ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور
فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور
قال علي : اختلف الناس :
فقالت طائفة : إذا ورد الأمر بصورة خطاب الذكور، فهو على الذكور دون الإناث، إلا أن يقوم دليل على دخول الإناث فيه، واحتجوا بأن قالوا: إن لكل معنى لفظاً يعبر عنه، فخطاب النساء افعلن، وخاطب الرجال: افعلوا، فلا سبيل إلى إيقاع لفظ على غير ما علق عليه إلا بدليل.
قال علي : وبهذا نأخذ، وهو الذي لا يجوز غيره، والدليل الذي استدلت به الطائفة الأولى هو أعظم الحجة عليهم، وهو دليلنا على إبطال قولهم، لأن لكل معنى لفظاً يعبر به كما قالوا ولا بد، ولا خلاف بين أحد من العرب، ولا من حاملي لغتهم أولهم عن آخرهم، في أن الرجال والنساء، وأن الذكور والإناث إذا اجتمعوا وخوطبوا أخبر عنهم، أن الخطاب والخبر يردان بلفظ الخطاب، والخبر عن الذكور إذا انفردوا ولا فرق، وأن هذا أمر مطرد أبداً على حالة واحدة، فصحّ بذلك أنه ليس لخطاب الذكور خاصة لفظ مجرد في اللغة العربية غير اللفظ الجامع لهم وللإناث، ألا أن يأتي بيان زائد بأن المراد الذكور دون الإناث، فلما صح لم يجز حمل الخطاب على بعض ما يقتضيه دون بعض إلا بنص أو بإجماع، فلما كانت لفظة «افعلوا» والجمع بالواو والنون وجمع التكسير يقع على الذكور والإناث معاً، وكان رسول الله ﷺ مبعوثاً إلى الرجال والنساء بعثاً مستوياً، وكان خطاب الله تعالى، وخطاب نبيه للرجال والنساء خطاباً واحداً ـــــ لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلا بنص جليّ أو إجماع لأن ذلك تخصيص الظاهر، وهذا غير جائز، وكل ما لزم القائلين بالخصوص فهو لازم لهؤلاء، وسيأتي ذلك مستوعباً في بابه إن شاء الله تعالى.
فإن قالوا: فأوجبوا الجهاد فرضاً على النساء قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق، لولا قول رسول الله ﷺ لعائشة إذ استأذنته في الجهاد «لَكِنْ أَفْضَلُ الجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ» لكان الجهاد عليهن فرضاً، ولكن بهذا الحديث علمنا أن الجهاد على النساء ندب لا فرض، لأنه ﷺ لم ينهها عن ذلك، ولكن أخبرها أن الحج لهن أفضل منه، ومما يبين صحة قولنا أن عائشة وهي حجة في اللغة لما سمعت الأمر بالجهاد قدَّرت أن النساء يدخلن في ذلك الوجوب حتى بيّن النبي لها أنه عليهم ندب لا فرض، وأن الحج لهن أفضل منه، ونحن لا ننكر صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة، بدليل من نص أو إجماع، أو بضرورة طبيعة تدل على أنه مصروف عن موضوعه، وإنما يبطل دعوى من ادعى صرف اللفظ عن موضوعه في اللغة بلا دليل، فلم ينكر النبي عليها حملها الخطاب بلفظ خطاب الذكور على عموم دخول النساء في ذلك وفي هذا كفاية لمن عقل.
فإن قالوا : فأوجبوا عليهن النفار للتفقه في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
قلنا: وبالله تعالى التوفيق: نعم هذا واجب عليهن كوجوبه على الرجال وفرض على كل امرأة النفقة في كل ما يخصها كما ذلك فرض على الرجال ففرض على ذات المال منهن معرفة أحكام الزكاة، وفرض عليهن كلهن معرفة أحكام الطهارة والصلاة والصوم، وما يحل وما يحرم من المآكل والمشارب والملابس وغير ذلك كالرجال ولا فرق، ولو تفقهت امرأة في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها، وقد كان ذلك، فهؤلاء أزواج النبي ﷺ ، وصواحبه قد نقل عنهن أحكام الدين، وقامت الحجة بنقلهن، ولا خلاف بين أصحابنا وجميع أهل نحلتنا في ذلك، فمنهن سوى أزواجه ﷺ : أم سليم، وأم حرام، وأم عطية، وأم كرز، وأم شريك، وأم الدرداء، وأم خالد، وأسماء بنت أبي بكر، وفاطمة بنت قيس، ويسرة، وغيرهن، ثم في التابعين عمرة، وأم الحسن، والرباب، وفاطمة بنت المنذر، وهند الفراسية، وحبيبة بنت ميسرة، وحفصة بنت سيرين، وغيرهن.
