ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/تتمة الباب الثالث عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


احتجوا على القائلين بالوقف فقالوا: هذا القول إلى متى يكون ؟

فإن حدوا حدّاً كانوا متحكمين بلا دليل، وإن قالوا حتى ننظر في دلائل القرآن والسنة، سألناهم فقلنا لهم: فإن لم تجدوا دليلاً على عموم ولا خصوص، ولم تجدوا غير اللفظ الوارد ماذا تصنعون ؟

فإن قالوا: نقف أبداً أقروا بالعصيان ومخالفة الأوامر، وأدى قولهم إلى أن الله يبين مراده، وأن الرسول لم يبين ولم يبلغ وهذا كفر.

وإن قالوا: إن لم نجد دليل على الخصوص صرنا إلى العموم، فقد رجعوا إلى ما نكروا، وأقروا بأنهم إنما حملوا الكلام على العموم بصيغته ولفظه، وبعدم الدليل على الخصوص، وهذا هو نفس قولنا الذي أبوه أولاً عادوا إليه من قريب، فإن قال قائل: إن هذا لا يوجد لزمهم السؤال الذي سألنا به أولاً من قولنا لهم: هل يخلو الدليل من أن يكون لفظاً آخر، أو معنى مستخرجاً من لفظ ؟ وألزمهم إيقاظ التفاهم أبداً، وأيضاً فإن ذلك موجود وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }

ولم تؤكد بشيء أصلاً وهذا عندهم محمول على عمومه، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } ولم يأت بتوكيد زائد فحملوه على عمومه دون دليل غيره وارد اللفظ فقط، ومثل هذا كثير جداً، بل هو الأكثر في القرآن والسنة، وإنما ادعوا الخصوص في مسائل يسيرة، وليس هذا مكان احتجاجهم بقرينة الوعيد، لأننا إنما نكلمهم في عموم كل ما اقتضاه اللفظ لا في الوجوب.

وقد حمل مالك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } على عموم جميع المساجد بنص اللفظ، لا بدليل زائد ولا بيان وارد، وحمل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } على جميع الأزواج، بلا دليل زائد، وليس شيء من ذلك إجماعاً.

وحمل هو وأبو حنيفة قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } على عمومه في النكاح والوطء بملك اليمين.

وحملوا كلهم أيضاً قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } على عموم بلا دليل، بل الدليل قام على خصوص ذلك، فأبوا من قبوله، فبان تناقضهم في ذلك، وبالله تعالى التوفيق.

قال علي : ويلزمهم أيضاً ألا يحكموا بالإجماع، إذ لعل ههنا خلافاً لم يبلغهم ولا يحكموا بنص، إذ لعله منسوخ ولا يقاس لأن القياس لا يكون إلا على نص أو إجماع والوقف واجب في النقص والإجماع، فبطل الدين كله على قول هؤلاء القوم.

قال علي : ويقال لهم: ما الفرق بينكم وبين من خصّ بالخطاب بعض الأزمان دون بعض، كما خصصتم أنتم بعض الأعيان دون بعض ؟ فإن قالوا: إن محمداً إنما بعث ليحكم في كل زمان. قيل لهم: وكذلك أيضاً بعث ليحكم على كل أحد في كل عين ولا فرق.

قال علي : وقد بيّنا في غير ما مكان أن اللغة إنما وضعت ليقع بها التفاهم، فلا بد لكل معنى من اسم مختص به: فلا بد لعموم الأجناس من اسم، ولعموم كل نوع من اسم، وهكذا أبداً إلى أن يكون لكل شخص اسمه، ومن سعى في إبطال هذا فهو سوفسطائي على الحقيقة، عاكس للأمور على وجوهها، مفسد للحقائق، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.

قال علي : ولا فرق بين الأخبار بالأوامر في كل ذلك وكل اسم فهو يقتضي عموم ما يقع تحته، ولا يتعدى إلى غير ما يقع تحته، والوعد والوعيد في كل ذلك كسائر الخطاب ولا فرق، والحديث والقرآن كله كاللفظة الواحدة، فلا يحكم بآية دون أخرى، ولا بحديث دون آخر، بل بضم كل ذلك بعضه إلى بعض، إذ ليس بعض ذلك أولى بالاتباع من بعض، ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل.

ويقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من قال: لعل الخطاب الوارد إنما خصّ به الصحابة دون غيرهم ؟ فكل ما قالوا ههنا فهو مردود عليهم في دعواهم خصوص بعض ما يقع عليه الخطاب دون بعض.

ويقال لهم : بأي شيء استجزتم قتل من قتلتم من المشركين، وقطع من قطعتم من السرَّاق، وجلدتم من جلدتم من الزناة، وحد من حددتم من القذفة، وخصصتموهم بإيقاع هذه الأحكام عليهم، دون سائر من يقع عليه اسم زان أو قاتل أو قاذف أو سارق، فهل ههنا إلا أنهم سرقوا وقتلوا وزنوا وقذفوا ؟

فهكذا فعل غيركم ممن أخرجتموه من الخطاب، وأسقطتم عنه ما حملتم على هؤلاء، فلأي معنى خصصتم من أمضيتم عليه الحكم دون من لم تمضوه عليه؟ فإن قالوا: بدلائل دلت على ذلك، لم نأب ذلك، وقلنا لهم: هذا قولنا، وحسبنا أننا قد أزلناكم عن الحكم بالخصوص المجرد الذي هو الافتراء على الله عز وجل في الحكم عنه تعالى بما لم يأذن به، وقد رام قوم أن يفرقوا بين الأوامر والأخبار، واحتجوا بأنهم مضطرون إلى العمل بالأوامر، وليست الأخبار كذلك.

وقال علي : وهذا فرق فاسد، لأننا مضطرون إلى وجوب اعتقاد صحة الأخبار وإلى الإقرار بها وهي التي وردت بها النصوص ـــــ كما نحن مضطرون إلى العمل بالأوامر، ولا فرق، والاعتقاد الصحيح فعل الله تعالى في النفس والإقرار بالمعتقد فعل النفس بتحريكها آلات الكلام من اللسان والحنك ومخارج الحروف، فلا بد لها من أن تخص بالإقرار بما اعتقدت أو تعم، وخوف الخطأ في العمل في الأوامر، كخوف الخطأ في الاعتقاد للأخبار على ما لا يجوز، واعتقاد الباطل لا يجوز، كما لا يجوز العمل بالباطل فصح أن الأخبار كالأوامر ولا فرق.

واحتج بعض من سلف من القائلين بالعموم على القائلين بالخصوص فقال: ما تقولون في قوله تعالى: {اللَّهِ وَخَاتَمَ} للنبيين من العرب دون غيرهم، أم عموم بنفس اللفظ ؟

فإن قالوا: خصوص كفروا، وإن قالوا: عموم بنفس اللفظ، تركوا لمذهبهم الفاسد، فإن ادعوا أن ذلك إجماع، لزمهم ألا يقولوا إلا بما أجمع عليه فقط، وقد قدمنا إفساد هذا القول فإنهم لو قالوا لكانوا بذلك خارجين عن الإجماع، لأن الأمة مجمعة على أن الاقتصار على القول بالإجماع فقط دون الائتمار للنصوص وإن وقع فيها اختلاف حرام لا يفعله مسلم، ولا يسع مسلم فعله، والنص من القرآن والسنن، جاء بوجوب طاعة النبي وتحكيمه عند التنازع والاختلاف، وأيضاً فهم لا يفعلون ذلك، فسقط تعلقهم بكل وجه، بحمد الله تعالى.

فإن قالوا: علمنا أنه آخر النبيين بقوله : «لا نَبِيَّ بَعْدِي»

