ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال علي: وأما النص الذي يصح البرهان على أنه ليس على عمومه، فقد قال قوم الباقي على عمومه، وقال بعضهم ــــــ وهو عيسى بن أبان الحنفي قاضي البصرة ـــــ: لا نأخذ منه إلا ما اتفق عليه. قال علي: والصحيح من ذلك أنه كان من النصوص التي لو تركنا وظاهرها لم يفهم منه المراد ــــــ فإننا لا نأخذ منها إلا ما يبينه نص آخر أو إجماع، وذلك مثل: أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأيضاً فإن الله تعالى نص لنا على الصلاة والزكاة بالألف واللام، والألف واللام إنما يقعان على معهود، ولا يفهم من هذا الظاهر كيفية الصلاة والزكاة الواجبين علينا فوجب أن يطلب بيانهما من نصوص أخر أو إجماع، وقد أخبرنا تعالى أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها، وليس في وسعنا أن نفهم استقبال الكعبة والإتيان بأربع ركعات للظهر في كل ركعة سجدتان، وثلاث للمغرب من قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولا في وسعنا أن نفهم إعطاء شاة من خمس من الإبل، وما يجب من الزكاة من البقر والغنم من قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } ولأجل هذا النص منعنا من أن يكون تعالى يكلفنا ما لا نطيق، وأما لو شاء ذلك تعالى لكان حسناً في العقل، ولو أنه تعالى كلفنا شرب ماء البحر في جرعة، ثم يعذبنا إن لم نفعل لكان ذلك عدلاً وحقّاً، ولكنه تعالى قد تفضّل علينا وآمننا من ذلك ولم يكلفنا ما لا نطيق، فله الحمد والشكر لا إله إلا هو.

وكذلك قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ليس فيها بيان كيفية تلك الصدقة، ولا متى تؤخذ أفي كل يوم أم في كل شهر أم في كل عام؟ أم مرة في الدهر؟ ولا مقدار ما يؤخذ ولا من أي مال، ففي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } عمومان اثنان أحدهما: الأموال، والثاني: الضمير الراجع إلى أرباب الأموال، فأما عموم الأموال: فقد صح الإجماع المنقول جيلاً جيلاً إلى رسول الله أنه لم يوجب الزكاة إلا في بعض الأموال دون بعض، مع أن نص الآية يوجب ذلك، لأنه إنما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فالظاهر يقتضي أن ما أخذ مما قل أو كثر فقد أخذ من أموالهم كما أمر، وقوله عليه السلام إذ سئل عن الحمير: أفيها زكاة أم لا على أن هذا اللفظ ليس مراداً به جميع الأموال، وقد قال عليه السلام: «إِنَّ أَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وقال عليه السلام: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» ، ونص عليه السلام على أنه لا يحل له أخذ مال أحد إلا بطيب نفسه وليست الزكاة كذلك، بل هم مقاتلون إن منعوها.

