البداية والنهاية/الجزء الثامن/ثم دخلت سنة ست وستين
ففيها: وثب المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب بالكوفة ليأخذوا ثأر الحسين بن علي فيما يزعم، وأخرج عنها عاملها عبد الله بن مطيع، وكان سبب ذلك أنه لما رجع أصحاب سليمان بن صرد مغلوبين إلى الكوفة وجدوا المختار بن أبي عبيد مسجونا فكتب إليهم يعزيهم في سليمان بن صرد، ويقول: أنا عوضه وأنا أقتل قتلة الحسين.
فكتب إليه رفاعة بن شداد وهو الذي رجع بمن بقي من جيش التوابين نحن على ما تحب، فشرع المختار يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
وقال لهم فيما كتب به إليهم خفية: أبشروا فإني لو قد خرجت إليهم جردت فيما بين المشرق والمغرب من أعدائكم السيف فجعلتهم بإذن الله ركاما، وقتلهم أفرادا وتوأما، فرحب الله بمن قارب منهم واهتدى، ولا يبعد الله إلا من أبى وعصى.
فلما وصلهم الكتاب قرؤوه سرا وردوا إليه: إنا كما تحب، فمتى أحببت أخرجناك من محبسك، فكره أن يخرجوه من مكانه على وجه القهر لنواب الكوفة، فتلطف فكتب إلى زوج أخته صفية، وكانت امرأة صالحة، وزوجها عبد الله بن عمر بن الخطاب.
فكتب إليه أن يشفع في خروجه عند نائبي الكوفة عبد الله بن يزيد الخطمي وإبراهيم بن محمد بن طلحة فكتب ابن عمر إليهما يشفع عندهما فيه، فلم يمكنهما رده، وكان فيما كتب إليهما ابن عمر: قد علمتما ما بيني وبينكما من الود، وما بيني وبين المختار من القرابة والصهر، وأنا أقسم عليكما لما خليتما سبيله والسلام.
فاستدعيا به فضمنه جماعة من أصحابه، واستحلفه عبد الله بن يزيد إن هو بغى للمسلمين غائلة فعليه ألف بدنة ينحرها تجاه الكعبة، وكل مملوك له عبد وأمة حر، فالتزم لهما بذلك، ولزم منزله، وجعل يقول: قاتلهما الله، أما حلفاني بالله، فإني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير.
وأما إهدائي ألف بدنة فيسير، وأما عتقي مماليكي فوددت أنه قد استتم لي هذا الأمر ولا أملك مملوكا واحدا، واجتمعت الشيعة عليه وكثر أصحابه وبايعوه في السر.
وكان الذي يأخذ البيعة له ويحرض الناس عليه خمسة، وهم السائب بن مالك الأشعري، ويزيد بن أنس، وأحمد بن شميط، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن شداد الجشمي.
ولم يزل أمره يقوى ويشتد ويستفحل ويرتفع، حتى عزل عبد الله بن الزبير عن الكوفة عبد الله بن يزيد، وإبراهيم بن محمد بن طلحة، وبعث عبد الله بن مطيع نائبا عليها، وبعث الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة نائبا على البصرة.
فلما دخل عبد الله بن مطيع المخزومي إلى الكوفة في رمضان سنة خمس وستين، خطب الناس وقال في خطبته: إن أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير أمرني أن أسير في فيئكم بسيرة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان.
فقام إليه السائب بن مالك الشيعي فقال: لا نرضى إلا بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا، ولا نريد سيرة عثمان - وتكلم فيه - ولا سيرة عمر، وإن كان لا يريد للناس إلا خيرا، وصدقه على ما قال بعض أمراء الشيعة.
فسكت الأمير وقال: إني سأسير فيكم بما تحبون من ذلك.
وجاء صاحب الشرطة وهو إياس بن مضارب البجلي إلى ابن مطيع فقال: إن هذا الذي يرد عليك من رؤوس أصحاب المختار، ولست آمن من المختار، فابعث إليه فاردده إلى السجن فإن عيوني قد أخبروني أن أمره قد استجمع له، وكأنك به وقد وثب في المصر.
فبعث إليه عبد الله بن مطيع زائدة بن قدامة وأميرا آخر معه، فدخلا على المختار فقالا له: أجب الأمير.
