البداية والنهاية/الجزء الثامن/ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين
ففيها: كانت وقعة عظيمة بين المهلب بن أبي صفرة وبين الأزارقة من الخوارج بمكان يقال له: سولاق، ثم مكثوا نحوا من ثمانية أشهر متواقفين، وجرت بينهم حروب يطول بسطها، وقد استقصاها ابن جرير، وقتل في أثناء ذلك من هذه المدة مصعب بن الزبير.
ثم إن عبد الملك أقر المهلب بن أبي صفرة على الأهواز وما معها، وشكر سعيه وأثنى عليه ثناء كثيرا، ثم تواقع الناس في دولة عبد الملك بالأهواز فكسر الناس الخوارج كسرة فظيعة، وهربوا في البلاد لا يلوون على أحد، واتبعهم خالد بن عبد الله أمير الناس ودواد بن محندم فطردوهم.
وأرسل عبد الملك إلى أخيه بشر بن مروان أن يمدهم بأربعة آلاف، فبعث إليه أربعة آلاف عليهم عتاب بن ورقاء فطردوا الخوارج كل مطرد، ولكن لقي الجيش جهدا عظيما وماتت خيولهم، ولم يرجع أكثرهم إلا مشاة إلى أهليهم.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الحارثي وهو من قيس بن ثعلبة، وغلب على البحرين وقتل نجدة بن عامر الحارثي، فبعث إليه خالد بن عبد الله أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جيش كثيف، فهزمهم أبو فديك وأخذ جارية لأمية واصطفاها لنفسه.
وكتب خالد أمير البصرة إلى عبد الملك يعلمه بما وقع، واجتمع على خالد هذا حرب أبي فديك وحرب الأزارقة أصحاب قطري بن الفجاءة بالأهواز.
قال ابن جرير: وفيها: بعث عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف الثقفي إلى عبد الله بن الزبير ليحاصره بمكة.
قال: وكان السبب في بعثه له دون غيره، أن عبد الملك بن مروان لما أراد الرجوع إلى الشام بعد قتله مصعبا وأخذه العراق، ندب الناس إلى قتال عبد الله بن الزبير بمكة فلم يجبه أحد إلى ذلك.
فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين أنا له.
وقص الحجاج على عبد الملك مناما زعم أنه رآه، قال: رأيت يا أمير المؤمنين كأني أخذت عبد الله بن الزبير فسلخته، فابعث بي إليه فإني قاتله.
فبعثه في جيش كثيف من أهل الشام، وكتب معه أمانا لأهل مكة إن أطاعوه.
قالوا: فخرج الحجاج في جمادى من هذه السنة ومعه ألفا فارس من أهل الشام، فسلك طريق العراق ولم يعرض للمدينة حتى نزل الطائف، وجعل يبعث البعوث إلى عرفة، ويرسل ابن الزبير الخيل فيلتقيان فيهزم خيل ابن الزبير وتظفر خيل الحجاج.
ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في دخول الحرم ومحاصرة ابن الزبير، فإنه قد كلت شوكته، وملت جماعته، وتفرق عنه عامة أصحابه، وسأله أن يمده برجال أيضا.
فكتب عبد الملك إلى طارق بن عمرو يأمره أن يلحق بمن معه بالحجاج، وارتحل الحجاج من الطائف فنزل بئر ميمونة، وحصر ابن الزبير بالمسجد، فلما دخل ذو الحجة حج بالناس الحجاج في هذه السنة، وعليه وعلى أصحابه السلاح وهم وقوف بعرفات.
وكذا فيما بعدها من المشاعر، وابن الزبير محصور لم يتمكن من الحج هذه السنة، بل نحر بدنا يوم النحر، وهكذا لم يتمكن كثير ممن معه من الحج، وكذا لم يتمكن كثير ممن مع الحجاج وطارق بن عمرو أن يطوفوا بالبيت، فبقوا على إحرامهم لم يحصل لهم التحلل الثاني.
والحجاج وأصحابه نزول بين الحجون وبئر ميمونة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن جرير: وفي هذه السنة كتب عبد الملك إلى عبد الله بن خازم أمير خراسان يدعوه إلى بيعته ويقطعه خراسان سبع سنين، فلما وصل إليه الكتاب قال للرسول: بعثك أبو الذبان؟ والله لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك، ولكن كل كتابه فأكله.
وبعث عبد الملك إلى بكير بن وشاح نائب ابن خازم على مرو يعده بإمرة خراسان إن هو خلع عبد الله بن خازم، فخلعه، فجاء ابن خازم فقاتله فقتل في المعركة عبد الله بن خازم أمير خراسان، قتله رجل يقال له: وكيع بن عميرة، لكن كان قد ساعده غيره، فجلس وكيع على صدره وفيه رمق، فذهب لينوء فلم يتمكن من ذلك.
وجعل وكيع يقول: يا ثارات دَويلة - يعني: أخاه - وكان دويلة قد قتله ابن خازم، ثم إن ابن خازم تنخم في وجه وكيع.
قال وكيع: لم أر أحدا أكثر ريقا منه في تلك الحال، وكان أبو هريرة إذا ذكر هذا يقول: هذه والله هي البسالة.
وقال له ابن خازم: ويحك أتقتلني بأخيك؟ لعنك الله، أتقتل كبش مصر بأخيك العلج؟ وكان لا يساوي كفا من تراب - أو قال من نوىً -.
قال: فاحتز رأسه وأقبل بكير بن وشاح فأراد أخذ الرأس فمنعه منه بجير بن ورقاء فضربه بجير بعموده وقيده، ثم أخذ الرأس، ثم بعثه إلى عبد الملك بن مروان وكتب إليه بالنصر والظفر.
فسر بذلك سرورا كثيرا، وكتب إلى بكير بن وشاح بإقراره على نيابة خراسان.
وفي هذه السنة أخذت المدينة من ابن الزبير، واستناب فيها عبد الملك طارق بن عمرو، الذي كان بعثه مددا للحجاج.