ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في مسائل من العموم والخصوص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال علي: ومما تناقض فيه القائلون بتخصيص النصوص بالقياس: أن قالوا بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } فقالوا: المدخول بها وغير المدخول بها سواء، ولم يقيسوا غير المدخول بها في الوفاة على غير المدخول بها في الطلاق، كما قاس بعضهم الإحداد على المطلقة ثلاثاً، على الإحداد على المتوفى عنها زوجها، فإن كان القياس حقّاً فليستعملوه في كل مشتبهين، وإن كان باطلاً فليجتنبوه. قال: ومما خص بالإجماع قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فخص بنص السنة العبد بأنه لا يرث وخصت السنة أيضاً الكافر بأنه لا يرث المسلم، ولا المسلم الكافر. وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

وقال رسول الله : «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيانُ» فخص الكتاب قائل الخطأ بوجوب الكفارة عليه، وخصّ الإجماع المنقول من أحدث ناسياً أنه منتقض الوضوء، وقد ادعى قوم أن حدّ العبد مخصوص بالقياس على حد الأمة. قال علي: وقد أفكوا في ذلك، بل جاء النص بأن حد العبد مخالف لحد الحر في حديث دية المكاتب من طريق علي رضي الله عنه، وابن عباس رضي الله عنهما.

وقالوا أيضاً في قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أنه خص منها جزاء الصيد في أنه لا يؤكل منه بالإجماع، وهدي المتعة قيس عليه. قال علي: هذا خطأ، إنما أمر تعالى بالأكل من التطوع ما لم يعطب قبل محله، وأما كل هدي واجب فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فلما كانت هذه الواجبات كلها مأموراً بإخراجها من أموالنا، وكان ذلك مسقطاً لملكنا عنها كانت قد انتقلت إما إلى ملك المساكين، وإما إلى ملك الله عز وجل، لا بد من أحد الوجهين المذكورين، وما خرج عن ملكنا فلا يحل لنا أن ننصرف فيه إلا بنص مبيح أو إجماع والعجب من حملهم أمر الله تعالى بالأكل منها والإطعام، على أن ذلك غير واجب، ثم أرادوا أن يخصموا منها بقياس لا يشبه ما أرادوا تشبيهه به، نعني هدي المتعة بهدي الجزاء، فهلا إذ قاسوا هدي المتعة على هدي الجزاء قاسوا صيام الجزاء على صيام المتعة، ولكن هذا في تناقضهم يسير جدّاً، وأيضاً فلا إجماع في تحريم الأكل من جزاء الصيد، وقد روينا عن بعض التابعين إباحة الأكل منه. قال علي: وقال بعضهم: كيف تتركون ظاهر القرآن الذي من أنكره أو شك فيه كفر، لخبر واحد لا تكفرون ما خالفكم فيه، ولا تفسقونه؟ قال علي: فيقال لهم: وبالله تعالى التوفيق: القطع على وجوب الائتمار لهما معاً واحد بالدلائل التي قد ذكرناها في باب إثبات العمل بخبر الواحد من هذا الكتاب، وكلاهم وحي من عند الله تعالى، والقطع في المراد منهما بالمغيب منهما معاً إنما هو على حسب الظاهر منهما، وإنما يكفر من أنكر تنزيل القرآن أو تنزيل بعضه فقط، وأما إن أنكر الأخذ بظاهره، وتأول في آياته تأويلات لا يخرج بها عن الإجماع، فإننا لا نكفره ما لم تقم الحجة عليه، كما لا نكفر من خالفنا في قبول خبر الواحد ما لم تقم الحجة عليه، وكلا الأمرين سواء، ولو أن امرأً يقول: لا أقبل ما قال رسول الله لكان كافراً مشركاً كمن أنكر القرآن أو شكّ فيه ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق.