ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل من الكلام في العموم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


قال علي: وإذا ورد أن رسول الله فعل فعلاً كذا نظرنا فإن كان عرضاً منتهكاً، أو دماً مسفوحاً، أو مالاً مأخوذاً، علمنا أن ذلك واجب، لأنه عليه السلام حَرَّم الدماء والأموال والأعراض جملة إلا بحق، فما أخذ عليه السلام من ذلك علمنا أنه فرض أخذه، وأنه مستثنى من التحريم المذكور، من ذلك جلد الشارب، وهمه عليه السلام بإحراق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وهو عليه السلام لا يهم إلا لحق واجب لو أصرّ عليه المهموم فيهم لأنفذه عليهم، لا يحل لأحد أن يظن غير ذلك، ومن قال: إنه عليه السلام يتوعد بما لا يفعل، فقد نسب إليه الكذب وناسب ذلك إليه كافر، ومثل ذلك القضاء باليمين مع الشاهدين وغير ذلك كثير.

فصل من العموم

قال علي: العموم قسمان: منه مفسر، ومنه مجمل، فالمجمل هو الذي لا يفهم من ظاهره معناه، والمفسر قد ذكرناه، وأما المجمل فلا بد من طلب المراد فيه من أحد موضعين: إما من نص آخر، وإما من إجماع، فإذا وجدنا تفسير تلك الكلمة في نص آخر قلنا به وصرنا إليه، ولم نبال من خالفنا فيه ولا استوحشنا منه كثروا أو قلوا صغروا أو جلُّوا، ولم نتكثر بمن وافقنا فيه كائناً من كان من قديم أو من حديث وقليل وكثير، وليس ممن كان معه الله ورسوله قلة، ولا ذلة، ولا وحشة إلى أحد، ولا فاقة إلى وفور عدد، فإذا لم نجد نصّاً آخر نفسر هذا المجمل، وجب علينا ضرورة فرض طلب المراد من ذلك المجمل في الإجماع المتيقن المنقول عن جميع علماء الأمة ــــــ الذين قال تعالى فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ـــــ وكيفية العمل في ذلك أن نأخذ بما أجمعوا عليه من المراد بمعنى ذلك المجمل، ونترك ما اختلفوا فيه، فهذا هو حقيقة ما أمرنا به من الأخذ بالإجماع، وترك كل قول لم يقم عليه دليل. وهذا الذي نسميه استصحاب الحال، وأقل ما قيل: فإن قال قائل: إن هذان اسمان مختلفان في المعنى، فما الفرق بينهما؟ ولم صرتم إلى أحدهما في بعض الأمكنة؟ وإلى الآخر في أمكنة أخرى، وما حدّ المواضع التي تأخذون فيها باستصحاب الحال، وما حدّ المواضع التي تأخذون فيها بأقل ما قيل؟ وأنتم تسمون فعلكم في كلا الموضعين اتباعاً للإجماع، وإجماعاً صحيحاً، وأنتم لا تسمون من أنفسكم بإجمال لا تستطيعون تفسيره، وتعيبون بذلك أصحاب القياس أشد عيب قيل له، وبالله تعالى التوفيق.

صدقت في صفتك وأحسنت في سؤالك، والجواب عما سألت عنه، إن الذي عملنا فيه بأن سميناه أقل ما قيل، فإنما ذلك في حكم أوجب غرامة مال أو عملاً بعدد لم يأت في بيان مقدار ذلك نص، فوجب فرضاً ألا نحكم على أحد لم يرد ناقض في الحكم عليه إلا بإجماع على الحكم عليه، وكان العدد الذي قد اتفقوا على وجوبه وقد صح الإجماع في الحكم به، وكان ما زاد على ذلك قولاً بلا دليل، لا من نص ولا إجماع، فحرام على كل مسلم الأخذ به، وأما الذي عملنا فيه بأن سميناه استصحاب الحال، فكل أمر ثبت إما بنص أو إجماع فيه تحريم أو تحليل أو إيجاب، ثم جاء نص مجمل ينقله عن حاله فإنما ننتقل منه إلى ما نقلنا النص، فإذا اختلفوا ولم يأت نص ببرهان على أحد الوجوه التي اختلفوا عليه، وكانت كلها دعاوى، فإذا ثبت على ما قد صح الإجماع أو النص عليه، ونستصحب تلك الحال، ولا ننتقل عنها إلى دعاوى لا دليل عليها، وهذا القسم موجود كثيراً، فهذا الجواب مستوعب لبيان جميع الوجوه التي سألت عنها، ومبين للحد الذي سألت عنه، وللفرق الذي سألت عنه ولوجوب المصير إلى ما سألت عن دليل وجوب المصير إليه، وبيان كون كلا الوجهين إجماعاً، وبالله تعالى التوفيق.

