ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي
فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي
قال علي : النهي مطابق لمعنى الأمر لأن النهي أمر بالترك، وترك الشيء ضد فعله، وليس عن الشيء أمراً بخلافه الأخص، ولا بضده الأخص، وتفسير الضد الأخص أنه المضاد في النوع، وتفسير الضد الأعم أنه المضاد في الجنس، فإذا قلت للإنسان لا تتحرك فقد ألزمته السكون ضرورة، لأنه لا واسطة بين الضد الأعم، وبين ضده، فمن خرج من أحدهما دخل في الآخر، وهذا الذي سميناه في كتاب التقريب المنافي، وأما من نهيته عن نوع من أنواع الحركة فليس ذلك أمراً بضده، مثال ذلك : لو قلت لآخر : لا تقم فإنك لم تأمره بالجلوس ولا بد، لأن بين الجلوس والقيام وسائط من الاتكاء والركوع والسجود والانحناء والاضطجاع، فأيها فعل فليس عاصياً لك في نهيك إياه عن القيام، وكذلك لو قيل لإنسان : لا تلبس السواد فليس في ذلك إيجاب لباسه البياض ولا بد، بل إن لبس الحمرة والصفرة أو الخضرة، لم يكن بذلك عاصياً، بل مؤتمراً في تركه السواد، وبالله تعالى التوفيق.
وأما الأمر : فهو نهي عن فعل كل ما خالف العمل المأمور، وعن كل ضد له خاص أو عام، فإنك إذا أمرته بالقيام فقد نهيته عن القعود والاضطجاع والاتكاء والانحناء والسجود، وعن كل هيئة حاشا القيام، وإنما كان هكذا لأن ترك أفعال كثيرة مختلفة في وقت واحد واجب موجود ضرورة، لأن من قام فقد ترك كل فعل خالف القيام كما أخبرنا في حال قيامه.
وأما الإتيان بأفعال كثيرة في وقت واحد، وهي مختلفة متنافية ومتضادة، فمحال لا سبيل إليه ألا ترى من سافر فإنما يمشي إلى جهة واحدة وهو تارك لكل جهة غير التي توجه نحوها، ولا يمكنه أن يتوجه إلى جهتين في وقت واحد بفعله نفسه. وتخالف أيضاً بنية النهي بنية الأمر في وجه آخر، وهو أن ما ورد نهياً بلفظ «أو» فهو نهي عن الجميع، مثل قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } ومثل قولك لا تقتل زيداً أو عمراً أو خالداً، فهو يقتضي النهي عن قتلهم كلهم، وما ورد أمراً بلفظ، «أو» فهو تخيير في أحد الأقسام المذكورة مثل قولك: كُلْ خبزاً أو تمراً أو لحماً، وخذ هذا أو هذا.
والنهي يقتضي اجتناب المنهى عنه، كما أن الأمر يقتضي إتيان المأمور به، وقد بينا أن النهي عن الشيء أمر بتركه، والأمر بالترك يقتضي وجوب الترك، وبيّنا أن الأمر بالشيء نهي عن تركه، فالنهي عن الترك يقتضي الفعل الذي بوقوعه يرتفع تركه، وبالله تعالى التوفيق.
وقد اعترض في هذا بعض أهل الشغب فقال: لو كان الأمر بالشيء نهياً عن تركه، أو كان النهي عن الشيء أمراً بتركه، لكان العلم بالشيء جهلاً بضده.
قال علي : وحكاية هذا الكلام الساقط تغني عن تكلف الرد عليه، لأنه رام التشبيه بين ما لا تشابه بينه، وهو بمنزلة من قال: لو كان الموت ضد الحياة لكان السمع ضد البصر، ومثل هذا من الغثائث ينبغي لمن كان به رمق أن يرغب بنفسه عنه، ولكن من لم يعد كلامه من عمله كثرت أهذاره، ومن لم يستح فعل ما شاء، وأما العلم بالشيء، فهو على الحقيقة عدم العلم بضده، لأن علمك بأن زيداً حي، وهو عدم العلم، وبطلان العلم بأنه ميت، وقول القائل: لا نأكل لا شك عند كل ذي حسَ أن معناه: اترك الأكل ولا فرق.
وهذا من المتلائمات .
وقد أفردنا لهذا باباً في كتاب «التقريب» وبطل مما ذكرنا قول من قال: النهي نوع من أنواع الأمر، وقول من قال: الأمر نوع من أنواع النهي وصحّ أن كل أمر فهو أيضاً نهي، وكل نهي فهو أيضاً أمر.
فإن قال قائل: قد يرد أمر ليس فيه نهي عن شيء أصلاً، وهو أمر الإجابة.
وقال آخر: قد يرد نهي ليس فيه معنى من الأمر أصلاً، وهو نهي عن الاختيار للترك.
قال علي : كلاهما مخطىء، أما الأمر بالإباحة فإنما معناه إن شئت افعل، وإن شئت لا تفعل، فليس مائلاً إلى الأمر إلا كميله إلى النهي ولا فرق، وكذلك القول في نهي الاختيار للترك، وهو الكراهية ولا فرق، وهكذا أمر الندب ولا فرق، وفيه معنى إباحة الترك موجود، وبالله تعالى التوفيق.