ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في كيفية ورود الأمر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في كيفية ورود الأمر

قال علي : الأوامر الواجبة ترد على وجهين:

أحدهما: بلفظ افعل، أو افعلوا .

والثاني: بلفظ الخبر إما بجملة فعل وما يقتضيه من فاعل أو مفعول، وإما بجملة ابتداء وخبر.

فأما الذي يرد بلفظ افعل أو افعلوا، فكثير واضح مثل: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وما أشبه ذلك.

وأما الذي يرد بلفظ الخبر وبجملة فعل وما يقتضيه فكقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا } وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } وكقوله تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ } {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } و {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ } و: « أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَة أَعْظُمٍ» ، وما أشبه ذلك، وكثير من الأوامر التي ذكرنا وردت كما ترى بمفعول لم يسم فاعله، ولكن لما قال عز وجل وقوله الحق على نبيه  : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }

علمنا يقيناً لا مجال للريب فيه، أنه لا ينقل أمراً ولا نهياً إلا عن ربه تعالى، فكان السكوت عن تسمية الآمر والناهي عز وجل وذكره سواء في صحة فهمنا أن المراد بأحكام الشريعة هو الله تعالى وحده لا من سواه.

وأما ما ورد من هذا بجملة لفظ ابتداء وخبر فكقوله تعالى: { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } ، { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } ، { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } ، {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } )، {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ } ، { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، ومثل هذا كثير.

قال علي : فلا طريق لورود الأوامر والشرائع الواجبة إلا على هذين الوجهين فقط، فأما عنصر الأمر والنهي، فإنما هو ما ورد بلفظ: افعل أو لا تفعل، فهذه صيغة لا يشركه فيها الخبر المجرد الذي معناه معنى الخبر المحض، ولا يشركه فيها التعجب، ولا يشركه فيها القسم، وإنما يشركه في هذه الصيغة الطَّلبيَّةَ فقط، فما كان منها إلى الله عز وجل فهو الدعاء فقط، وما كان منها إلى من دونه تعالى، فهو الرغبة. وقد يسمى الدعاء إلى الله عز وجل أيضاً رغبة ولا يسمى الدعاء على الإطلاق إلا ما كان طلبة إلى الله عز وجل، حتى إذا جاز أضيف أن ينسب إلى غير الله تعالى، فنقول: ادع فلاناً بمعنى ناده.

قال علي : وأما المقدمات المأخوذة لإنتاج النتائج في المناظرة، فإنما الأصل فيها أن تصاغ بصيغة الخبر، مثل قوله  : «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» النتيجة فكل مسكر حرام.

إلا أننا في مناظرتنا أهل ملتنا وأهل نحلتنا فيما تنازعنا فيه، قد غنينا عن ذلك، لاتفاقنا على أن لفظ افعل، مقدمة مقبولة تقوم بها الحجة فيما بيننا قياماً تاماً.

قال علي : ويميز ما جاء في الأوامر بلفظ الأخبار، مما جاء بلفظ الخبر ومعناه الخبر المجرد، بضرورة العقل، فإن قول الله عز وجل: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } هو بمنزلة قوله تعالى: { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } في ظاهر ورود الأمر إلا أن أحد اللفظين خبر مجرد لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الخبر، والآخر لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الأمر، وإنما علمنا ذلك لأن الجزاء بجهنم لا يجوز أن نؤمن نحن به، لأن ذلك ليس في وسعنا، وقد أمننا الله من أن يأمرنا بما ليس في وسعنا قال الله عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } وأما التحرير للرقبة، وتسليم الدية، فبضرورة العقل علمنا أن ذلك من مقدوراتنا ومما لا يفعله الله عز وجل دون توسط فاعل منا، فبهذا يتميز ما كان الخبر معناه الأمر، وما كان منه مجرداً للخبر في معناه ولفظه. وقد اعترض قوم من الملحدين علينا في قوله: { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } وأرادوا أن يحملوا ذلك على أنه خبر في معناه ولفظه.

