البداية والنهاية/الجزء الثامن/وفي هذه السنة أعني سنة أربع وستين
جرت حروب كثيرة وفتن منتشرة ببلاد المشرق، واستحوذ على بلاد خراسان رجل يقال له: عبد الله بن خازم، وقهر عمالها وأخرجهم منها، وذلك بعد موت يزيد وابنه معاوية، قبل أن يستقر ملك ابن الزبير على تلك النواحي.
وجرت بين عبد الله بن خازم هذا وبين عمرو بن مرثد حروب يطول ذكرها وتفصيلها، اكتفينا بذكرها إجمالا إذ لا يتعلق بذكرها كبير فائدة، وهي حروب فتنة وقتال بغاة بعضهم في بعض، والله المستعان.
وقال الواقدي: وفي هذه السنة بعد موت معاوية بن يزيد بايع أهل خراسان سلم بن زياد بن أبيه، وأحبوه حتى أنهم سموا باسمه في تلك السنة أكثر من ألف غلام مولود، ثم نكثوا واختلفوا فخرج عنهم سلم وترك عليهم المهلب بن أبي صفرة.
وفيها: اجتمع ملأ الشيعة على سليمان بن صرد بالكوفة، وتواعدوا النخيلة ليأخذوا بثأر الحسين بن علي بن أبي طالب، وما زالوا في ذلك مجدين، وعليه عازمين، من مقتل الحسين بكربلاء من يوم عاشوراء عشرة المحرم سنة إحدى وستين.
وقد ندموا على ما كان منهم من بعثهم إليه، فلما أتاهم خذلوه وتخلوا عنه ولم ينصروه، فجادت بوصل حين لا ينفع الوصل، فاجتمعوا في دار سليمان بن صرد وهو صحابي جليل، وكان رؤوس القائمين في ذلك خمسة:
سليمان بن صرد الصحابي، والمسيب بن نجية الفزاري أحد كبار أصحاب علي، وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وعبد الله بن والٍ التيمي، ورفاعة بن شداد البجلي.
وكلهم من أصحاب علي رضي الله عنه، فاجتمعوا كلهم بعد خطب ومواعظ على تأمير سليمان بن صرد عليهم، فتعاهدوا وتعاقدوا، وتواعدوا النخيلة، وأن يجتمع من يستجيب لهم إلى ذلك الموضع بها في سنة خمس وستين، ثم جمعوا من أموالهم وأسلحتهم شيئا كثيرا وأعدوه لذلك.
وقام المسيب بن نجية خطيبا فيهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فقد ابتلينا بطول العمر وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله ﷺ، بعد أن كتبنا إليه وراسلناه، فأتانا طمعا في نصرتنا إياه، فخذلناه وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله وقتل أولاده وذريته وقراباته الأخيار.
فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعا ويلا متصلا أبدا لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو أن نُقتل دون ذلك وتذهب أموالنا وتخرب ديارنا.
أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم.
وذكر كلاما طويلا.
ثم كتبوا إلى جميع إخوانهم أن يجتمعوا بالنخيلة في السنة الآتية.
وكتب سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وهو أمير على المدائن يدعوه إلى ذلك، فاستجاب له ودعا إليه سعد من أطاعه من أهل المدائن، فبادروا إليه بالاستجابة والقبول، وتمالأوا عليه وتواعدوا النخيلة في التاريخ المذكور.
وكتب سعد بن حذيفة إلى سليمان بن صرد بذلك ففرح أهل الكوفة من موافقة أهل المدائن لهم على ذلك، وتنشطوا لأمرهم الذي تمالأوا عليه.
فلما مات يزيد بن معاوية وابنه معاوية بعد قليل، طمعوا في الأمر، واعتقدوا أن أهل الشام قد ضعفوا، ولم يبق من يقيم لهم أمرا، فاستشاروا سليمان في الظهور وأن يخرجوا إلى النخيلة قبل الميقات.
فنهاهم عن ذلك وقال: لا! حتى يأتي الأجل الذي واعدنا إخواننا فيه، ثم هم في الباطن يعدون السلاح والقوة ولا يشعر بهم جمهور الناس، وحينئذٍ عمد جمهور أهل الكوفة إلى عمرو بن حريث نائب عبيد الله بن زياد على الكوفة فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الملقب دحروجة، فبايع لعبد الله بن الزبير، فهو يسد الأمور حتى تأتي نواب ابن الزبير.