فدعا بثيابه وأمر بإسراج دابته، وتهيأ للذهاب معهما، فقرأ زائدة بن قدامة: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية [الأنفال: 30] . فألقى المختار نفسه وأمر بقطيفة أن تلقى عليه، وأظهر أنه مريض، وقال: أخبرا الأمير بحالي، فرجعا إلى ابن مطيع فاعتذرا عنه، فصدقهما ولها عنه.
فلما كان شهر المحرم من هذه السنة عزم المختار على الخروج لطلب الأخذ بثأر الحسين فيما يزعم، فلما صمم على ذلك اجتمعت عليه الشيعة وثبطوه عن الخروج الآن إلى وقت آخر، ثم أنفذوا طائفة منهم إلى محمد بن الحنفية يسألونه عن أمر المختار وما دعا إليه.
فلما اجتمعوا به كان ملخص ما قال لهم: إنا لا نكره أن ينصرنا الله بمن شاء من خلقه، وقد كان المختار بلغه مخرجهم إلى محمد بن الحنفية، فكره ذلك وخشي أن يكذبه فيما أخبر به عنه، فإنه لم يكن بإذن محمد بن الحنفية، وهمّ بالخروج قبل رجوع أولئك، وجعل يسجع لهم سجعا من سجع الكهان بذلك.
ثم كان الأمر على ما سجع به، فلما رجعوا أخبروه بما قال ابن الحنفية، فعند ذلك قوي أمر الشيعة على الخروج مع المختار بن أبي عبيد.
وقد روى أبو مخنف أن أمراء الشيعة قالوا للمختار: اعلم أن جميع أمراء الكوفة مع عبد الله بن مطيع وهم إلب علينا، وأنه إن بايعك إبراهيم بن الأشتر النخعي وحده أغنانا عن جميع من سواه.
فبعث إليه المختار جماعة يدعونه إلى الدخول معهم في الأخذ بثأر الحسين، وذكروه سابقة أبيه مع علي رضي الله عنه.
فقال: قد أجبتكم إلى ما سألتم، على أن أكون أنا ولي أمركم.
فقالوا: إن هذا لا يمكن، لأن المهدي قد بعث لنا المختار وزيرا له وداعيا إليه.
فسكت عنهم إبراهيم بن الأشتر فرجعوا إلى المختار فأخبروه.
فمكث ثلاثا ثم خرج في جماعة من رؤوس أصحابه إليه، فدخل علي بن الأشتر فقام إليه واحترمه وأكرمه وجلس إليه، فدعاه إلى الدخول معهم، وأخرج له كتابا على لسان ابن الحنفية يدعوه إلى الدخول مع أصحابه من الشيعة فيما قاموا فيه من نصرة آل بيت النبي ﷺ، والأخذ بثأرهم.
فقال ابن الأشتر: إنه قد جائتني كتب محمد بن الحنفية بغير هذا النظام.
فقال المختار: إن هذا زمان وهذا زمان.
فقال ابن الأشتر: فمن يشهد أن هذا كتابه؟
فتقدم جماعة من أصحاب المختار فشهدوا بذلك، فقام ابن الأشتر من مجلسه وأجلس المختار فيه وبايعه، ودعا لهم بفاكهة وشراب من عسل.
قال الشعبي: وكنت حاضرا أنا وأبي أمر إبراهيم بن الأشتر ذلك المجلس، فلما انصرف المختار قال إبراهيم بن الأشتر: يا شعبي ما ترى فيما شهد به هؤلاء؟
فقلت: إنهم قراء وأمراء ووجوه الناس، ولا أراهم يشهدون إلا بما يعلمون.
قال: وكتمته ما في نفسي من اتهامهم، ولكني كنت أحب أن يخرجوا للأخذ بثأر الحسين، وكنت على رأي القوم.
ثم جعل إبراهيم يختلف إلى المختار في منزله هو ومن أطاعه من قومه، ثم اتفق رأي الشيعة على أن يكون خروجهم ليلة الخميس لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة - سنة ست وستين -.