قال علي : وهذا خطأ بنص القرآن، وبضرورة المشاهدة، أما نص القرآن؛ فقوله تعالى: { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } فارتفع ظن من ظن أن قول الله عز وجل: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } خبر وكيف يكون ذلك وقد أمر تعالى بقتل من قاتلنا فيه وعنده. وأما ضرورة المشاهدة، فما قد تيقناه مما وقع فيه من القتل مرة بعد مرة، على يدي الحصين بن نمير، والحجاج بن يوسف، وابن الأفطس العلوي، وإخوانهم القرامطة، والله تعالى لا يقول إلا حقّاً، فصح أن معنى قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } إنما هو أمر بالبرهانين الضروريين اللذين قدمناهما.

وكذلك نقول : إنه لا يحل أن يقام في شيء من الحرم حدّ على أحد، بوجه من الوجوه، ولا بسجن، ولا تعزير ولا قطع، ولا جلد، ولا قصاص، ولا رجم، ولا قتل، لا في ردة، ولا في زنى، ولا في غير ذلك.

حاشا من قاتلنا فيه فقط على نص القرآن، وبهذا جاء الخبر عن رسول الله .

وأما من أجاز أن يخالف الله تعالى ورسوله ويقتدي بعمرو بن سعيد، ويزيد، والحجاج، والحصين بن نمير، فيقيم فيه الحدود ويقتل فيه من استحق القتل عنده في غيره، فليفكر فيما يلزمه من تكذيب ربه، وله ما اختار من اتباع من اتبع، وخلاف الله تعالى ورسوله ليتخلص من السؤال الذي ذكرناه آنفاً، ولو قدر على ذلك لما قدر على التخلص من عصيان نبيه في قوله  : «إِنَّها إِنَّما أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحُلَّ لَكُمْ ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِها بِالأَمْسِ إِلى يَوْمِ القِيَامَةِ لا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ» وبيَّن بنص كلامه، أنه ليس لأحد أن يترخص في ذلك لأجل قتاله عليه السلام، ونص على أن ذلك خاص له.

قال علي : وهذا خبر على التأبيد، وأمر على التأكيد، لا يجوز أن يدخل فيه نسخ أبداً لنصه ، على أن ذلك باق إلى يوم القيامة، فمن أجاز ورود نسخ لهذا، فقد أجاز الكذب من الرسول ، ومن أجاز ذلك فهو كافر مشرك حلال الدم والمال، وسبحان من يسر لهؤلاء القوم عكس الحقائق، فيجعلون ما قد جاء النص فيه بأنه خاص عامّاً، وما جاء فيه النص بأنه عام خاصّاً، وبالله تعالى نتأيد. وإنما سفك فيها الدماء المباحة، ونهى عن الاقتداء به ذلك جملة، وقولنا في هذا هو قول عبد الله بن عمر وعطاء وغيرهما، وكان عبد الله بن عمر يقول: لو لقيت فيها قاتل عمر، ما ندهته.

قال علي : فما ورد من الأوامر والنواهي على الصفتين المذكورتين فهو فرض أبداً ما لم يرد نص أو إجماع على أنه منسوخ، أو أنه مخصوص، أو أنه ندب، أو أنه بعض الوجوه الخارجة عن الإلزام على ما سنفرد لها فصلاً في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال علي : وأما صورة الندب، فهو أن يرد اللفظ: «أو» بمدح الفاعل أو للفعل مثل قوله إذ قال: «يهلكُ الناسُ هذا الحَيَّ مِنْ قُرَيْشٍ» ثم قال  : «لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ» فكان هذا ندباً إلى ترك القتال مع التأولين منهم، ومثل قوله  : «لَوْ اغْتَسَلْتُمْ»

وإنما أوجبنا غسل الجمعة بحديث آخر فيه لفظ الايجاب، وأما المدح فمثل قوله تعالى: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } فكان ذلك حضّاً على مثل فعلهم وهو الاستنجاء بالماء، ومثل إخباره  : «أنَّ لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِالله كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنَّةِ» وما أشبه ذلك.

فما جاء باللفظ الذي ذكرنا فهو ندب لا إيجاب، يعلم ذلك بصيغة اللغة ومراتبها، علم بضرورة لا يفهم سواه.