قال علي: ومن خالف الطريق التي ذكرنا فلا بد له ضرورة من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن يقول برأيه بلا دليل في دين الله عز وجل، وإما أن يقلد، وكل ذلك باطل، فلا بدّ له من الباطل. قال علي: ونحن نمثل من ذلك أمثله لتكون أبين للطالب، فنقول، وبالله تعالى التوفيق، إن ذلك مثل قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } . ومثل ذلك قوله تعالى: { فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } وقوله تعالى: { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وقوله تعالى: { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وقوله تعالى: {و متعوهنّ } وقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وقول رسول الله : «ما مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لا يُؤَدِّي حَقَّها، وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ لا يُؤَدِّي حَقَّها، وَمَا مِنْ صَاحِبِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ لا يُؤَدِّي حَقَّها إِلاَّ فُعِلَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَا وَكَذَا» ، وجاء النص بإيجاب النفقة على الزوجات وذوي الرحم وملك اليمين.

فأما قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فإنه حكم في مشركين قد أمرنا بقتلهم وأخذ أموالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وأوجب كل ذلك علينا وصح بالنص إيجاب دينار على الواحد منهم، فصح أن من بذل منهم أقل من دينار لم يجز حقن دمائهم بذلك، فكان الدينار أقل ما قال قائلون إنه جزية يلزم قبولها بالنص، وليس في أكثر من ذلك حد ووقف عنده فيقول القائل: هو أكثر ما قيل، فلو لم يكن ههنا حد يوقف عنده لما وقع عقد ذمته أبداً، لأنهم كانوا يكونون إنما بذلوا شيئاً طلب منهم أكثر، وهذا لا نهاية له، وليس من حدَّ حدّاً بأولى ممن حدَّ حدّاً آخر، فهذا لا ينضبط أبداً، فصح أن الحد الأول هو الواجب أخذه وهو الدينار إذا بذلوه ولم يطيقوا أكثر منه، وليس في النص لأخذ أكثر من الدينار ممن أطاقه، وبالله تعالى التوفيق.

وأما زكاة البقر فقد قدمنا ذكر خبر معاذ رضي الله عنه، وأن مسروقاً أدركه وحضر حكمه وشاهده، هذا ما لا شك فيه، ولم يكن أخذ زكاة البقر من عمل معاذ نادراً ولا خفيّاً، بل كان فاشياً ظاهراً معلناً مردداً كل عام كثيراً، فهذا غاية صحة النقل الموجب للعلم والعمل، وكذلك عمله ونقله في الجزية، فصح أن زكاة البقر والجزية مسندان صحيحان عن رسول الله من طريق معاذ. وأما عدد الجزية ومقدارها فقد ذكرناه آنفاً، فهو اللازم إلا أن يتفقوا معنا باختيارهم على أكثر، أو يتملّكوا دون عهد فيلزموا ما يطيقون، ويحرم بذلك دماؤهم، وسبيهم.