وقد بلغ ابن مطيع أمر القوم وما اشتوروا عليه، فبعث الشرط في كل جانب من جوانب الكوفة وألزم كل أمير أن يحفظ ناحيته من أن يخرج منها أحد، فلما كان ليلة الثلاثاء خرج إبراهيم بن الأشتر قاصدا إلى دار المختار في مائة رجل من قومه، وعليهم الدروع تحت الأقبية، فلقيه إياس بن مضارب فقال له: أين تريد يا ابن الأشتر في هذه الساعة؟ إن أمرك لمريب، فوالله لا أدعك حتى أحضرك إلى الأمير فيرى فيك رأيه.
فتناول ابن الأشتر رمحا من يد رجل فطعنه في ثغرة نحره فسقط، وأمر رجلا فاحتز رأسه وذهب به إلى المختار فألقاه بين يديه.
فقال له المختار: بشرك الله بخير، فهذا طائر صالح.
ثم طلب إبراهيم من المختار أن يخرج في هذه الليلة، فأمر المختار بالنار أن ترفع وأن ينادي شعار أصحابه: يا منصور أمت، يا ثارات الحسين.
ثم نهض المختار فجعل يلبس درعه وسلاحه وهو يقول:
قد علمت بيضاء حسناء الطلل * واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل
وخرج بين يديه إبراهيم بن الأشتر فجعل يتقصد الأمراء الموكلين بنواحي البلد فيطردهم عن أماكنهم واحدا واحدا.
وينادي بشعار المختار، وبعث المختار أبا عثمان النهدي فنادى بشعار المختار: يا ثارات الحسين.
فاجتمع الناس إليه من ههنا وههنا، وجاء شبث بن ربعي فاقتتل هو والمختار عند داره وحصره حتى جاء ابن الأشتر فطرده عنه، فرجع شبث إلى ابن مطيع وأشار عليه أن يجمع الأمراء إليه، وأن ينهض بنفسه، فإن أمر المختار قد قوي واستفحل.
وجاءت الشيعة من كل فج عميق إلى المختار، فاجتمع إليه في أثناء الليل قريب من أربعة آلاف، فأصبح وقد عبى جيشه وصلى بهم الصبح، فقرأ فيها: { والنازعات غرقا } و { عبس وتولى } في الثانية قال بعض من سمعه: فما سمعت إماما أفصح لهجة منه.
وقد جهز ابن مطيع جيشه ثلاثة آلاف عليهم شبث بن ربعي، وأربع آلاف أخرى مع راشد بن إياس بن مضارب، فوجه المختار بن الأشتر في ستمائة فارس وستمائة راجل إلى راشد بن إياس، وبعث نعيم بن هبيرة في ثلاثمائة فارس وستمائة راجل إلى شبث بن ربعي.
فأما ابن الأشتر فإنه هزم قرنه راشد بن إياس وقتله وأرسل إلى المختار يبشره، وأما نعيم بن هبيرة فإنه لقي شبث بن ربعي فهزمه شبث وقتله وجاء فأحاط بالمختار وحصره.
وأقبل إبراهيم بن الأشتر نحوه فاعترض له حسان بن فائد بن العبسي في نحو من ألفي فارس من جهة ابن مطيع، فاقتتلوا ساعة.
فهزمه إبراهيم، ثم أقبل نحو المختار فوجد شبث بن ربعي قد حصر المختار وجيشه، فما زال حتى طردهم فكروا راجعين، وخلص إبراهيم إلى المختار، وارتحلوا من مكانهم ذلك إلى غيره في ظاهر الكوفة.
فقال له إبراهيم بن الأشتر: اعمد بنا إلى قصر الإمارة فليس دونه أحد يرد عنه.
فوضعوا ما معهم من الأثقال، وأجلسوا هنالك ضعفة المشايخ والرجال، واستخلف على من هنالك أبا عثمان النهدي، وبعث بين يديه ابن الأشتر، وعبأ المختار جيشه كما كان، وسار نحو القصر.
فبعث ابن مطيع عمرو بن الحجاج في ألفي رجل، فبعث إليه المختار يزيد بن أنس وسار هو وابن الأشتر أمامه حتى دخل الكوفة من باب الكناسة، وأرسل ابن مطيع شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الحسين في ألفين آخرين، فبعث إليه المختار سعد بن منقذ الهمداني، وسار المختار حتى انتهى إلى سكة شبث.
