البداية والنهاية/الجزء الثامن/فصل مسير إبراهيم بن الأشتر إلى عبيد الله بن زياد
وقال أبو مخنف عن مشايخه: ما هو إلا أن فرغ المختار من جبانة السبيع وأهل الكناسة، فما ترك ابن الأشتر إلا يومين حتى أشخصه إلى الوجه الذي كان وجهه فيه لقتال أهل الشام.
فخرج يوم السبت لثمان بقين من ذي الحجة سنة ست وستين، وخرج معه المختار يودعه في وجوه أصحابه، وخرج معهم خاصة المختار، ومعهم كرسي المختار على بغل أشهب ليستنصروا به على الأعداء، وهم حافون به يدعون ويستصرخون ويستنصرون ويتضرعون.
فرجع المختار بعد أن وصاه بثلاث قال: يا ابن الأشتر اتق الله في سرك وعلانيتك، وأسرع السير، وعاجل عدوك بالقتال.
واستمر أصحاب الكرسي سائرين مع ابن الأشتر، فجعل ابن الأشتر يقول: اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، سنة بني إسرائيل والذي نفسي بيده إذ عكفوا على عجلهم، فلما جاوز القنطرة هو وأصحابه رجع أصحاب الكرسي.
قال ابن جرير: وكان سبب اتخاذ هذا الكرسي ما حدثني به عبد الله بن أحمد بن شيبويه، حدثني أبي، ثنا سليمان، ثنا عبد الله بن المبارك، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، حدثني معد بن خالد، حدثني طفيل بن جعدة بن هبيرة قال: أعدمت مرة من الورق فإني كذلك إذ مررت بباب رجل هو جار لي له كرسي قد ركبه وسخ شديد، فخطر في بالي أن لو قلت في هذا، فرجعت فأرسلت إليه أن أرسل إلي بالكرسي.
فأرسل به، فأتيت المختار فقلت له: إني كنت أكتمك شيئا وقد بدا لي أن أذكره إليك.
قال: وما هو؟
قال: قلت: كرسي كان جعدة بن هبيرة يجلس عليه كأنه كان يرى أن فيه أثرة من علم.
قال: سبحان الله!! فلم أخرت هذا إلى اليوم؟ ابعثه إليَّ.
قال: فجئت به وقد غسل فخرج عودا ناضرا وقد شرب الزيت، فأمر لي باثني عشر ألفا، ثم نودي في الناس: الصلاة جامعة.
قال: فخطب المختار الناس فقال: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وأنه قد كان في بني إسرائيل تابوت يستنصرون به، وإن هذا مثله.
ثم أمر فكشف عنه أثوابه وقامت السبابية فرفعوا أيديهم وكبروا ثلاثا، فقام شبث بن ربعي فأنكر على الناس وكاد أن يُكَفر من يصنع بهذا التابوت هذا التعظيم.
وأشار بأن يكسر ويخرج من المسجد ويرمى في الخنس، فشكرها الناس لشبث بن ربعي.
فلما قيل: هذا عبيد الله بن زياد قد أقبل، وبعث المختار ابن الأشتر، بعث معه بالكرسي يحمل على بغل أشهب قد غشي بأثواب الحرير، عن يمينه سبعة وعن يساره سبعة.
فلما تواجهوا مع الشاميين كما سيأتي وغلبوا الشاميين وقتلوا ابن زياد، ازداد تعظيمهم لهذا الكرسي حتى بلغوا به الكفر.
قال الطفيل بن جعدة فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وندمت على ما صنعت، وتكلم الناس في هذا الكرسي وكثر عيب الناس له، فغيب حتى لا يرى بعد ذلك.
وذكر ابن الكلبي أن المختار طلب من آل جعدة بن هبيرة الكرسي الذي كان علي يجلس عليه فقالوا: ما عندنا شيء مما يقول الأمير، فألح عليهم حتى علموا أنهم لو جاؤوا بأي كرسي كان لقبله منهم.
فحملوا إليه كرسيا من بعض الدور فقالوا: هذا هو، فخرجت شبام، وشاكر، وسائر رؤس المختارية وقد عصبوه بالحرير والديباج.
وحكى أبو مخنف: أن أول من سدن هذا الكرسي موسى بن أبي موسى الأشعري، ثم أن الناس عتبوا عليه في ذلك فرفعه إلى حوشب البرسمي، وكان صاحبه حتى هلك المختار قبحه الله.
