ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه
فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه ﷺ ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه
قال علي : وإذا ورد خبر صحيح، وفيه أن رسول الله ﷺ رأى أمراً كذا فحكم فيه بكذا، فإن الواجب أن نحكم في ذلك الأمر بمثل ذلك الحكم ولا بد، لأنه كسائر أوامره التي قدمنا وجوبها؛ وذلك مثل ما روي أنه رأى رجلاً يصلي منفرداً خلف الصفوف، فأمره بالإعادة.
ورأى رجلاً يحتجم فقال: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ وَالمَحْجُومُ» وأتي بشارب فجلده، فاعترض قوم فقالوا: لعله ﷺ إنما أمره بالإعادة ليس من أجل انفراده، ولكن لغير ذلك، وأن الحجام والمحجوم، كانا يغتابان الناس.
قال علي : وهذا لا يجوز لوجوه خمسة:
أحدها: أنه ﷺ مأمور بالتبليغ، فلو أمر إنساناً بإعادة صلاة أبطلها عليه، ولم يبين ﷺ ، وجه بطلانها لكان ﷺ غير مبلغ وقد نزهه الله تعالى عن ذلك، ولكان غير مبين ومن نسب هذا إلى النبي ﷺ فقد كفر.
والوجه الثاني: أن يقول القائل: لعله ﷺ قد بيّن ذلك ولم يصل إلينا.
قال علي : فمن قال ذلك أكذبه الله عز وجل بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وبقوله تعالى عن نبيه ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } فصح أن كلامه كله وحي، وأن الوحي محفوظ لأنه ذكر، فلو بيّنه ﷺ ولم ينقل إلينا لكان غير محفوظ، وقد أكذب الله تعالى هذا القول، لأنه لم ينقل أحد أنه أمره بالإعادة لغير الانفراد.
والوجه الثالث: أن أحاديث كثيرة ثبتت بفرض تسوية الصفوف فيها، وفيها إبطال صلاة من صلى منفرداً، وقد ذكرناها في الفصل الذي فيه ترجيح الأحاديث في باب الأخبار من كتابنا هذا.
والرابع: إن نقل الناقل الثقة أنه صلى منفرداً فأعاد نقل وإنذار ببطلان صلاة المنفرد عنه ﷺ ، فواجب قبوله.
والخامس: أن قول القائل لعله كان هنالك سبب لم ينقل إلينا ظن.
وقد قال تعالى: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } .
وقال ﷺ : «الظَّنُّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» ولا يحل ترك نقل الثقات لظنون زائفات.
وأما تخريج من خرج منهم: أن الحاجم والمحجوم كانا يغتابان الناس، فإنهم استجاروا من الرمضاء بالنار، وهم لا يرون إفطار الصائم بالغيبة، فقد عصوا على كل حال، ولولا أن الرخصة وردت صحيحة من الحجامة للصائم، لأوجبنا الإفطار بها، ولكن استعمال الأحاديث يوجب قبول الرخصة، لأنها متيقنة بعد النهي، إذ لا تكون لفظة الرخصة إلا عن شيء تقدم التحذير منه، ولهذا الحديث أجزنا الحجامة للصائم، وأن يكون حاجماً ومحجوماً على ظاهر لفظ الأحاديث، لا بالحديث الذي يقول: احتجم رسول الله ﷺ وهو صائم، لأنه ليس في ذلك الحديث دليل على أنه كان بعد النهي فهو موافق لمعهود الأصل ولا فيه بيان أيضاً، أنه كان في صيام فرض لا يجوز الإفطار فيه، بل لعله كان في تطوع يجوز الإفطار فيه، أو في سفر كما جاء في بعض تلك الأحاديث: أنه كان صائماً محرماً ﷺ وبالله تعالى التوفيق.