وإذا نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة في خمسة آلاف، وخرج ابن مطيع من القصر في الناس، واستخلف عليه شبث بن ربعي، فتقدم ابن الأشتر إلى الجيش الذي مع ابن مساحق، فكان بينهم قتال شديد، قتل فيه رفاعة بن شداد أمير جيش التوابين الذين قدم بهم، وعبد الله بن سعد وجماعة غيرهم.
ثم انتصر عليهم ابن الأشتر فهزمهم، وأخذ بلجام دابة ابن مساحق فمت إليه بالقرابة، فأطلقه، وكان لا ينساها بعد لابن الأشتر.
ثم تقدم المختار بجيشه إلى الكناسة وحصروا ابن مطيع بقصره ثلاثا، ومعه أشراف الناس سوى عمرو بن حريث فإنه لزم داره، فلما ضاق الحال على ابن مطيع وأصحابه استشارهم فأشار عليه شبث بن ربعي أن يأخذ له ولهم من المختار أمانا، فقال: ما كنت لأفعل هذا وأمير المؤمنين مطاع بالحجاز وبالبصرة.
فقال له: فإن رأيت أن تذهب بنفسك مختفيا حتى تلحق بصاحبك فتخبره بما كان من الأمر وبما كان منا في نصره وإقامة دولته.
فلما كان الليل خرج ابن مطيع مختفيا حتى دخل دار أبي موسى الأشعري، فلما أصبح الناس أخذ الأمراء إليهم أمانا من ابن الأشتر فأمنهم، خرجوا من القصر وجاؤوا إلى المختار فبايعوه، ثم دخل المختار إلى القصر فبات فيه، وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر.
فخرج المختار إلى المسجد فصعد المنبر وخطب الناس خطبة بليغة، ثم دعا الناس إلى البيعة وقال: فوالذي جعل السماء سقفا مكفوفا والأرض فجاجا سبلا، ما بايعتم بعد بيعة علّي أهدى منها.
ثم نزل فدخل الناس يبايعونه على كتاب الله وسنة رسوله، والطلب بثأر أهل البيت، وجاء رجل إلى المختار فأخبره أن ابن مطيع في دار أبي موسى، فأراه أنه لا يسمع قوله، فكرر ذلك ثلاثا فسكت الرجل، فلما كان الليل بعث المختار إلى ابن مطيع بمائة ألف درهم.
وقال له: اذهب فقد أخذت بمكانك - وكان له صديقا قبل ذلك - فذهب ابن مطيع إلى البصرة وكره أن يرجع إلى ابن الزبير وهو مغلوب، وشرع المختار يتحبب إلى الناس بحسن السيرة، ووجد في بيت المال تسعة آلاف ألف.
فأعطى الجيش الذين حضروا معه القتال نفقات كثيرة، واستعمل على شرطته عبد الله بن كامل اليشكري، وقرب أشراف الناس فكانوا جلساءه، فشق ذلك على الموالي الذين قاموا بنصره، وقالوا: لأبي عمرة كيسان مولى غزينة - وكان على حرسه - قدم والله أبو إسحاق العرب وتركنا.
فأنهى ذلك أبو عمرة إليه، فقال: بل هم مني وأنا منهم، ثم قال: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ } [السجدة:22] .
فقال لهم أبو عمرة: أبشروا فإنه سيدنيكم ويقربكم، فأعجبهم ذلك وسكتوا.
ثم إن المختار بعث الأمراء إلى النواحي والبلدان والرساتيق، من أرض العراق وخراسان، وعقد الألوية والرايات، وقرر الإمارة والولايات، وجعل يجلس للناس غدوة وعشية يحكم بينهم، فلما طال ذلك عليه استقصى شريحا فتكلم في شريح طائفة من الشيعة.
وقالوا: إنه شهد حجر بن عدي، وأنه لم يبلغ عن هانئ بن عروة كما أرسله به، وقد كان علي بن أبي طالب عزله عن القضاء.
فلما بلغ شريحا ذلك تمارض ولزم بيته، فجعل المختار مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم عزله وجعل مكانه عبد الله بن مالك الطائي قاضيا.