ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في تناقض القائلين بالوقف
فصل في تناقض القائلين بالوقف
هاك نبذ من تناقض القائلين بالوقف ، وحملهم أوامر كثيرة على وجوبها وعن ظاهرها بغير قرينة ولا دليل ، إلا مجرد الأمر، وصيغة اللفظ فقط، وما تعدوا فيه طريق الحق، إلى أن أوجبوا فرائض لا دليل على إيجابها، يدل على كثير تناقضهم وفساد قولهم.
قال علي : إن القائلين بالوقف من المالكيين والشافعيين والحنفيين قد أوجبوا أحكاماً كثيرة بأوامر وردت لا قرينة معها، فكان نقضاً لمذهبهم في الوقف، وما قنعوا بذلك حتى أوجبوا فرائض بلا أوامر أصلاً، فمن أعجب ممن لم يوجب بأمر الله تعالى إنفاذ ما أمر به، وأوجب أحكاماً بغير أمر من الله تعالى ، فمن ذلك أن المالكيين قالوا في قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } فأبطلوا البيع بمجرد هذا الأمر، ولم يقنعوا بذلك حتى أبطلوا ما لم يبطل الله عز وجل من النكاح، والإجازة تعدياً لحدوده تعالى، وقد تعلل بعضهم في هذا بأن لفظة {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } لا يقع إلا للفرض .
قال علي : وهذا ما لا يعرفه حامل لغة من العرب.
وقد قال تعالى : {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ }
أفترى «ذر» في هذا المكان موجبة ترك الكفارة، دون وعظ ودعاء إلى الإيمان وقتل موسى وإغرام جزية وصغار وقال في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } و: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } و: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } هذه فرائض
وقالوا في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ }
فقالوا: ليس هذا فرضاً، مع أمره عليه السلام من عنده شيء يوصي فيه: أن لا يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، ففرقوا بلا دليل
وقالوا في قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } هذا فرض
وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } قالوا: هذا فرض
وكذلك قالوا في هدي العمرة وجزاء الصيد، وقالوا بفرض التكبير في أول الصلاة والتسليم منها ذلك فرض، وقالوا في حكم المصراة ذلك فرض، وقالوا في التقويم على الشريك المعتق ذلك فرض، وأوجبوا الزكاة في أموال الصغار بعموم قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وبقوله ﷺ : «إِنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» ، ولم يوجبوا صدقة الفطر فرضاً وقد جاء النص بأنه ﷺ فرضها، وهي داخلة في جملة قوله ﷺ : «إِنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً» وفي جملة قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
وأجبوا الزكاة في الزيتون بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } ولم يروها في الرمان، وقد ذكرهما تعالى في الآية ذكراً واحداً، وأوجبوا غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً لو ورد الأمر بذلك فقط.
وأما الحنفيون فإنهم رأوا ألا تقف المرأة مع الرجل في الصلاة فرضاً، ورأوا الاستسعاء فرضاً، ولم يروا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضاً ولا مكاتبة من دعا إلى المكاتبة فرضاً وكل ذلك مأمور به، ورأوا تمتيع المطلقة التي لم تمس ولم يفرض لها صداق فرضاً بقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ} ولم يروا ذلك فرضاً لسائر المطلقات وقد قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } ومثل هذا كثير.
ورأى الشافعيون: الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة فرضاً، ولم يروا التكبير في الركوع والرفع فرضاً، وقد جاء به الأمر، ورأوا النية في الوضوء فرضاً، ولم يروا فعل الاستنثار فرضاً، وبكل ذلك جاء الأمر سواء، ورأوا الخيار قبل التفرق في البيع فرضاً، ولم يروا الإشهاد فيه فرضاً، وبكل ذلك جاء الأمر.
ومثل هذا كثير : ورأوا الإيتاء من مال الله للمكاتب فرضاً ولم يروا كتابة من دعا إلى المكاتبة مما ملكت أيمانكم فرضاً، وكلاهما جاء به الأمر مجيئاً مستوياً، وفيم ذكرنا طرف يستدل به على تناقض من قال بالوقف وبالله تعالى التوفيق.
وقد ذكرنا أقسام الأوامر في كتاب التقريب فأغنى عن إعادتها، وسنذكر إن شاء الله تعالى الدلائل المخرجة للأمر عن موضوعه في الإيجاب إلى سائر أقسامه، في فصل آخر باب العموم التالي لكلامنا في هذا إن شاء الله عز وجل، وبالله تعالى التوفيق، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم، والله الموفق للصواب.