قال علي : وأما أمر الإباحة فإنه يراد بلفظ «أو» مثل قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ومثل قوله ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً، وأن العجب ليكثر ممن حمل ما روى النبي أنه أمر به الواطىء في رمضان، من صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكيناً، أو تحرير رقبة على التخيير. وقد روى حديث صحيح بالترتيب في ذلك، ثم رأى من رأيه أن يحمل قوله في الوقوف بعرفة ليلاً أو نهاراً على إيجاب الوقوف ليلاً ولا بد، ويكفي هذا القول وصفه.

وقد يرد أيضاً لفظ الإباحة «بلا حرج وبلا جناح» مثل قوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، وقوله ، وقد سئل عن تقديم الرمي على الحلق وعلى النحر، وتقديم الحلق على النحر وعلى الرمي: «لا حَرَجَ. لا حَرَجَ» .

قال علي : وبهذا النص صحّ لنا أن قوله عز وجل: { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } أنه ليس المراد به النحر، ولكن بلوغ وقت الإحلال بالنحر مع موافقة قولنا لظاهر الآية دون تكلف تأويل بلا دليل ومثل قوله تعالى: { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } ومثل قوله تعالى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ومثل قوله: { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً }

وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } وقوله تعالى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } يريد تعالى قبل تمام الحولين بنص الآية، وقوله تعالى: { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } وقوله تعالى: { فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } وقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ } وقوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً } وقوله تعالى: { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وقوله تعالى: { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } وقوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أو قوله تعالى: { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ } .

قال علي : وهذا هو المعهود في اللغة: ومن أراد أن يجعل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } حجة في إيجاب الطواف بين الصفا والمروة فرضاً على الحاج وعلى المعتمر، فقد أغفل جداً لأنه يلزمه مع مخالفة مفهوم اللغة أن يقول في الآيات التي تلونا آنفاً: إن كل ما ذكر فيها فرض، فإن افتداء المرأة من زوجها فرض، وإن مراجعة المطلق ثلاثاً للمطلقة بعد طلاق الزوج الثاني لها فرض، وإن قصر الصلاة فرض، وإن طلاق المرأة قبل أن تمس فرض، وإن تصالحهما على فطام الولد قبل الحولين فرض، وكذلك سائر ما في تلك الآية.

قال علي : وإنما واجبنا السعي بينهما فرضاً لحديث أبي موسى الأشعري، إذ أمره عليه السلام بالطواف بينهما، ولولا ذلك الحديث ما كان السعي بينهما فرضاً، لا في عمرة ولا في حج، وبالله تعالى التوفيق.

وإنما قلنا أيضاً : بوجوب القصر فرضاً لقوله ، «فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» وبأحاديث أخر صح بها وجوب قصرها.

وكل لفظ ورد بـــــ«عليكم» فهو فرض، وكل أمر ورد بـــــ«لكم» أو «بأنه صدقة» فهو ندب، لأن علينا إيجاب، ولنا صدقة إنما معناها الهبة، وليس قبول الهبة فرضاً إلا أن يؤمر بقبولها فيكون حينئذ فرضاً، ومما تحل به الأوامر على الندب أن يرد استثناء يعقبه في تخيير المأمور، مثل قوله تعالى في الديات: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً } وفي وجوب الصداق: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وفي قضاء الدين: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وما أشبه ذلك، وهذا معلوم كله بموضوع اللغة ومراتبها، وبالله التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | تتمة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | فصل في كيفية ورود الأمر | فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها | فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي | فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين | فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي | فصل في الأمر | فصل في التخيير | فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة | فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور | فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟ | فصل في أمره عليه السلام واحداً هل يكون أمراً للجميع ؟ | فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه | فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين | فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض | فصل في تناقض القائلين بالوقف | حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | تتمة حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | فصل في بيان العموم والخصوص | فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها | فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه | فصل في مسائل من العموم والخصوص | فصل من الكلام في العموم