وأما الصغار عليهم، فإن النص قد ورد بإلزامه إياهم، فكل ما وقع عليه اسم صغار فنحن نأتيه فيهم، إلا ما منعنا منه نص أو إجماع فقط، ولذلك أبحنا دماءهم إن ركبوا فرساً أو حملوا سلاحاً أو تكنوا بكنى المسلمين، أو تشبهوا بهم أو سبوا مسلماً أو أهانوه أو خالفوا شيئاً من الشروط التي قد جمعناها في كتاب ذي القواعد، لأنه عموم واجب أخذه كله وحمله على كل ما اقتضاه اسمه، وهذا بخلاف ما جاء عن المسلمين، فإن المسلمين قد جاء النص فيهم بتحريم دمائهم وأموالهم وأعراضهم والإضرار بهم، وأوجب الله علينا كرامة كل مسلم بنهينا عن التحاسد والتنازع، وأن يحقر أحدنا أخاه المسلم، وأمرنا بالتراحم والتعاطف وهذا بخلاف ما أمرنا به في المشركين، فلا يحل من مال مسلم ولا من عرضه ولا من دمه ولا من أذاه إلا ما صحّ بإيجابه، فلذلك قلنا في الدية المأخوذة من المسلمين بأقل ما قيل. ولما صحّ تحريم أموال أهل الذمة بالجزية المتفق على قبولها، وجب أيضاً ألا نحكم عليهم بعد تيقنّاً تحريم دمائهم وأموالهم، وسبيهم، إلا بأقل ما قيل عليهم، واستصحاباً للحال التي قد تيقنَّا وجوبها علينا فيهم، وإنما حرم بعد الجزية مال الذمي استصحاباً للحال التي قد تيقنَّا وجوبها عليهم فيها، فلذلك لم نقل أيضاً في الدية المأخوذة منهم في قتل بعضهم بعضاً إلا بأقل ما قيل وذلك ثلثا عُشر دية المسلم إما ثمانمائة درهم، وإما ستة أبعرة وثلثا بعير، ما لم ينقضوا ذمتهم فيعودوا بنقضها إلى ما كانوا عليه قبل الذمة بالإجماع والنص وبالله التوفيق.

وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فقد بيّن ذلك نص عن النبي جليّ.

وأما قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فإننا صرنا في تفسير مقدار هذا الإطعام إلى نص ورد في الواطىء خاصة، وصرنا في كفارة الظهار إلى أقل ما قيل في ذلك، وهو موافق للنص الوارد في كفارة الواطىء. وأما قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فإننا صرنا في ذلك إلى بيان نصوص وردت في ذلك، وتركنا ما لم يأت فيه نص من الأموال، فلم نأخذ منه شيئاً، لما ذكرنا من تحريم أخذ مال مسلم بغير طيب نفسه، فحرم أن يؤخذ من مال مسلم شيء أصلاً إلا بنص بيّن جليّ أو إجماع، لأن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } هو مستثنى من جملة تحريم أموالهم، فلا يخرج من ذلك النص الأكثر الأعم إلا ما بينه نص أو إجماع. وأما قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } فإنما نأخذ في مقدار متعة المطلقة بما أوجبه البرهان قبل، استصحاباً لما قلنا من تحريم مال المسلم جملة. وأما قوله: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فإنا لا نجبر السيد على قبول أقل من قيمة المكاتب، ولا نجبر المكاتب على أكثر مما يطيق، لإجماع القائلين بإيجاب ذلك ــــــ وهم أهل الحق ــــــ على إيجاب المقدار الذي ذكرناه.

وأما قوله تعالى: {يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } فإنا صرنا في ذلك إلى مقتضى ظاهر الآية على ما بيناه في كتابنا في المسائل، لأن الأصل ما قد ذكرنا من تحريم مال المسلم جملة، ومن أنه لا يحل لأحد أن يفرض شريعة على أحد لا من صيام ولا من غيره إلا ما أوجبه نص، وأما قوله عليه السلام: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَما مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ بَقَرٍ، وَمَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ» فإنا صرنا في بيان مقدار الإبل والغنم والبقر المأخوذ منها ومقدار الحق المأخوذ منها ـــــــ إلى نصوص واردة في ذلك مبينة بياناً جلياً، ولذلك أوجبنا حلبها يوماً وردها فرضاً. وأما الذهب فإنه لا نص في مقدار ما يؤخذ منه الحق منها، ولا في مقدار الحق المأخوذ منها، فصرنا في ذلك إلى الإجماع ضرورة، وقد قدمنا أنه لا يحل من مال مسلم إلا ما أوجبه نص أو إجماع، فلم نوجب في الذهب إلا أقل ما قيل، فلم نأخذ أقل من أربعين ديناراً من ذهب ولا من الزيادة حتى يبلغ أربعين ديناراً أبداً بخلاف الفضة، لأن الفضة ورد فيها نص، فوجب حمله على عمومه بخلاف الذهب الذي لم يرد في مقدار ما يؤخذ منه نص يصح البتة، وبالله تعالى التوفيق. وأما حليّ الذهب فإنه قد أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في الذهب قبل أن يصاغ حليّاً ــــــ إذا بلغ المقدار الذي ذكرنا ــــــ ثم اختلفوا في سقوطها إذا صيغ فاستصحبنا الحال الذي أجمعنا عليها، ولم نسقط الاختلاف ما قد وجب باليقين والإجماع. وأما النفقات الواجبات فقد أوجبها تعالى بالمعروف، وأمرنا بالإحسان في ذلك، وهذا يقتضي الشبع والسكن والكفاية وستر العورة بما لا يكون شهرة ولا مثلة، فقد رأينا في هذا كله وجه العمل الذي من حفظه ووقف عليه كفي تعباً عظيماً، ولاح له الحق دون تخطيط ولا إشكال، بحول الله وقوته.