فلما كان يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من هذه السنة - أعني: سنة أربع وستين - قدم أميران إلى الكوفة من جهة ابن الزبير، أحدهما عبد الله بن يزيد الخطمي، على الحرب والثغر، والآخر إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، على الخراج والأموال.
وقد كان قدم قبلهما بجمعة واحدة للنصف من هذا الشهر المختار بن أبي عبيد - وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب - فوجد الشيعة قد التفت على سليمان بن صرد وعظموه تعظيما زائدا، وهم معدون للحرب.
فلما استقر المختار عندهم بالكوفة، دعا إلى إمامة المهدي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو محمد بن الحنفية في الباطن، ولقبه المهدي، فاتبعه على ذلك كثير من الشيعة وفارقوا سليمان بن صرد، وصارت الشيعة فرقتين:
الجمهور منهم مع سليمان يريدون الخروج على الناس ليأخذوا بثأر الحسين.
وفرقة أخرى مع المختار، يريدون الخروج للدعوة إلى إمامة محمد بن الحنفية، وذلك عن غير أمر ابن الحنفية ورضاه، وإنما يتقولون عليه ليروجوا على الناس به، وليتوصلوا إلى أغراضهم الفاسدة.
وجاءت العين الصافية إلى عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير بما تمالأ عليه فرقتا الشيعة على اختلافهما من الخروج على الناس والدعوة إلى ما يريدون.
وأشار من أشار عليه بأن يبادر إليهم ويحتاط عليهم، ويبعث الشرط والمقاتلة فيقمعهم عما هم مجمعون عليه من إرادة الشر والفتنة.
فقام خطيبا في الناس وذكر في خطبته ما بلغه عن هؤلاء القوم، وما أجمعوا عليه من الأمر، وأن منهم من يريد الأخذ بثأر الحسين، ولقد علموا أنني لست ممن قتله، وإني والله لممن أصيب بقتله وكره قتله، فرحمه الله ولعن قاتله.
وإني لا أتعرض لأحد قبل أن يبدأني بالشر، وإن كان هؤلاء يريدون الأخذ بثأر الحسين فليعمدوا إلى ابن زياد فإنه هو الذي قتل الحسين وخيار أهله فليأخذوا منه بالثأر، ولا يخرجوا بسلاحهم على أهل بلدهم، فيكون فيه حتفهم واستئصالهم.
فقام إبراهيم بن محمد بن طلحة الأمير الآخر فقال: أيها الناس لا يغرنكم من أنفسكم كلام هذا المداهن، إنا والله قد استيقنا من أنفسنا أن قوما يريدون الخروج علينا، ولنأخذن الوالد بالولد، والولد بالوالد، والحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته، حتى تدينوا بالحق، وتذلوا للطاعة.
فوثب إليه المسيب بن نجية الفزاري فقطع كلامه فقال: يا ابن الناكثين أتهددنا بسيفك وغشمك؟
أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، وإنا لنرجوا أن نلحقك بهما قبل أن تخرج من هذا القصر.
وساعد المسيب بن نجية من أصحاب إبراهيم بن محمد بن طلحة جماعة من العمال، وجرت فتنه وشيء كبير في المسجد، فنزل عبد الله بن يزيد الخطمي عن المنبر وحالوا أن يوفقوا بين الأميرين، فلم يتفق لهم ذلك.
ثم ظهرت الشيعة أصحاب سليمان بن صرد بالسلاح، وأظهروا ما كان في أنفسهم من الخروج على الناس، وركبوا مع سليمان بن صرد فقصدوا نحو الجزيرة وكان من أمرهم ما سنذكره.
وأما المختار بن عبيد الثقفي الكذاب فإنه قد كان بغيضا إلى الشيعة من يوم طعن الحسين وهو ذاهب إلى الشام بأهل العراق، فلجأ إلى المدائن، فأشار المختار على عمه وهو نائب المدائن بأن يقبض على الحسين ويبعثه إلى معاوية فيتخذ بذلك عنده اليد البيضاء، فامتنع عم المختار من ذلك، فأبغضته الشيعة بسبب ذلك.
فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان وقتله ابن زياد، كان المختار يومئذ بالكوفة فبلغ ابن زياد أنه يقول: لأقومن بنصرة مسلم ولآخذن بثأره، فأحضره بين يديه وضرب عينه بقضيب كان بيده فشترها، وأمر بسجنه.
فلما بلغ أخته سجنه بكت وجزعت عليه، وكانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فكتب ابن عمر إلى يزيد بن معاوية يشفع عنده في إخراج المختار من السجن، فبعث يزيد إلى ابن زياد: أن ساعة وقوفك على هذا الكتاب تخرج المختار بن عبيد من السجن، فلم يمكن ابن زياد غير ذلك.
فأخرجه وقال له: إن وجدتك بعد ثلاثة أيام بالكوفة ضربت عنقك.
فخرج المختار إلى الحجاز وهو يقول: والله لأقطعن أنامل عبيد الله بن زياد، ولأقتلن بالحسين بن علي على عدد من قتل بدم يحيى بن زكريا.
فلما استفحل أمر عبد الله بن الزبير بايعه المختار بن عبيد، وكان من كبار الأمراء عنده، ولما حاصره الحصين بن نمير مع أهل الشام، قاتل المختار دون ابن الزبير أشد القتال.
فلما بلغه موت يزيد بن معاوية واضطراب أهل العراق، نقم على ابن الزبير في بعض الأمر، وخرج من الحجاز فقصد الكوفة فدخلها في يوم الجمعة والناس يتهيئون للصلاة، فجعل لا يمر بملأ إلا سلم عليه، وقال: أبشروا بالنصر.
ودخل المسجد فصلى إلى سارية هنالك حتى أقيمت الصلاة، ثم صلى من بعد الصلاة حتى صليت العصر، ثم انصرف فسلم عليه الناس وأقبلوا إليه وعليه وعظموه، وجعل يدعو إلى إمامة المهدي محمد بن الحنفية، ويظهر الانتصار لأهل البيت، وأنه ما جاء إلا بصدد أن يقيم شعارهم، ويظهر منارهم، ويستوفي ثأرهم.
ويقول للناس الذين اجتمعوا على سليمان بن صرد من الشيعة- وقد خشي أن يبادروا إلى الخروج مع سليمان - فجعل يخذلهم ويستميلهم إليه.
ويقول لهم: إني قد جئتكم من قبل ولي الأمر، ومعدن الفضل، ووصي الرضى، والإمام المهدي، بأمر فيه الشفاء، وكشف الغطاء، وقتل الأعداء، وتمام النعماء.
وأن سليمان بن صرد يرحمنا الله وإياه إنما هو غشمة من الغشم، وشن بال ليس بذي تجربة للأمور، ولا له علم بالحروب، إنما يريد أن يخرجكم فيقتل نفسه ويقتلكم، وإني إنما أعمل على مثل مُثل لي، وأمر قد بُينّ لي، فيه عز وليكم، وقتل عدوكم، وشفاء صدوركم، فاسمعوا مني وأطيعوا أمري.
ثم أبشروا وتباشروا، فإني لكم بكل ما تأملون وتحبون كفيل.
فالتف عليه خلق كثير من الشيعة، ولكن الجمهور منهم مع سليمان بن صرد، فلما خرجوا مع سليمان إلى النخيلة قال عمر بن سعد بن أبي وقاص، وشبث بن ربعي وغيرهما لعبد الله بن زياد، نائب الكوفة: إن المختار بن أبي عبيد أشد عليكم من سليمان بن صرد.
فبعث إليه الشرط فأحاطوا بداره فأخذه فذهب به إلى السجن مقيدا.
وقيل: بغير قيد، فأقام به مدة ومرض فيه.
قال أبو مخنف: فحدثني يحيى بن أبي عيسى أنه قال: دخلت إليه مع حميد بن مسلم الأزدي نعوده ونتعاهده.
فسمعته يقول: أما ورب البحار، والنخيل والأشجار، والمهامة والقفار، والملائكة الأبرار، والمصلين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن جثَّار خطار، ومهند بتار، بجند من الأخيار، وجموع من الأنصار، ليسوا بميل الأغمار، ولا بعزل أشرار، حتى إذا أقمت عمود الدين، وجبرت صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر أولاد النبيين، لم أبك على زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا دنا.
قال: وكان كلما أتيناه وهو في السجن يردد علينا هذا القول حتى خرج.