ويروى أن المختار كان يظهر أنه لا يعلم بما يعظم أصحابه هذا الكرسي، وقد قال في هذا الكرسي أعشى همدان:
شهدت عليكم أنكم سبائية * وأني بكم يا شرطة الشرك عارف
وأقسم ما كُرْسِيُّكُمْ بسكينةٍ * وإن كان قد لفت عليه اللفائف
وأن ليس كالتابوت فينا وإن سعت * شبام حواليه ونهد وخارف
وإني امرؤٌ أحببت آل محمدٍ * وتابعت وحيا ضمنته المصاحف
وتابعت عبد الله لما تتابعت * عليه قريشٌ شمطها والغطارف
وقال المتوكل الليثي:
أبلغ أبا إسحاق إن جئته * أني بِكُرْسِيُّكم كافر
تنزوا شبامٌ حول أعواده * وتحمل الوحي له شاكر
محمرةٌ أعينهم حوله * كأنهن الحمص الحادر
قلت: هذا وأمثاله مما يدل على قلة عقل المختار وأتباعه، وضعفه علمه وكثرة جهله، ورادءة فهمه، وترويجه الباطل على أتباعه وتشبهه الباطل بالحق ليضل به الطغام، ويجمع عليه جهال العوام.
قال الواقدي: وفي هذه السنة وقع في مصر طاعون هلك فيه خلق كثير من أهلها.
وفيها: ضرب الدنانير عبد العزيز بن مروان بمصر، وهو أول من ضربها بها.
قال صاحب مرآت الزمان وفيها: ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين.
وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك ويذكر مساوي بني مروان، ويقول: إن النبي ﷺ لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله ﷺ ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه.
وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة.
وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنع ابن الزبير عليه، وكان يشنع عليه بمكة ويقول: ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء، كما فعل معاوية.
ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال، ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغا ولا يتوقفا فيه.
فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت من أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون، وعملا للقبة جلالين أحدهما من اليود الأحمر للشتاء، وآخر من أدم للصيف، وحفا القبة بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداما بأنواع الطيب والمسك والعنبر والماورد والزعفران، ويعملون منه غالية ويبخرون القبة والمسجد من الليل.
وجعل فيها من قناديل الذهب والفضة وسلاسل الذهب والفضة شيئا كثيرا، وجعل فيها العود القماري المغلف بالمسك وفرشاها والمسجد بأنواع البسط الملونة.
وكانوا إذا أطلقوا البخور شم من مسافة بعيدة، وكان إذا رجع الرجل من بيت المقدس إلى بلاده توجد منه رائحة المسك والطيب والبخور أياما، ويعرف أنه قد أقبل من بيت المقدس، وأنه دخل الصخرة، وكان فيه من السدنة والقوم القائمين بأمره خلق كثير، ولم يكن يومئذٍ على وجه الأرض بناء أحسن ولا أبهى من قبة صخرة بيت المقدس، بحيث إن الناس التهوا بها عن الكعبة والحج، وبحيث كانوا لا يلتفتون في موسم الحج وغيره إلى غير المسير إلى بيت المقدس.
وافتتن الناس بذلك افتنانا عظيما، وأتوه من كل مكان، وقد عملوا فيه من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئا كثيرا مما في الآخرة، فصوروا فيه صورة الصراط وباب الجنة، وقدم رسول الله ﷺ، ووادي جهنم، وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك وإلى زماننا.
وبالجملة أن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وأنواع باهرة.
ولما فرغ رجاء بن حيوة، ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال.
وقيل: ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما: قد وهبته منكما.
فكتبا إليه: إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نسائنا.
فكتب إليهما: إذ أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث.
فلما كان في خلافة أبي جعفر المنصور قدم بيت المقدس في سنة أربعين ومائة، فوجد المسجد خرابا، فأمر أن يقلع ذلك الذهب والصفائح التي على القبة والأبواب، وأن يعمروا بها ما تشعث في المسجد، ففعلوا ذلك.
وكان المسجد طويلا فأمر أن يؤخذ من طوله ويزداد في عرضه، ولما كمل البناء كتب على القبة ممايلي الباب القبلي: أمر ببنائه بعد تشعيثه أمير المؤمنين عبد الملك سنة اثنتين وستين من الهجرة النبوية، وكان طول المسجد من القبلة إلى الشمال سبعمائة وخمسة وستون ذراعا، وعرضه أربعمائة وستون ذراعا، وكان فتوح القدس سنة ستة عشر والله سبحانه وتعالى أعلم.