ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في الأمر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في الأمر

هل يتكرر أبداً أو يجري منه ما يستحق به المأمور اسم فاعل لما أمر به.

قال علي : اختلف الناس في الأمر، إذا ورد بفعل ما، هل يخرج من فعله مرة عن اسم المعصية، أو يتكرر عليه الأمر أبداً فيلزمه التكرار له ما أمكنه، فبكلا القولين قال القائلون.

قال علي : والصواب أن المطيع غير العاصي، ومحال أن يكون الإنسان مطيعاً عاصياً من وجه واحد. فمن أمر بفعل ما ولم يأت نص بإيجاب تكراره، ففعله فقد استحق اسم مطيع، وارتفع عنه اسم عاص بيقين، وكل شيء بطل فلا يعود إلا بيقين من نص أو إجماع.

وإنما تكلم في هذه المسألة القائلون بقول الشافعي رحمه الله، في تكرار الصلاة على النبي في كل صلاة، لأجل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .

قال علي : ولو كان ما احتجوا به من وجوب التكرار صحيحاً، لما كان موضع الجلوس الآخر من الصلاة أحق به من القيام والسجود وسائر أحوال الإنسان، وهم إنما أوجبوا ذلك بعد التشهد الأخير من الصلاة فقط. وقد ورد حديث في لفظه إبعاد لمن ذكر عنده رسول الله ، فلم يصل عليه؛ فإن صح لقلت هو فرض متى ذكر ، وإن لم يصح فقد صحّ أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، ولا يزهد في هذا إلا محروم، والذي يوقن فهو أنه من يرغب عن الصلاة على رسول الله ، وعن فهو كافر مشرك، ومن صلى عليه وسلم ثم ترك غير راغب عن ذلك، ولكن عالم بأنه مقصر باخس نفسه حظّاً جليلاً فلا أجر له في ذلك ولا إثم عليه.

فإن قالوا : فما تقولون في الجهاد ؟

قلنا: قد صحّ أن الجهاد فرض علينا إلى ألا يبقى في الدنيا إلا مؤمن أو كتابي يغرم الجزية صاغراً بأمر الله تعالى لنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله، ويؤمن المشركون كلهم، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويعطي أهل الكتاب الجزية وهم صاغرون.

فالقتال ثابت علينا أبداً، حتى يكون ما ذكرنا، وحسبنا أنه فرض على الكفاية، وتركه للمطبق مكروه ما لم يقو للعدو، أو لم يستنفر الإمام، فأي ذلك كان، فالجهاد فرض على كل مطيق في ذات نفسه متعين عليه.

ويبطل قول من قال بالتكرار: أنه لو كان قوله صحيحاً، للزم من سلم عليه أن يرد أبداً، ولا يمسك عن تكرار الرد، لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } ولا خلاف في أن بمرة واحدة يخرج من فرض الرد.

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمنكر الذي يرى غداً غير المنكر الذي يرى اليوم، وفرض علينا تغيير كل منكر، وكذلك القول في الأمر بالمعروف، لأن المعروف الذي يأمر به غداً غير الذي أمر به اليوم، وقد جاء النص مبيناً بقوله  : «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ» ومما يبطل قول من قال بالتكرار قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً } وأمره تعالى بأداء الزكاة، وما أشبه ذلك، لا يلزم تكراره إلا ما جاء النص مبيناً بإيجاب تكراره، وإلا فوفاء واحد يجزي، ودية واحدة، ورقبة واحدة.

قال علي : وقد احتج على القائلين بالتكرار بعض من سلف، ممن يقول بأنه يخرج المأمور بذلك بفعله مرة واحدة، بأن قال لما أجمع الناس على أن التكرار لا يلزم حتى يمتنع المرء من الأكل والنوم والنظر في أسبابه، فلما صحّ ذلك لم يكن من حد في ذلك حدّاً أولى ممن حدّ حدّاً آخر، فوجب أنه يخرج من المعصية بفعل ما أمر بفعله مرة، واحتجوا أيضاً بقوله إذ سئل عن الحج أفي كل عام ؟

فقال  : «دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ»

قالوا: فلو كان الأمر يجب تكراره لما أنكر على السائل عن الحج أفي كل عام ؟ لأنه كان يكون واضعاً للسؤال موضعه، أو سائلاً تخفيفاً عما يقتضيه اللفظ، ولكن رسول الله خشي أن يكون سؤاله موجباً لنزول زيادة على ما اقتضاه لفظ الأمر بالحج، فيدخل ذلك السائل في جملة من ذم رسول الله بقوله «أَعْظَمُ النَّاسِ جُرْماً في الإِسْلامِ مَنْ سَأَلَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» .

قال علي : وهذا احتجاج صحيح ظاهر.

قال علي : وقد تعلق بالتكرار من قال بإيجاب التيمم لكل صلاة.

