة كانت بنصيبين فأخطأ مكانها، فإنها إنما كانت بأرض الموصل، وهذا مما انتقده عامر الشعبي على أصحاب المختار حين جاءه الخبر.
وقد خرج المختار من الكوفة ليتلقى البشارة، فأتى المدائن فصعد منبرها فبينما هو يخطب إذ جاءته البشارة وهو هنالك.
قال الشعبي: فقال لي بعض أصحابه: أما سمعته بالأمس يخبرنا بهذا؟
فقلت له: زعم أن الوقعة كانت بنصيبين من أرض الجزيرة، وإنما قال البشير: إنهم كانوا بالخازر من أرض الموصل.
فقال: والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم.
ثم رجع المختار إلى الكوفة.
وفي غيبته هذه تمكن جماعة ممن كان قاتله يوم جبانة السبيع والكناسة من الخروج إلى مصعب بن الزبير إلى البصرة، وكان منهم شبث بن ربعي، وأما ابن الأشتر فإنه بعث بالبشارة وبرأس ابن زياد وبعث رجلا على نيابة نصيبين واستمر مقيما في تلك البلاد، وبعث عمالا إلى الموصل وأخذ سنجار ودارا وما ولاها من الجزيرة.
وقال أبو أحمد الحاكم: كان مقتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة ست وستين، والصواب: سنة سبع وستين.
وقد قال سراقة بن مرداس البارقي يمدح ابن الأشتر على قتله ابن زياد:
أتاكم غلام من عرانين مذحج * جريءٌ على الأعداء غير نكول
فيا بن زيادٍ بؤ بأعظم هالكٍ * وذق حدَّ ماضي الشفرتين صقيل
ضربناك بالعضب الحسام بحده * إذا ما أتانا قتيلا بقتيل
جزى الله خيرا شرطة الله إنهم * شفوا من عبيد الله أمس غليلي