البداية والنهاية/الجزء الثامن/مقتل المختار بن أبي عبيد على يدي مصعب بن الزبير
كان عبد الله بن الزبير قد عزل في هذه السنة عن نيابة البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع، وولاها لأخيه مصعب بن الزبير، ليكون ردا وقرنا وكفؤا للمختار.
فلما قدم مصعب البصرة دخلها متلثما فيمم المنبر، فلما صعده قال الناس: أمير أمير، فلما كشف اللثام عرفه الناس فأقبلوا إليه وجاء القباع فجلس تحته بدرجة، فلما اجتمع الناس قام مصعب خطيبا فاستفتح القصص حتى بلغ { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعا } [القصص: 4] وأشار بيده نحو الشام أو الكوفة.
ثم قال: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ } [القصص: 5] وأشار إلى الحجاز.
وقال: يا أهل البصرة إنكم تلقبون أمراءكم، وقد سميت نفسي الجزار، فاجتمع عليه الناس وفرحوا له، ولما انهزم أهل الكوفة حين خرجوا على المختار فقهرهم وقتل منهم من قتل، كان لا ينهزم أحد من أهلها إلا قصد البصرة.
ثم خرج المختار ليلتقي بالذي جاء بالرؤوس والبشارة، فاغتنم من بقي بالكوفة من أعداء المختار غيبته فذهبوا إلى البصرة فرارا من المختار لقلة دينه وكفره، ودعواه أنه يأتيه الوحي وأنه قدم الموالي على الأشراف، واتفق أن ابن الأشتر حين قتل ابن زياد واستقل بتلك النواحي، فأحرز بلادا وأقاليم ورساتيق لنفسه.
واستهان بالمختار، فطمع مصعب فيه وبعث محمد بن الأشعث بن قيس على البريد إلى المهلب بن أبي صفرة، وهو نائبهم على خراسان، فقدم في تجمل عظيم ومال ورجال، وعَدَدٍ وعِددٍ، وجيش كثيف، ففرح به أهل البصرة وتقوى به مصعب، فركب في أهل البصرة ومن اتبعهم من أهل الكوفة فركبوا في البحر والبر قاصدين الكوفة.
وقدم مصعب بين يديه عباد بن الحصين، وجعل على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر، وعلى الميسرة المهلب بن أبي صفرة، ورتب الأمراء على راياتها وقبائلها، كمالك بن مسمع، والأحنف بن قيس، وزياد بن عمر، وقيس بن الهيثم وغيرهم.
وخرج المختار بعسكره فنزل المدار وقد جعل على مقدمته أبا كامل الشاكري، وعلى ميمنته عبد الله بن كامل، وعلى ميسرته عبد الله بن وهب الجشمي، وعلى الخيل وزير بن عبد الله السلولي، وعلى الموالي أبا عمرة صاحب شرطته.
ثم خطب الناس وحثهم على الخروج، وبعث بين يديه الجيوش، وركب هو وخلق من أصحابه وهو بيشرهم بالنصر، فلما انتهى مصعب إلى قريب الكوفة لقيتهم الكتائب المختارية فحملت عليهم الفرسان الزبيرية، فما لبثت المختارية إلا يسيرا حتى هربوا على حمية، وقد قتل منالمي: لما انتهت مقدمة المختار إليه جاء مصعب فقطع الدجلة إلىة وقد حصن المختار القصر واستعمل عليه عبد الله بن شداد، وخرج المختار بمن بقي معه فنزل حروراء، فلما قرب جيش مصعب منه جهز إلى كل قبيلة كردوسا.
فبعث إلى بكر بن وائل سعيد بن منقذ، وإلى عبد القيس مالك بن منذر، وإلى العالية عبد الله بن جعدة، وإلى الأزد مسافر بن سعيد، وإلى بني تميم سليم بن يزيد الكندي، وإلى محمد بن الأشعث السائب بن مالك.
ووقف المختار في بقية أصحابه فاقتتلوا قتالا شديدا إلى الليل، فقتل أعيان أصحاب المختار، وقتل تلك الليلة محمد بن الأشعث وعمير بن علي بن أبي طالب، وتفرق عن المختار باقي أصحابه، فقيل له: القصر القصر.
فقال: والله ما خرجت منه وأنا أريد أن أعود إليه، ولكن هذا حكم الله، ثم ساروا إلى القصر فدخل وجاءه مصعب ففرق القبائل في نواحي الكوفة، واقتسموا المحال، وخلصوا إلى القصر، وقد منعوا المختار المادة والماء، وكان المختار يخرج فيقاتلهم ثم يعود إلى القصر.