قيل لهم، وبالله تعالى التوفيق: وهذا يحتمل من الخصوص ما تحمله سائر النصوص، ولا فرق، ولعله أنه أراد «لاَ نَبِيَّ بَعْدِي» من العرب أو في الحجاز أو إلى مائة عام أو ما أشبه ذلك، كما زعمت العيسوية من اليهود والجرمدانية القائلون بتواتر الرسل والغالية التي قالت بنبوة عليّ ونزيع والمغيرة ومنصور الكسف بالكوفة، وبيان وأبي الخطاب، وأيضاً فإن الإجماع إذ قد صح على ذلك فهو أعظم الحجج عليهم لإجماع الأمة على حمل هذا الخطاب على عمومه، وكذلك يسألون عن قوله  : «بُعِثْتُ إِلى الأحْمَرِ وَالأَسْوَدِ» وهذا يحتمل من الخصوص ما احتمله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } وما احتمله قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ، فلأي معنى خصصتم أحد الخطابين بلا دليل، وحملتم الآخر على عمومه بلا دليل إلا نفس اللفظ فقط ؟

واحتج عليهم بعض من سلف من القائلين بالعموم بأن قال إنكم متفقون على أن اللفظ إذا ورد فيه تأكيد فإنه محمول على عمومه، قال: فيقال لهم: إن التأكيد يحتمل من الخصوص مثل ما يحتمل الخطاب المؤكد ولا فرق، وقد جاء النص بذلك، فقال تعالى: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس} فجاء الاستثناء بعد تأكيدين اثنين.

قال علي : قال تعالى: {ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } ثم جاء الاستثناء بقوله {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون }

وقال تعالى مخاطباً لإبليس: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ثم جاء الاستثناء فيمن تاب عن اتباع إبليس، وفيمن تساوت حسناته وسيئاته التي اتبع فيها إبليس فجاء التخصيص كما ترى بعد التأكيد، فبطل احتجاجهم بالتأكيد، ولزمهم ألا يحملوا خطاباً على عمومه أبداً، أكد أو لم يؤكد، ولزمهم الوقف أبداً وألا ينتفعوا بتأكيد ولا غيره.

فإن قالوا: إنه يلزمهم إذا ورد الاستثناء، أن تقرروا بأن ذلك الخطاب أريد به الخصوص، قلنا لهم: وكذلك نقول: ولسنا معترضين على ربنا تعالى، ولا على نبينا ، ولا نعلم إلا ما علمنا تعالى، ولا ننكر صرفهما الألفاظ عن وجوهها ولا شرعهما الشرائع علينا، ولا تحريم ما حرما، ولا تحليل ما حللا، ولو أمرانا بقتل آبائنا وأمهاتنا وأبنائنا لسارعنا إلى ذلك مبادرين، أو أمسكنا مقرين بالمعصية غير داعين إلى ضلالة، ولا مصوبين لذنوبنا، بل مستغفرين الله تعالى من ذلك، راغبين في التوبة.

قال علي : وما أخوفني أن يكون ملقي هاتين النكتتين من القول بالوقف، في اتباع الظاهر وفي الوجوب، وفي العموم وفي الفور ومن القول بصرف الألفاظ الواردة عن الله تعالى ورسوله إلى تأويل بلا دليل، وإلى سقوط الوجوب بلا دليل، وإلى الخصوص بلا دليل، وإلى التراخي بلا دليل كافراً مشركاً زنديقاً مدلساً على المسلمين، ساعياً في إبطال الديانة، فإن هذه الملة الزهراء الحنيفية السمحة كيدت من وجوه خمسة، وبغيت الغوائل من طرق شتى، ونصبت لها الحبائل من سبل خفية، وسعي عليها بالحيل الغامضة، وأشد هذه الوجوه سعي من تزيا بزيهم، وتسمى باسمهم، ودس لهم سم الأساود في الشهد والماء البارد، فلطف لهم في مخالفة القرآن والسنة، فبلغ ما أراد ممن شاء الله تعالى خذلانه، وبه تعالى نستعيذ من البلاء، ونسأله العصمة بمنه، لا إله إلا هو.

فلتسؤ ظنونكم أيها الناس بمن يحسن لكم مفارقة ظاهر كلام ربكم تعالى، أو كلام نبيكم بغير بيان منها، أو إجماع من جميع الأمة، وبمن يزين لكم التأخر عن طاعتها، ويسهل عليكم ترك الانقياد لهما، ويقرب لديكم التحكم في خطابهما، والفرق بينهما بطاعة بعض ومعصية بعض، وهذا هو التخصيص الذي يدعونه بلا دليل، وبالله نعتصم.