وأيضاً فإن لفظة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } في قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } إنما هي للتبعيض وأيضاً فلو كانت الأموال مرادة على عمومها لكان ذلك ممتنعاً، لأن ذلك كان يوجب الأخذ من كل بُرَّة، ومن كل خردلة، ومن كل سمة، لأن كل ذلك أموال، فلما صح بكل ما ذكرنا أنه تعالى لم يرد كل مال وجب طلب معرفة الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومقدار ما يؤخذ منها، ومتى يؤخذ من نص آخر، أو من الإجماع إذ قد ثبت أن المأخوذ هو شيء من بعض ما يملكونه، فلا بد من بيان ذلك الشيء المراد، فإنه إذا أخذ شيء يقع عليه اسم شيء واحد من جميع أموالهم، فقد أخذ من أموالهم، وكان هذا أيضاً موافقاً للظاهر وغير مخالف له البتة، وليس إلا هذا الوجه، إلا أن يوجب أكثر منه نص أو إجماع، لأنه قد تعذر الوجه الثاني، وهو أن يؤخذ من كل مال جزء، وإذا لم يكن لشيء إلا قسمان فسقط أحدهما ثبت الآخر، فلو لم تأت نصوص وإجماع على الأخذ من المواشي والذهب والفضة والبر والشعير والتمر، لما وجب إلا ما يقع عليه اسم أخذ، لأجزأ إعطاء برَّة واحدة أو شعيرة واحدة، أو أي شيء أعطاه المرء، ولكن النصوص والإجماع على ما ذكرنا، فرض الوقوف عندهما. وأما العموم الثاني: وهو عموم أرباب الأموال فبين واضح، وهو من: كل إنسان ذي مال، فوجب استعماله على عمومه، إذ عرف مقدار ما يؤخذ، ومتى يؤخذ، ومما يؤخذ، فلا مخرج من ذلك إلا ما أخرجه نص أو إجماع على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما النص المفسر الذي يفهم معناه من لفظه، وكان يمكننا استعماله على عمومه ولو لم يأتنا غيره، فأتى نص آخر أو إجماع، فخص منه بعض ما يقع عليه الاسم، فإنه لا يخرج منه إلا ما أخرج النص والإجماع، والحجة في ذلك هي الحجج التي أثبتنا بها القول بالعموم في أول هذا الباب الذي نحن الآن في فصوله، ويلزم من قال: لا أبقي منه إلا ما جاء نص أو إجماع في بقائه أن يبيح دماء جميع الأمة إلا ما اتفق على تحريم دمه، لأن قوله عليه السلام: «دِماؤُكُمْ وَأَمْوالُكُم عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» لقد اتفق على أنه ليس على عمومه، بل لخص منه كثير كالزناة المحصنين، وقتلة الأنفس وغيرهم، فيلزمهم أن يقتلوا شارب الخمر في الرابعة، هذا لو لم يأت فيه نص، ولكن على أصلهم الفاسد، وأن يقتل الساحر إن كان حنفياً أو شافعياً، وأن يقتل السيد بعبده، والمؤمن بالكافر إن كان مالكياً، وإلا فقد تناقضوا وأقروا بأن العموم الذي قد خصّ بعضه، فإن باقيه على العموم أيضاً، إلا أن يخصه نص أو إجماع، ونحن نرى ــــــ إن شاء الله تعالى ـــــ مسألة فيها تخصيص مترادف مرآة لكيفية العمل فيما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق، فنقول: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فلا نص أكثر معاني ولا أعلم من هذا، وفيه إباحة النساء والمآكل كلها، وكل ما في الأرض. وقال تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } فلا شيء بعد النص المذكور آنفاً أعم ولا أكثر معاني من هذا النص الثاني. فلو لم يرد غيرهما لحرم النكاح جملة، والوطء بالبتة، ولكان النساء كلهن مستثنيات مما أبيح النص الأكثر المذكور آنفاً، فلو لم يرد غير هذين النصين لحرم النساء جملة. وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ } فكان هذا مبيحاً لما حظر النص المذكور الذي فيه حفظ الفروج، لو لم يرد غير هذه النصوص لوجب الأخذ بالتحريم، لأن الآية التي فيها إباحة النكاح موافقة للنص الأكثر الذي فيه إباحة كل ما في العالم، وإنما هي تأكيد وتكرار كسائر ما في القرآن من التكرار والتأكيد الذي أورده الله تعالى كما شاء، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } كما كرر تعالى أخبار الأنبياء عليهم السلام: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ } و {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فكرر إباحة نكاح النساء كما شاء.

ولسنا نقول: إن شيئاً من هذه النصوص قبل كل شيء، ولا أن شيئاً منها بعد شيء، وسواء نزل بعضها قبل بعض، أو نزلت معاً، لا فرق عندنا بين شيء من ذلك، وليس شيء مما نزل بعد رافعاً لشيء نزل قبل إلا بنص جلي في أنه رافع له، أو بإجماع على ذلك، وإلا فهو مضاف إليه ومعمول به معه ضرورة لا بد من ذلك، فلما صح ما قلنا من استثناء تحريم النكاح جملة مما أباح تعالى لنا، ووجدناه تعالى قد استثنى إباحة النكاح من حفظ الفروج استثناءً تامّاً بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } فصح يقيناً أن الزواج وملك اليمين مستثنى مما حرم من إهمال الفروج.