قال علي: وأما إذا ورد لفظ لغوي فواجب أن يحمل على عمومه وعلى كل ما يقع في اللغة تحته، وواجب ألا ندخل فيه ما لا يفيده لفظه، مثل قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فالخير في اللغة يقع على الصلاح في الدين وعلى المال، فلا يجوز أن نخص بهذا النص بعض ما يقع عليه دون بعض إلا بنص، فلما قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } }، ولم يقل معهم، ولا قال تعالى عندهم، أنه إنما أراد الدين فقط، فلذلك قلنا: إنه لا يجوز مكاتبة كافر لأنه لا خير فيه البتة، وأما المسلم فقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله خير كثير ففيه خير على كل حال، ولم يقل تعالى خير، وبعض الخير خير، وبالله تعالى التوفيق.

ومن ذلك قوله عليه السلام: «لَيْسَ فِيما دِونَ خَمْسَة أَوْسُقٍ مِنْ حَبَ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ» ، فوجب حمل «دون» على كل ما يقتضيه من أقل ومن غير، فسقت بذلك الزكاة عن الخضراوات كلها والقطاني والفاكهة وسائر الثمار كلها لأنها غير الحب والتمر، ووجب حمل الحب على ما يقع عليه في اللغة، لا يقع على القمح والشعير فقط، ذكر ذلك الكسائي وغيره من ثقات أهل اللغة في علمهم ودينهم. ومثل ما جاء أنه عليه السلام كان يجعل فضل المال في الكراع والسلاح، فوجب وضعه في كل ما يسمى كراعاً وسلاحاً، ولذلك لم يجز تحبيس شيء من الأموال إلا ما جاء فيه نص، لأنه شرع شريعة، فلا يحل الحكم بها إلا بنص، وأجزنا أن يحبس المرء على نفسه، لأنه داخل في عموم قوله عليه السلام: «إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ الأَصْلَ وَتَصَدَّقْتَ بِالثَّمَرَةِ» ، فجائز للمرء أن يتصدق على نفسه وعلى غيره، لأنه كله تصدق وقد صح عن النبي قوله: «ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقْ عَلَيْهَا» .

قال أبو محمد: وذكر بعض أهل الكلام في هذا الباب حديثاً رواه أبو عبيد في غريب الحديث، وهو أمره عليه السلام قوماً من جهينة بإدفاء رجل كان أصابه البرد، والإدفاء في لغتهم القتل فقتلوه. قال علي: وهذا حديث مكذوب لا يصح البتة، بل نحن على يقين من كذب مفتري، لأنه عليه السلام أفصح العرب وأعرفهم في لغتهم، ومأمور بالبيان، وليس من البيان أن يأمرهم بكلام يقتضي عندهم غير مراده ، ولا حجة لهم في قصة عدي في الخيطين، لأن عديّاً من قبله أتى سوء الفهم، وقد كان لعدي في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } كفاية في أن المراد خيط الفجر من خيط الليل، وقد كان نزل بعد: {دُدِ وقد فعل فعل عدي سائر الصحابة رضوان الله عليهم وهم أهل اللغة. وأصابوا في ذلك حتى نزل {لُلِ وانتقلوا عن الظاهر الأول إلى الظاهر النازل بعده، وهذا هو الذي لا يجوز لأحد تعديه، وبالله تعالى التوفيق، وهو الموفق للصواب.