قال علي : ويلزمهم إذا أجازوا تخصيص ألفاظ القرآن والسنن بلا دليل أو الوقف فيها، أن يجيزوا مثل ذلك في الأعداد ولا فرق، فيقفوا فيما أوجب الله تعالى من صيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة الواطىء في شهر رمضان، فلعله تعالى قد استثنى من الشهرين عشرة أيام في حديث لم يبلغهم، أو بقياس لم ينتبهوا له بعد كما استثنى تعالى من مدة نوح عليه السلام في قومه خمسين عاماً بعد ذكره عز وجل ألف سنة، ومثل هذا لازم لهم في جميع ما خوطبوا به، وهذا قول كما قدمنا ليس فيه إلا إبطال الديانة مع فاحش تناقضهم، وأنه دعوى بأيديهم بلا دليل.

فإن قالوا: هذا لا يجوز في الأعداد، لأنه لو لم يكن الاستثناء متصلاً بها لكانت كذباً قيل لهم: وكذلك الأخبار إن لم يكن على عمومها، ولم يأت نص آخر أو إجماع بتخصيصها كانت كذباً ولا فرق، وكذلك الأوامر إن كان المراد بها الخصوص، ولم يأت نص آخر، ولا إجماع بتخصيصها كانت تعنيتاً، تعالى الله عن ذلك كله.

قال لهم بعض من سلف القائلين بالعموم: فإذا لم يفهم من كل خطاب بمجرده ما اقتضاه لفظه فلعل قولك: نقول بالوقف: وقول من قال منكم نقول بالخصوص، إنما أردتم به في بعض المواضع دون بعض، ولعلكم أردتم غير ما ظهر إلينا من كلامكم، فإنكم تناظرونا دأباً في ألا نحمل الألفاظ على ظواهرها، ولا على عمومها، فأول ما ينبغي أن يستعمل هذا فيه، ففي كلامكم، فتجعلون في نصاب من لا يفهم عنهم مرادهم ولا يصح خطابهم، وصحت السفسطة بعينها عليهم.

قال علي : وكذلك يقال أيضاً للقائلين بالوقف أو الندب: أموجبون أنتم لحمل الأشياء الواردة من الله تعالى ونبيه على أنها غير واجبة، وعلى الوقف فيها، أم أنتم نادبون إلى ذلك؟ فإن قالوا: نحن موجبون لذلك قيل لهم: فما الذي جعل كلامكم محمولاً على الوجوب؟ وكلام ربكم تعالى محمولاً على غير الوجوب؟ وهذا كفر شديد ممن اعتقده، وضلال عظيم ممن تقلده، وإن قالوا: بل نحن نادبون إلى ذلك أقروا أنهم لا يلزمنا قبول قولهم، وبالله تعالى التوفيق.

وأيضاً قال علي : قولهم بحمل الألفاظ على الخصوص إنما معناه بحملها على بعض ما يقتضيه لفظها.

قال علي : وهذا أمر ليس في طاقة أحد فهمه، والوقوف على حقيقته أبداً، لأنه لا ندري أي أبعاض تلك الجملة يقبل، ولا أيها يرد، وليس بعضها أولى بحمل الحكم عليه من بعض، فصار ذلك تكليفاً لما ليس في الوسع، وهذه هي السفسطة نفسها وإبطال الحقائق جملة، وقد أكذبهم تعالى بقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } .

ويقال لهم أيضاً: أرأيتم قول الله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } لهذا التعليم الذي امتن الله تعالى به على أبينا آدم عليه السلام فائدة ؟ أم لا فائدة له ؟

فإن قالوا: لا فائدة له كفروا، وكذبتم الملائكة في إقرارهم بأن ذلك علم عظيم لم يكن عندهم حتى علمهم إياه الخالق عز وجل، وإن قالوا: إن لذلك التعليم فائدة سئلوا ما هي؟ ولا سبيل إلى أن تكون تلك الفائدة إلا إيقاع الأسماء على مسمياتها، والفصل بين المسميات بالأسماء، ومعرفة صفات المسميات التي باختلافها وجب تخالف الأسماء، ليقع بذلك التفاهم بين النوع الذي أسكنه الله أرضه، وأرسل إليهم الأنبياء بالشرائع، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

وإذ قد ثبت هذا وصح فكل من أراد أن يثبت أن الأسماء لا تفهم منها مسمياتها على عموم ما يقتضيه اللفظ، ولا يعرف بها ما علقت عليه فهو مبطل للعقل والشريعة معاً، وبالله تعالى التوفيق، وله الحمد على جميع نعمه لا إله إلا هو.

ويلزمهم في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أن يكون لعل ذلك في بعض الأمهات دون بعض، وفي بعض الأخوات والبنات دون بعض، أو لعل الذي حرم هو بيعه أو أكلهن دون جماعهن كما حملتم قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } عن بعض المشركين دون بعض، فلم تبيحوا قتل الرهبان، ولا قتل المرتدات، ولا أولاد المرتدين إذا بلغوا كفاراً، وكما فعلتم في القذف فلم تحدوا قاذف الكافرة والأمة المسلمة، وسائر ما حملتموه على الخصوص، ومثل هذا لازم لهم في كل خطاب في القرآن والسنن، وبالله تعالى التوفيق.

ويقال لمن قال منهم: إن الذي يدل على حمل الألفاظ على عمومه إنما هو للتأكيد الوارد.

قال علي : يقال لهم: لو كان التأكيد ما ذكرتم لكان كلامهم متناقضاً، لأنا نجد التأكيد يأتي مرتين وثلاثاً، الأول، يأتي لإخراج اللفظ من الخصوص إلى العموم، الثاني: مثله أيضاً، ولو وجب أن يكون مخرجاً للكلام المؤكد والتأكيد الأول عن الخصوص إلى العموم، فكان يكون التأكيد الأول خصوصاً وعموماً معاً، وهذا ولا يعلل الصحيح في ذلك ما قدمناه من أن التأكيد إنما هو حسم لشغب أمثالهم فقط، وليس التأكيد مخرجاً للكلام المؤكد عن خصوص إلى عموم أصلاً، وقد قال الله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } وقد أجاب بعض القائلين بالوقف عن هذه المسألة فقال: معنى قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } بعد ذكر: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } ى هو غير المعنى في {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } ى لأن {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } هو مخرج لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } و عن الخصوص إلى العموم و: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } دال على أنهم سجدوا مجتمعين لا مفترقين.

قال علي : وهذا جهل شديد، وكذب مفرط، لأن جميعاً ليس معناه الاجتماع، ولا هو من بابه، وهذه مجاهرة في اللغة، ولا يعرفها أهل اللغة، ولا يعرف أحد من أهل اللسان أن قول القائل: أتاني القوم أجمعون، أنه أراد مجتمعين، بل جائز أن يكون الذين أتوا أفراداً مفترقين، وهذه هي السفسطة التي حذر منها الأوائل، وجملة الأمران أن هؤلاء قوم تعلقوا بأنهم وجدوا ألفاظاً خارجة عن موضوعها في اللغة إما إلى مجاز، وإما إلى معان مشتركة فرأوا بذلك إبطال الحقائق كلها، وإبطال وقوع الأسماء على مسمياتها، واختصاص كل اسم بمنعها، وعمومه لكل ما علق عليه كانوا بمنزلة من قال: لما وجدت في الكلام كذباً كثيراً فأنا أحمله كله على الكذب، ووجدت في الشريعة منسوخاً كثيراً لا يحل العمل به، إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه، ووجدنا العمل بجميعه، ولا فرق بين هذا وبين قولهم: وجدنا ألفاظاً على غير ظاهرها، فنحن نقف في كل لفظ فلا نستعمله على مفهومه، إذ لعله قصد به غير ما يعقل منه، ووجدنا ألفاظاً لا يراد بها عمومها، فنحن نقف في كل لفظ فلا نمضيه على ما علق عليه.

قال علي : وقد قال بعض أهل الوقف، إذ سئل: فأي شيء نعرف بأن اللفظ على عمومه، بلفظ أم بمعنى ؟ وألزم أن احتمال التخصيص داخل في الثاني كدخوله في الأول، وهكذا أبداً، وكلف والفرق بين اللفظ الثاني والأول فَبَلَّح عند ذلك، إذ لا سبيل إلى فرق، فقال إن الأشياء التي بها يلوح العموم لا تحد ولا تحصر ولا سبيل إلى بيانها.