ثم وجدها هذا الاستثناء يحتمل أن يؤخذ به على عمومه، فيخص به من آية التحريم أشياء كثيرة: منها الأختان بملك اليمين، والأم والابنة بملك اليمين، والكتابية بملك اليمين، والحائض والمحرمة والصائمة فرضاً، والحريمة بصهر أو رضاع، ويحتمل ألا يخرج من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج جملة إلا ما خصّ نص جلي أو إجماع متيقن على إخراجه منه، فلو أخرجنا من النص الذي فيه تحريم إهمال الفروج كل ما يحتمل إخراجه، لكنا قد أسقطنا ما تيقنا وجوبه بما شككنا في إباحته، ونحن إذا لم نخرج منه إلا ما جاء نص جلي، أو إجماع بإخراجه منه، كنا قد علمنا بما تيقنا لزومه لنا من النص المبيح للوطء، وعلمنا أيضاً بما تيقنا وجوبه من النص الذي فيه التحريم، إذ في استعمالنا ما في إية إباحة الوطء كله رجوع إلى الأصل الأول الذي فيه إباحة كل ما في الأرض، وترك ما قد لزم إخراجه منه بيقين. فلو فعلنا ذلك لكنا متناقضين، لأنها ثلاثة نصوص كما ترى: نص عام، ثم آخر دونهما في العموم ثم ثالث دونهم معاً في العموم.

فإن قال قائل: بل نأخذ بالنص الأخص قلنا له وبالله التوفيق: إنك إن فعلت ذلك رجعت إلى قولنا، لأننا نوجد لا نصّاً أخص من النص الذي فيه إباحة الوطء فيلزمك أن تغلب هذا الأخص الذي هو نص رابع، وإلا نقضت قولك، وهو قول الله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } والمشركات من الكتابيات هن بعض من تملك أيماننا، وكذلك الأختان إذ ملكناهما.

وأما أصحابنا القياسيون فتناقضوا تناقضاً فاحشاً ظاهر الخطأ، لأنهم عمدوا إلى قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } إلى قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وإلى قوله سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } وهذه كما ترى آيات محرمات لنساء موصوفات، وعمدوا إلى قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } فاستثنوا الأختين بملك اليمين، والأم وابنتها بملك اليمين، والعمة وبنت أخيها بملك اليمين، والخالة وبنت الخالة بملك اليمين، من الآية التي فيها إباحة ملك اليمين. إلا أن يكون أختان معاً أو أم وابنة، أو عمة وبنت أخيها، فإن أولئك لا يحل وطؤهن، ثم إن يستثنوا الإماء الكتابيات بما أباحوه من ملك اليمين، فلو أن عاكساً عكس فأباح الأختين والأم والابنة بملك اليمين، وحرم الأمة الكتابية بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي فرق كان يكون بينهم إلا التحكم بلا دليل؟. فإن قالوا: قد أبيحت الكتابية، قيل لهم: أخطأتم إنما أبيحت بالزواج لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } فإنما أباح المحصنات الكتابيات بشرط إيتائهن الأجور، وإيتاؤهن الأجور لا يكون إلا في الزواج لا في ملك اليمين، وهذا ما لا شك فيه عند أحد، فبطل أن يكون المراد بالإباحة المذكورة الإماء الكتابيات، فبقين على أصل التحريم.

ولو أننا رضينا لأنفسنا من الحجة بنحو ما يرضون به لأنفسهم لقلنا لهم: إن قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } إنما قصد به الإماء لقوله تعالى في أثر ذلك: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }

ولكنا في ذلك نبين بأقوى مما يحتاجون به في أكثر مسائلهم: مثل احتجاجهم في إيجاب الخطبة بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ومثل احتجاجهم في عتق الأخ بقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } ومثل احتجاجهم في المنع من النفخ في الصلاة بقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } ومثل احتجاجهم في القسامة ببقرة بني إسرائيل.