قال أبو محمد : وهذا خطأ، لأن نص الآية لا يوجب التيمم إلا على من أحدث بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } فلو تركنا ظاهر هذه الآية لوجب الوضوء فرضاً على كل قائم إلى الصلاة، ولما وجب ذلك في التيمم. لأن نص الآية بإيجاب الوضوء على قائم إلى الصلاة، وليس فيه إيجاب التيمم إلا على من أحدث فقط، ولكن لما صلى عليه السلام الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، علمنا أن المأمور بالوضوء هو المحدث فقط، وأما تكرار التيمم فنص الآية يبطله.

قال علي : واحتج القائلون بالتكرار بأن قالوا: وافقتمونا على أن النهي متكرر ثابت أبداً، وأنه متجدد كل وقت، فهلا قلتم إن المنهي يخرج عن النهي بترك ما نهي عنه ساعة من الدهر فقط، كما قلتم: إن يفعل مرة واحدة يخرج عن الأمر، وإن الأمر لا يعود عليه.

قال علي: هذه شغبة دقيقة، وقد قدمنا فيما خلا أن النهي هو أمر بالترك، وأن الترك ممكن لكل أحد، وليس يمتنع الترك على مخلوق، والفعل بخلاف ذلك منه ممكن، ومنه ما لا يقدر عليه، وقدمنا أن ترك المرء لأفعال كثيرة في وقت واحد موجود واجب، وأن فعله بخلاف ذلك، وأن المرء في حال نومه وأكله وصلاته ونظره في أسبابه، تارك لكل ما نهي عن تركه إن أراد الترك، وليس الأمر كذلك، بل لا يقدر على أداء أكثر الأوامر في الأحوال التي ذكرنا، وقد أمرنا عليه السلام أن نجتنب ما نهانا عنه، وأمرنا أن نفعل ما أمرنا به ما استطعنا، ولم يقل عليه السلام: فأتوه ما استطعتم، وكان حينئذ يلزم التكرار، وإنما قال  : «فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» و «من» إنما هي للتبعيض المقدور، فلما امتنع تكرار الأمر بما قدمنا قبل، من أن التكرار لوازم لكان تكليفاً لما لا يطاق، وأنه لما بطل ذلك كان من اقتصر في ذلك على حدّ ما يجده، أو عدد من التكرار يوجبه، أو على وقت ما متحكماً بلا دليل لم يلزم منه إلا ما اتفق عليه، وهو مرة واحدة يقع عليه بها اسم فاعل مطيع، ويرتفع بها عنه اسم عاص، وكان ذلك فرقاً صحيحاً بين ما لا يقدر عليه مما ذكرنا، وبين ما يقدر عليه من الترك في كل وقت، وفي كل حال، ومن أدى من الأمر ما استطاع فقد فعل ما أمر به، ومن فعل ما أمر فقد سقط عنه الأمر، وبالله تعالى التوفيق.

والقائلون بالتكرار: إنما اضطروا إليه في مسألتين أو ثلاث، وهم في سائر مسائلهم تاركون له، وقد قدمنا أن القوم إنما حسبهم نصّ المسألة الحاضرة بما لا يبالون أن يهدموا به سائر مسائلهم، وبالله تعالى التوفيق.

قال علي : وصحيح القول في هذه المسألة هو ما قلنا من أن يفعل مرة واحدة يؤدي المرء ما عليه، ولا يلزمه تكرار الفعل لما ذكرنا، إلا أن ترتفع تلك الحال التي فيها ذلك الأمر ثم تعود، فإن الأمر يعود ولا بد، كمرض المسلم تجب عيادته، فبمرة واحدة يخرج من الفرض ما دام في تلك العلة، فإن أفاق ثم مرض عاد حكم العيادة أيضاً، وفك العاني متى صار عانياً وجب فكه، كإطعام الجائع متى عاد جوعه عاد وجوب إطعامه، وكالتعوذ متى قطع الإنسان القراءة ثم ابتدأ القراءة، وكالوضوء متى أحدث، وكالصلاة في كل يوم، ولا يلزم تكرار شيء من ذلك بعد فعله في حال واحدة، وبالله تعالى التوفيق.

والقول بالتكرار باطل، لأنه تكليف ما لا يطاق، أو القول بلا برهان، وكلاهما باطل، لأننا نسألهم عن تكرار الأوامر المختلفة، وبعضها يقطع عن فعل بعض فلا بد ضرورة من ترك جميعها إلا واحداً، فأيها هو الواحد، وهذا هو القول بلا برهان، وكل ما كان هكذا فهو باطل بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | تتمة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | فصل في كيفية ورود الأمر | فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها | فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي | فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين | فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي | فصل في الأمر | فصل في التخيير | فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة | فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور | فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟ | فصل في أمره عليه السلام واحداً هل يكون أمراً للجميع ؟ | فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه | فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين | فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض | فصل في تناقض القائلين بالوقف | حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | تتمة حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | فصل في بيان العموم والخصوص | فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها | فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه | فصل في مسائل من العموم والخصوص | فصل من الكلام في العموم