ولا خلاف بين أحد من المسلمين قاطبة في أنهن مخاطبات بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } و {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } و {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } و {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } و {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } و {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } و {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً }
وسائر أوامر القرآن، وإنما من لجأ إلى هذه المضايق في مسألة أو مسألتين تحكموا فيها وقلدوا، فاضطروا إلى مكابرة العيان، ودعوى خروج النساء من الخطاب بلا دليل، ثم رجعوا إلى عمومهن مع الرجال، بلا رقبةٍ ولا حَياء.
قال علي : وقد قال اللـه تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } .
وقال أيضاً: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } فنادى ﷺ بطون قريش بطناً بطناً ثم قال: يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، فأدخل النساء مع الرجال في الخطاب الوارد كما نرى.
فإن قال قائل: فقد قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
وقال زهير:
فالجواب وباللـه تعالى التوفيق : إن اللفظ إذا جاء مراداً به بعض ما يقع تحته في اللغة وبين ذلك دليل فلسنا ننكره فقد قال تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } ، فلا خلاف بين لغوي وشرعي أن هذا الخطاب متوجه إلى كل آدمي من ذكر أو أنثى، ثم قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } فقام الدليل على أن المراد ههنا بعض الناس لا كلـهم، فوجب الوقوف عند ذلك لقيام الدليل عليه، ولولا ذلك لما جاز أن يكون محمولاً إلا على عموم الناس كلـهم.
قال أبو محمد : وقد سأل عمرو بن العاص رسول اللـه ﷺ : أي الناس أحب إليك ؟ فقال: «عَائِشَةُ» قال: ومن الرجال ؟ قال : «أَبُوها»
ثناه عبد اللـه بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، أنبأ يحيى، ثنا خالد بن عبد اللـه، عن خالد هو الحذاء عن أبي عثمان هو النهدي قال أخبرني عمرو بن العاص عن رسول اللـه ﷺ ، ورسول اللـه ﷺ أعلم الناس باللغة التي بعث بها، فحمل اللفظ على عمومه في دخول النساء مع الرجال حتى أخبره السائل أنه أراد بعض من يقع عليه الاسم الذي خاطب به فقبل ذلك منه ﷺ ، وهذا هو نص مذهبنا، وهو أن نحمل الكلام على عمومه، فإذا قام دليل على أنه أراد به الخصوص صرنا إليه، ولا خلاف بين المسلمين في أن قولـه تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } واقع على إناث الخنازير كوقوعها على ذكورها بنفس اللفظ للنوع كلـه.
وقد اعترض بعضهم بحديث ذكروه من طريق أم سلمة رضي الله عنها فيه: أن النساء شكون وقلن ما نرى الله تعالى يذكر إلا الرجال فنزلت: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
قال علي : وهذا حديث لا يصح البتة، ولا روي من طريق يثبت، حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، قال أحمد بن عبد البصير: ثنا قاسم بن إصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن بشار بندار، ثنا أبو داود الطيالسي، ثنا شعبة، عن حصين قال: سمعت عكرمة يقول: قالت أم عمار: يا رسول الله ﷺ يذكر الرجال في القرآن ولا يذكر النساء، قال فنزلت {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } .
قال علي : وهذا مرسل كما نرى لا تقوم به حجة، وثناه أيضاً محمد بن سعيد النباتي، ثنا أحمد بن عبد البصير، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا الخشني، ثنا محمد بن المثنى، حدثنا مؤمل، ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال : قالت أم سلمة: يذكر الرجال في الهجرة ولا نذكر، فنزلت: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } وقالت أم سلمة: يا رسول الله ﷺ لا نقطع الميراث ولا نغزو في سبيل الله فنقتل، فنزلت: {وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } وقالت أم سلمة: يذكر الرجال ولا نذكر، فنزلت: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً }
قال علي : ويقال إن التفسير لم يسمعه ابن أبي نجيح من مجاهد، ثنا بذلك يحيى بن عبد الرحمن، عن أحمد بن دحيم، عن إبراهيم بن حماد، عن إسماعيل بن إسحاق، ولم يذكر مجاهد سماعاً لهذا الخبر عن أم سلمة، ولا يعلم له منها سماع أصلاً، وإنما صح أنهن قلن: يا رسول الله ﷺ غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً، فجعل لهن عليه السلام يوماً وعظَهُنَّ فيه وأمرهُنَّ بالصدقة، وكذلك صحّ ما روي في خطبته ﷺ في العيد، وأمره النساء أن يشهدن، ثم رأى ﷺ أنه لم يسمعهن فأتاهن فوعظهن قائماً، أتاهن ﷺ إذ خشي أنهن لم يسمعن وإلا فقد كان يكفيهن جملة كلامه على المنبر.
قال أبو محمد : والصحيح من هذا ما حدثناه عبد الله بن يوسف بالسند المتقدم ذكره إلى مسلم، حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، وأبو معن الرقاشي، وأبو بكر نافع، وعبد الله بن حميد، قال هؤلاء الثلاثة: ثنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، ثنا أفلح بن سعيد، حدثنا عبد الله بن رافع، وقال يونس بن عبد الأعلى: ثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو هو ابن الحارث أن بكيراً حدثه عن القاسم بن عباس الهاشمي، عن عبد الله بن رافع، مولى ابن أم سلمة، عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض ولم أسمع ذلك من رسول الله ﷺ فلما كان يوماً من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله ﷺ يقول: «أَيُّهَا النَّاسُ» ، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت إني من الناس، ثم ذكرت الحديث.
قال علي : في هذا بيان دخول النساء مع الرجال في الخطاب الوارد بصيغة خطاب الذكور.
قال أبو محمد : واحتج بعضهم بقوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِـظَاتِ وَالذَّاكِـرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً }
فالجواب وبالله التوفيق: أنه لا ينكر التأكيد والتكرار، وقد ذكر الله تعالى الملائكة ثم قال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } وهما من الملائكة ويكفي من هذا ما قدمناه من أوامر القرآن المتفق على أن المراد بهذا الرجال والنساء معاً بغير نص آخر، ولا بيان زائد إلا اللفظ، وكذلك قوله: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
بيان جليّ على أن المراد بذلك الرجال والنساء معاً، لأنه لا يجوز في اللغة أن يخاطب الرجال فقط، بأن يقال لهم: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
وإنما كان يقال من أنفسكم فإن قالوا: قد تيقنَّا أن الرجال مرادون بالخطاب الوارد بلفظ الذكور، ولم نوقن ذلك في النساء، فالتوقف فيهن واجب، قيل له: قد تيقنا أن رسول الله مبعوث إليهن كما هو إلى الرجال، وإن الشريعة التي هي الإسلام لازمة لهن كلزومها للرجال، وأيقنا أن الخطاب بالعبادات والأحكام متوجه إليهن، كتوجهه إلى الرجال إلا ما خصهن أو خصّ الرجال منهن دليل، وكل هذا يوجب ألا يفرد الرجال دونهن بشيء قد صحّ اشتراك الجميع فيها إلا بنص أو إجماع وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وإن العجب ليكثر ممن قال بخلاف قولنا من الحنفيين والمالكيين ثم هم يأتون إلى خطاب النبي للرجل الواطىء في رمضان بالكفارة، فقالوا: الواجب على المرأة من مثل ذلك ما على الرجل، فأي مجاهرة أشنع من مجاهرة من يأتي إلى خطاب عام لجميع أهل الإسلام فيريد إخراج النساء منه، ثم يأتي إلى خطاب لرجل منصوص عليه لم يذكر معه غيره، فيريدون إلزامه النساء بلا دليل ثم تناقضوا في ذلك، فألزموا الموطوءة الواطىء ولا نصّ في الموطوءة، ولم يلزموا المظاهرة ما ألزموا المظاهر، والعلة على قولهم واحدة وهي قوله: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
والمظاهرات قد قالت ذلك، وقد أوجب عليها مثل ما يجب على المظاهر قوم كثير من العلماء، وهكذا أحكام من تعدى حدود الله عز وجل، واتبع الرأي والقياس، وبالله تعالى التوفيق.