ومثل هذا من التمويه البارد الفاسد الداخل في حدود هذيان المبرسمين، ولكن الله عز وجل قد أغنانا بالنصوص الظاهرة التي لا مجال للتأويل فيها، وبنصره تعالى لنا عن تكلف بنيات الطرق، وادعاء ما لا يصح، ومن أمكنته السيوف لم يفتقر إلى المحاربة بحطام التبن، ولا سيما من قال منهم: إن النص إذا خص بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما أجمع عليه، فإنه يقال له في هذا المكان: إباحة ملك اليمين قد خرج منه بالنص بالإجماع أشياء كثيرة فمنها الذكور والبهائم، والأم من الرضاع والأخت من الرضاع، وكل حريمة بصهر ورضاع، وكل حائض، وكل صائمة فرض، وأخرجت أنت منه الأختين والأم والابنة والعمة والخالة، فيلزمك ألاَّ تبيح مما بقي إلا ما اتفق عليه، ولم يتفق على إباحة الأمة الكتابية بملك اليمين، ولا جاء بها نص. فواجب عليك القول بتحريمها. ويقول لسائرهم: أنتم أهل القياس فقيسوا ما اختلفنا فيه من وطء الأمة الكتابية بملك اليمين على ما اتفقنا عليه من تحريم الأختين بملك اليمين، وسائر ما ذكرنا، ويقال للمالكيين منهم: أنتم تدخلون التحريم بأدق سبب ولا تدخلون التحليل إلا بأبين وجه، فحرموا الوطء للأمة الكتابية، إذ لا سبب معكم في تحليلها لا دقيق ولا جليل، ولكم في تحريمها أبين سبب فإن ادعوا إجماعاً أكذبهم ابن عمر، فقد صح عنه تحريم الكتابيات جملة، وتلا الآية التي ذكرنا.

قال علي: وأما جمهور أصحابنا الظاهريين، فإنهم سلكوا طريقة لهم في ترك ما ظاهره التعارض ــــــ قد بينا بطلانها ـــــ فجعلوا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } معارضاً لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ورجعوا إلى الأصل بالإباحة.

قال علي: وهذا خطأ شديد من كل وجه، وحتى لو كان التعارض موجوداً، وكان العمل صحيحاً لكان ههنا باطلاً، فكيف والتعارض غير موجود لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } ولقوله تعالى: والعمل المذكور عنهم فاسد بترك ما قد ثبت اليقين بوجوب الطاعة له. قال علي: ولو كان العمل المذكور صحيحاً لكان الرجوع إلى قوله تعالى: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } أولى منه إلى إباحة قد خص منها حفظ الفروج، ولكن الصواب ما بينا من استثناء الأقل معاني من الأكثر والعجب كل العجب من تحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين بلا خلاف منهم بقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } وإباحتهم لأمة الكتابية بملك اليمين بلا نص فيها أصلاً ولا إجماع، فخصوا قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } بلا دليل، وفرقوا بين الأمة الوثنية والكتابية بلا دليل. فإن قالوا: إن قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } إنما قصد به الزواج اخطؤوا من وجهين:

أحدهما: تخصيص العموم بلا دليل، والثاني: تناقضهم وتحريمهم الأمة الوثنية بملك اليمين، وإنما جاء نص الإباحة من الكتابيات بالزواج فقط فحرام أن يستثنى من تحريم المشركات بشيء غير الزواج وحده الذي استثني بالنص، ولا سيما وهم يبطلون القياس، إنما أباح الإماء بملك اليمين من أباحهن قياساً على الحرائر منهن في الزواج، والقياس باطل، فلم يبق إلا أن يقولوا: إن المشركات اسم لا يقع على الكتابيات، فإن قالوا هذا وكان القائل مالِكيّاً أو شافعيّاً تناقض في أنهم حملوا قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } على الكتابي كما حملوه على الوثني. وإن كان حنفيّاً تناقض في حمله قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الآية على الكتابي كحملهم إياها على الوثني، وبرهان ذلك قبولهم إسلامهم إن أسلم، وليس في آية حرب أهل الكتاب إلا {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فقط. وبالله التوفيق.

ومما احتج به عيسى بن أبان في قوله: إن النص إذا خصّ منه شيء وجب حمل سائره على الخصوص ـــــ أن قال: إن ذلك مثل شاهدين جرحا بقصة ما، فوجب على سائر شهادتهما في كل شيء. قال علي بن أحمد: وهذا القول فمع ما فيه من الاضطراب وتشبيهه بشيء لا يشبهه، إقدام عظيم على الله عز وجل وعلى رسوله ، ولو كان القياس حقّاً ـــــ وقد أعاذ الله تعالى من ذلك ــــــ لكان هذا القياس أحمق قياس في الأرض، فكيف والقياس كله باطل. ولله تعالى الحمد. فيقال لعيسى: ليت شعري ما الذي شبه كلام الله تعالى، وكلام رسوله الذي ألزمنا الله تعالى توقيره والطاعة له، وحرم علينا معصيته ـــــ بكلام فاسقين قد ثبت جرحتهما، وقد أمرنا تعالى ألا نقبل خبرهما. بل لقائل هذا القول المردود مثل السوء، ولله تعالى ولرسوله المثل الأعلى، وهلا قال إذ لم يوفقه الله تعالى لقبول الحق: إن النص الذي خص بعضه بمنزلة شاهدين عدلين شهدا لأبيهما فلم يقبلا على مذهبه الفاسد، فلا يكون ذلك موجباً لرد شهادتهما في سائر ما شهدا به لغير أبيهما، فهذا قياس أصح من قياسه لو كان القياس حقّاً، فكيف والقياس باطل كله فاسد، إلا أن الذي علمناهم أمثل لأننا مأمورون بقبول شهادة العدلين كما نحن مأمورون بقبول النص الوارد من الله تعالى ورسوله والعمل به؟ فإذا سقط عنا قبول ما شهدا به لدليل قام على ذلك في بعض المواضع، لم يوجب ذلك سقوط سائر شهادتهما في سائر المواضع، وكذلك النص اللازم لنا قبوله إذا قام دليل على سقوط بعضه في بعض المواضع لم يكن ذلك موجباً لسقوط باقيه وسائره. فهذا أشبه مما قال، لأن الجرح الذي نظر به مسقط العدالة بالجملة، وليس خصوص النص بمسقط للعمل به جملة.

