البداية والنهاية/الجزء الثامن/قصة يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري مع ابني زياد عبيد الله وعباد
ذكر ابن جرير: عن أبي عبيدة معمر بن المثنى وغيره أن هذا الرجل كان شاعرا، وكان مع عباد بن زياد بسجستان، فاشتغل عنه بحرب الترك، وضاق على الناس علف الدواب، فقال ابن مفرغ شعرا يهجو به ابن زياد على ما كان منه فقال:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا * فنعلفها خيول المسلمينا
وكان عباد بن زياد عظيم اللحية كبيرها جدا، فبلغه ذلك فغضب وتطلبه فهرب منه وقال فيه قصائد يهجوه بها كثيرة فمن ذلك قوله:
إذا أودى معاوية بن حرب * فبشر شعب قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر * أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمرا فيه لبس * على خوف شديد وارتياع
وقال أيضا:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ * مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفً * وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد * كرحم الفيل من ولد الأتان
فكتب عباد بن زياد إلى أخيه عبيد الله وهو وافد على معاوية بهذه الأبيات، فقرأها عبيد الله على معاوية واستأذنه في قتله، فقال: لا تقتله، ولكن أدبه ولا تبلغ به القتل.
فلما رجع عبيد الله إلى البصرة استحضره وكان قد استجار بوالد زوجة عبيد الله بن زياد، وهو المنذر بن الجارود، وكانت ابنته بحرية عند عبيد الله، فأجاره وآواه إلى داره، وجاء الجارود مسلما على عبيد الله، وبعث عبيد الله الشرط إلى دار المنذر فجاؤوا بابن مفرع فأوقف بين يديه.
فقال المنذر: إني قد أجرته.
فقال: يمدحك ويمدح أباك فترضى عنه، ويهجوني ويهجو إلى ثم تجيره عليّ.
ثم أمر عبيد الله بابن مفرع فسقي دواء مسهلا وحملوه على حمار عليه إكاف وجعلوا يطوفون به في الأسواق وهو يسلح والناس ينظرون إليه، ثم أمر به فنفي إلى سجستان إلى عند أخيه عباد، فقال ابن مفرغ لعبيد الله بن زياد:
يغسل الماء ما صنعت وقولي * راسخ منك في العظام البوالي
فلما أمر عبيد الله بنفي ابن مفرغ إلى سجستان، كلم اليمانيون معاوية في أمر ابن مفرغ، وأنه إنما بعثه إلى أخيه ليقتله، فبعث معاوية إلى ابن مفرغ وأحضره، فلما وقف بين يديه بكى وشكى إلى معاوية ما فعل به ابن زياد.
فقال له معاوية: إنك هجوته، ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟
فأنكر أن يكون قال من ذلك شيئا، وذكر أن القائل ذلك هو عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان، وأحب أن يسندها إليّ، فغضب معاوية على عبد الرحمن بن الحكم ومنعه العطاء حتى يرضى عنه عبيد الله بن زياد، وأنشد ابن مفرع ما قاله في الطريق في معاوية يخاطب راحلته:
عدسٌ ما لعباد عليك إمارة * نجوت وهذا تحملين طليق
لعمري لقد نجاك من هوة الردى * إمام وحبل للأنام وثيق سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ * ومثلي بشكر المنعمين حقيق
فقال له معاوية: أما لو كنا نحن الذين هجوتنا لم يكن من أذانا شيء يصل إليك، ولم نتعرض لذلك.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه ارتكب فيّ ما لم يرتكب مسلم من مسلم على غير حدث ولا جرم، قال: ألست القائل كذا؟ ألست القائل كذا؟ فقد عفونا عن جرمك، أما إنك لو إيانا تعامل لم يكن مما كان شيء فانظر الآن من تخاطب ومن تشاكل، فليس كل أحد يحتمل الهجاء، ولا تعامل أحدا إلا بالحسنى، وانظر لنفسك أي البلاد أحب إليك تقيم بها حتى نبعثك إليها، فاختار الموصل فأرسله إليها، ثم استأذن عبيد الله في القدوم إلى البصرة والمقام فأذن له.
ثم إن عبد الرحمن ركب إلى عبيد الله فاسترضاه فرضي عنه وأنشده عبد الرحمن:
لأنت زيادة في آل حربٍ * أحب إليّ من إحدى بناني
أراك أخا وعما وابن عمٍ * فلا أدري بغيبٍ ما تراني
فقال له عبيد الله: أراك والله شاعر سوء، ثم رضي عنه وأعاد إليه ما كان منعه من العطاء.
قال أبو معشر، والواقدي: وحج بالناس في هذه السنة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وكان نائب المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى الكوفة النعمان بن بشير، وقاضيها شريح، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى سجستان عباد بن زياد، وعلى كرمان شريك بن الأعور والحارثي، من قبل عبيد الله بن زياد.
من توفي في هذه السنة من الأعيان
قال ابن الجوزي: توفي فيها أسامة بن زيد، والصحيح قبلها كما تقدم.