قال علي : وهذه ثنية الانقطاع التي من بلغها سقط حسيراً، وعلم أنه لا حيلة عنده ولا قوة لديه، وهو دليل من دلائل العجز والضعف، وكل من أقرّ بأنه لا يقدر على بيان قوله، فقد حصل في محل لا يعجز عن مثله ذو لسان إذا استجاز لنفسه الفضائح، فلا يعجز أحد عن أن يدعي ما شاء من المحالات والدعاوى، فإذا كلف بياناً أو دليلاً قال: هذا لا يطاق عليه.

قال علي : ونظر ذلك هذا المبلّح، بأن قال: كما أن العدد الذي وجب ضرورة العلم في الأخبار لا سبيل إلى حده.

قال علي : وقد كذب، بل ذلك محدود، وقد بيَّنا فيما خلا، وهو أنه إذا ورد اثنان من جبهتين مختلفتين فحدثا غير مجتمعين، وقد تيقن أنهما لم يلتقيا ولا توطآ، فأخبرا بحديث طويل لا يمكن اتفاق خاطر اثنين على توكيده، ولم يكن هناك لهما ولا لمن حدثا رغبة فيما حدثا به وعنه، ولا رهبة ولا هوى وذكرا مشاهدة أو سماعاً من اثنتين فصاعداً، كما وصفنا أيضاً أنهما شاهدا، فهو خبر ضروي يوجب العلم واليقين بلا شك، وأن عشرات الألوف إذا حشدوا وكلفوا خبراً ما، ولهم في ذلك رغبة أو رهبة أو هوى فجائز اجتماعهم على فعل الكذب، وقد شاهدنا ذلك في شكر الولاة وذمهم، إلا أن هذا لا يخفى، بل هو معلوم ضرورة من قبلهم، لأنهم وإن اجتمعوا على ما جمعوا له فكلهم يخبر صديقه وامرأته وجاره قبل أن يجمع، وبعد أن ينفض من ذلك الجمع بحقيقة الأمر وجلية الخبر، وهذا مشاهد كل يوم من أحوال الناس ونقل أخبارهم من موت أو ولادة أو نكاح أو طلاق أو عزلة أو ولاية أو وقفة أو ما شبه ذلك، وإنما أغفل الناس هذا لقلة المتفقدين لمثل هذا وشبهه، ولكثرة من ينسى ما يمر عليه من ذلك، وأصيخوا رحمكم الله إلى ما نقول لكم:

اعلموا ان كل ما يحمل كلام الله تعالى، و كلام رسوله على ظاهره و عمومه و الوجوب، فإن مذهبه الذي يصرح به هو أنه متى أمره الله نعالى بامر، او رسوله

قال:لا أقبل شيئا من هذا الكلام،إذ لعل له تاويلا غير موضوعه في اللغة، و لا أعمل بشيء مما أمرني به، او من الرجوع الى طاعة الله و رسوله و الإئتمار بالقرآن و السنن، و أخذها على ما هي عليه في اللغة العربية العمل بماجاء الأمر فيهما، فهذا هو الاسلام، غعليكم به، و ارفضوا ما خالفه مما ذكرنا قبل، ففيه الهلاك، فنعوذ بالله تعالى منه، و بالله تعالى التوفيق.

قال علي : فقد لاح بحمد الله تعالى فك القائلين بالخصوص، او بالوقف بالبراهين الضرورية، و بالله تعالى التوفيق.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | تتمة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | فصل في كيفية ورود الأمر | فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها | فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي | فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين | فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي | فصل في الأمر | فصل في التخيير | فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة | فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور | فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟ | فصل في أمره عليه السلام واحداً هل يكون أمراً للجميع ؟ | فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه | فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين | فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض | فصل في تناقض القائلين بالوقف | حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | تتمة حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | فصل في بيان العموم والخصوص | فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها | فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه | فصل في مسائل من العموم والخصوص | فصل من الكلام في العموم