ولو شبه الشاهد المجرح عدالته بالمنسوخ من الملك والشرائع فأوجب بذلك سقوط جميعها عنا، لكان أدخل في التمويه، وألطف في التشبيه، ولكنهم مع قولهم بالقياس وتركهم له كلام الله تعالى وكلام رسوله فإنك تجدهم أجهل الخلق بترتيب باطلهم، وأشدّهم اضطراباً فيه وهكذا يكون ما كان من عند غير الله. ولله الحمد على ما وفق بمنه. قال علي: ونسي عيسى نفسه إذ قال بما ذكرنا، من أن النص إذا خصّ بعضه لم يؤخذ من باقيه إلا ما اتفق على الأخذ به منه، فهلا تذكر على هذا الأصل إذ قال ـــــ في نهيه عن قتل النساء ـــــ إن المرتدة لا تقتل، وهذا نص قد خص منه الزانية المحصنة والقاتلة، فهلا أسقط أيضاً منه المرتدة، ولم يأخذ منه إلا ما اتفق عليه من المنع من قتل الحربيات المأسورات، ولكن القوم إنما هم ناصرون لما حضرهم من مسائلهم لا يبالون بما أصلوا في ذلك، ولا بما احتجوا، ولا يستحيون من نقضه بعد ساعة، وإبطاله بأصل مضاد للأصل الأول على حسب ما يرد عليهم من المسائل كل ذلك طاعة لمالك وأبو حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن، وقلة مبالاة لمخالفة القرآن وترك كلام النبي . وبالله تعالى نستعين من الخذلان، ونسأل المزيد من التوفيق. قال علي: ولا فرق بين تخصيص بعض آية أو حديث ـــــ لم يرد في ذلك البعض تخصيص، لكن لأنه قد خصّ بعض آخر منهما ــــــ وبين من أراد من ذلك أن يخص كل آية وكل حديث، لأنه قد وجد آيات مخصوصات وأحاديث مخصوصة، وكل هذا تحكم بلا دليل، أو بدليل فاسد. وفي هذا إبطال الشريعة، ومن استجاز ما ذكرنا وصوبه، لزمه أن يقول بنسخ كل آية، لأنه قد وردت آيات منسوخات. وهذا يخرج إلى إبطال الإسلام، ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من خصّ سورة بكمالها أو قال بنسخ كل ما فيها، لأنه وجد بعضها منسوخاً ومخصوصاً. وهذا ما لا يقولونه وهو موجب قولهم الفاسد. قال علي: واحتج بعض من ذهب هذا المذهب فقال: من حلف أن هذه الآية أو الحديث مخصوصاً فيما قد قام الدليل على تخصيص بعضهما لم يحنث. قال علي: يقال له صدقت. ومن نازعك في هذا حتى تلحقه، ونحن نقر لك بأن هذا النص مخصوص إذا قام الدليل على خصوص بعضه، ولكن الباقي بعد ما خص مأخوذ على موجبه وعلى كل ما اقتضاه لفظه بعد ما خرج منه، ونحن على ما لزمنا من وجوب الطاعة له.

قال علي: ويلزم من قال بهذا أن يقول: متى وجدت عدداً قد استثني منه شيء وجب أن أسقطه كله، ومتى وجدت إنساناً قد وجب أخذ بعض ماله، لم أمتنع من أخذ باقته إلا أن يمنعني منه إجماع، ومن قال هذا لزمه في قول الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } أن يقول لعله قد خصت منها خمسون أخر بالاستثناء فيكون مقامه فيهم تسعمائة عام فقط أو أقل، وهذا فساد في العقل وكفر في الإسلام.

فإن قال قائل: قد رخص للزبير وعبد الرحمن في الحرير لحكة كانت بهما فقلتم أنتم: هو عام لكل من كان في مثل حالهما. قيل له: هذا هو نص قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } فكل مضطر إلى محرم فهو له حلال، وهذا الحديث ــــــ الذي فيه إباحة الحرير لعبد الرحمن والزبير هو بعض الآية المذكورة، وهو بمنزلة مفت سمع أن اليمين على من ادعي عليه، فأوجب اليمين بذلك على زيد، وعلى عمرو، وعلى خالد، لأنهم مدعى عليهم، فأصاب في ذلك وكل هؤلاء قد اقتضاهم الحديث المذكور.

فإن قال قائل: فهلا عممتم الآية التي ذكرتم في قوله: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } فأبحتم به أكل الميتة للباغي إذا اضطر إليها، وأنتم لا تفعلون ذلك؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق: إنما منعناه لوجهين: أحدهما: أن الباغي مستثنى من جملة المضطرين، وقد قلنا: إنه يجب استثناء الأقل معاني من الأكثر معان. والوجه الثاني: أن الباغي مضطر، لأنه لو ترك البغي لارتفعت ضرورته من أجله، فهو مختار لحاله غير مضطر إلى الميتة، لأنه لو أراد ترك البغي لكان قادراً على ذلك، ولحلت له الميتة حينئذ لضرورة ـــــ إن كانت به ـــــ إنما المضطر الذي لا يقدر على دفع ضرورته، ومن سلك طريقاً وهو باغ وتحصن في حصن وهو باغ فهو المختار لعدم التصرف فليس مضطرّاً، فليس له دخول في جملة من أبيحت له الميتة. وبالله تعالى التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.