ولما اشتد عليه الحصار قال لأصحابه: إن الحصار لا يزيدنا إلا ضعفا، فانزلوا بنا حتى نقاتل حتى الليل حتى نموت كراما، فوهنوا فقال: أما فوالله لا أعطي بيدي.
ثم اغتسل وتطيب وتحنط وخرج فقاتل هو ومن معه حتى قتلوا.
وقيل: بل أشار عليه جماعة من أساورته بأن يدخل القصر دار إمارته، فدخله وهو ملوم مذموم، وعن قريب ينفذ فيه القدر المحتوم، فحاصره مصعب فيه وجميع أصحابه حتى أصابهم من جهد العطش ما الله به عليم، وضيق عليهم المسالك والمقاصد، وانسدت عليهم أبواب الحيل وليس فيهم رجل رشيد ولا حليم.
ثم جعل المختار يجيل فكرته ويكرر رويته في الأمر الذي قد حل به، واستشار من عنده في هذا السبب الشيء الذي قد اتصل سببه بسببه من الموالي والعبيد، ولسان القدر والشرع يناديه: { قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [سبأ: 49] .
ثم قوي عزمه قوة الشجاعة المركبة فيه، على أن أخرجته من بين من كان يحالفه ويواليه، ورأى أن يموت على فرسه، حتى يكون عليها انقضاء آخر نفسه، فنزل حميةً وغضبا، وشجاعة وصلبا، وهو مع ذلك لا يجد مناصا ولا مفرا ولا مهربا، وليس معه من أصحابه سوى تسعة عشر، ولعله إن كان قد استمر على ما عاش عليه أن لا يفارقه التسعة عشر الموكلون بسقر.
ولما خرج من القصر سأل أن يخلى سبيله فيذهب في أرض الله، فقالوا له: إلا على حكم الأمير.
والمقصود: أنه لما خرج من القصر تقدم إليه رجلان شقيقان أخوان، وهما: طرفة وطراف ابنا عبد الله بن دجاجة من بني حنيفة، فقتلاه بمكان الزياتين من الكوفة، واحتزا برأسه وأتيا به إلى مصعب بن الزبير، وقد دخل قصر الإمارة، فوضع بين يديه، كما وضع رأس ابن زياد بين يدي المختار.
وكما وضع رأس الحسين بين يدي ابن زياد، وكما سيوضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بن مروان، فلما وضع رأس المختار بين يدي مصعب أمر لهما بثلاثين ألفا.
وقد قتل مصعب جماعة من المختارية، وأسر منهم خمسمائة أسير، فضرب أعناقهم عن آخرهم في يوم واحد، وقد قتل من أصحاب مصعب في الوقعة محمد بن الأشعث بن قيس، وأمر مصعب بكف المختار فقطعت وسمرت إلى جانب المسجد، فلم يزل هناك حتى قدم الحجاج فسأل عنها.
فقيل له: هي كف المختار، فأمر بها فرفعت وانتزعت من هنالك، لأن المختار كان من قبيلة الحجاج.
والمختار هو الكذاب، والمبير الحجاج، ولهذا أخذ الحجاج بثأره من ابن الزبير فقتله وصلبه شهورا.
وقد سأل مصعب أم ثابت بنت سمرة بن جندب امرأة المختار عنه، فقالت: ما عسى أن أقول فيه إلا ما تقولون أنتم فيه.
فتركها واستدعى بزوجته الأخرى، وهي: عمرة بنت النهمان بن بشير، فقال لها: ما تقولين فيه؟
فقالت: رحمه الله، لقد كان عبدا من عباد الله الصالحين.
فسجنها وكتب إلى أخيه إنها تقول: إنه نبي، فكتب إليه أن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إلى ظاهر البلد فضربت ضربات حتى ماتت.
فقال في ذلك عمر بن أبي رمثة المخزومي:
إن من أعجب العجائب عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
قتلت هكذا على غير جرمٍ * إن لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول
وقال أبو مخنف: حدثني محمد بن يوسف أن مصعبا لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فسلم عليه فقال ابن عمر: من أنت؟
فقال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير.
فقال له ابن عمر: نعم، أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة؟ عش ما استطعت.
فقال له مصعب: إنهم كانوا كفرة سحرة.
فقال ابن عمر: والله لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا.