انتقل إلى المحتوى

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث/فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة


فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي

قال القائلون : إن الأوامر على التراخي، وقال آخرون: فرض الأوامر البدار إلا ما أباح التراخي فيها نص آخر أو إجماع.

قال علي : وهذا هو الذي لا يجوز غيره، لقول الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } وقال تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقد قدمنا أن أوامر الله تعالى على الوجوب، فإذا أمرنا تعالى بالاستباق إلى الخيرات، والمسارعة إلى ما يوجب المغفرة، فقد ثبت وجوب البدار إلى ما أمرنا به ساعة ورود الأمر دون تأخر ولا تردد، وقد شغب بعض المخالفين فقال: ليس في قوله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } حجة في أن الأوامر واجب البدار إليها، لأنه تعالى أمرنا بالمسارعة إلى المغفرة لا إلى الفعل.

قال علي : وهذا مما يسر فيه هؤلاء القوم لعكس الحقائق، وقد أيقنا بقوله تعالى: {وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أن أحداً لا يؤتى المغفرة إلا بعمل صالح يقتضي له وعد الله تعالى بالرحمة والمغفرة، وعلمنا ذلك يقيناً أن مراد الله تعالى بقوله: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ }

إنما هو سارعوا إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من ربكم إذ لا سبيل إلى المسارعة إلى المغفرة إلا بذلك، وهذا من الحذف الذي دلت عليه الحال، وإنما قلنا هذا لوجهين:

أحدهما: النص الجلي الوارد في أنه لا يجزي أحد بمغفرة ولا غيرها إلا بحسب عمله.

والثاني: النص الوارد بأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، وليس في وسع أحد المسارعة إلى المغفرة المجردة دون توسط عمل صالح، فهذان الظاهران نصّاً أن في تلك الآية حذفاً دلت عليه الحال، فما كان مرتبطاً بوقت واحد كصيام رمضان فقد جاء النص بإيجاب تأخيره إلى وقته، فإذا خرج الوقت فقد ثبت العجز عن تأديته كما أمرنا إلا بأن يأتي في شيء من ذلك نصّ آخر فيوقف عنده، وما كان مرتبطاً بوقت فيه مهلة فقد جاء النص بإباحة تأخيره إلى آخر وقته، وإيجاب تأخيره إلى أول وقته، فإذا خرج الوقت فكل ما قلنا في الذي قبله ولا فرق، وذلك كأوقات الصلاة.

وما لم يأت مرتبطاً بوقت، ففرضه البدار في أول أوقات الإمكان، إلا أن الأمر به لا يسقط عن المأمور به لعصيانه في تأخيره، وكذلك ما كان مرتبطاً بوقت له أول محدود لم يحد آخره، أو ما كان مرتبطاً بوقت محدود متكرر.

فالنوع الأول : كقضاء صيام المريض والمسافر لأيام رمضان، فذلك لازم في أول أوقات القدرة عليه، فإن بادر إليه فقد أدى ما عليه وإن أخّره لغير عذر كان عاصياً بالتأخير وكان الأمر عليه ثابتاً أبداً.

والنوع الثاني : كوجوب الزكاة، فإن لوقتها أولاً وهو انقضاء الحول، وليس قبل ذلك أصلاً، وليس لآخر وقتها آخر محدود، بل هو باق أبداً إلى وقت العرض على الله عز وجل، لأن النص لم يأت في ذلك بانتهاء، والقول في المبادرة إلى أدائها وفي التأخير كما قلنا في النوع الذي قبله.

والنوع الثالث : كالحج فإنه مرتبط بوقت من العام محدود، وليس ذلك على الإنسان في عام بعينه، بل هو ثابت على كل مستطيع إلى وقت العرض على الله عز وجل، والقول في البدار إليه أو تأخيره، كالقول في النوعين اللذين قبله.

فإن قال قائل : فلم أجزتم صيام كفارة اليمين وقضاء رمضان غير متتابع، وكذلك صيام متعة الحج، وكذلك غسل الأعضاء في الوضوء، والغسل من الجنابة والجمعة، فأجزتم كل ذلك غير متتابع ؟.

قيل له، وبالله تعالى التوفيق: إنا لم نفارق أصلنا الذي ذكرنا، ولا خالفنا النص في شيء من ذلك، لأن الله تعالى إنما أوجب في الكفارة ثلاثة أيام، ومعنى ثلاثة أيام يوم ويوم ويوم، ولكل يوم حكمه. فإذا صام يوماً فقد صام بعض فرضه، وأدى من ذلك فرضاً قائماً بنفسه، والصيام شيء آخر غير المبادرة، فإذا صام غير مبادر فقد أطاع في أداء الصوم، وعصى في ترك البدار، وهما فرضان متغايران لا يبطل أحدهما ببطلان الآخر، وإنما ذلك كمن صلى ولم يزك، فعليه معصية ترك الزكاة، وله أجر الطاعة بالصلاة، ولا تظلم نفس شيئاً: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } .

وإنما كان يبطل أحدهما بترك الآخر، ولو جاء النص يربط أحدهما بالآخر، كربطه تعالى التتابع في صيام الظهار، وفي صيام كفارة القتل، فهذان إن لم يتابعا فلم يؤديا كما أمر الله تعالى، ولم يشترط التتابع في قضاء رمضان، ولا في الكفارات، ولا في متعة الحج، وأمر الله تعالى بالمسارعة إلى الطاعات، هو أمر بأن يكون فعلنا على تلك الصفة من المسارعة، فالمسارعة المأمور بها صفة لفعلنا، فمن تركها عصى وكان مؤدياً لما أداه غير مسارع ما لم يشترط الوقت والتتابع، وأمره تعالى بالتتابع في صيام الظهار، وكفارة القتل، هو أمر بأن يكون ذلك الصيامان على هذه الصفة، فالمتابعة المأمور بها هنالك صفة للشهرين، فإذا لم يكونا متتابعين فليسا اللذين أمر الله تعالى بهما.

وكذلك نقول في غسل الأعضاء في الوضوء وغسل الجنابة أنه غير مأمور بذلك، إلا إذا قام إلى الصلاة فقط، فمتى أراد صلاة تطوع أو صلاة فرض فهو قائم إلى الصلاة، ولم يخصّ تعالى بذلك القيام إلى الصلاة فرض دون القيام إلى صلاة تطوع، فله حينئذ أن يغتسل ويتوضأ، فإذا أتمها فله أن يؤخر التطوع ما شاء، وله تأخير الفرض بمقدار ما يدركها مع الإمام، أو كان ممن عليه فرض حضورها في الجماعة، أو إلى آخر وقتها، إن كان ممن لا يلزمه فرض حضورها في جماعة، ثم لا يحل له تأخيرها أصلاً أكثر.

وأما من لا يريد صلاة، ولا يمكنه صلاة، كالحائض إثر الجماع، فقد صح عن رسول الله أنه طاف على جميع نسائه، واغتسل بين كل اثنتين منهن، فصح بهذا النص أن الغسل جائز تعجيله، وإن لم يرد الصلاة بعده، وبالله تعالى نتأيد فلما أبيح لنا ذلك كان المفرق والمتابع يقع على فعلهما اسم وضوء وغسل على السواء وقوعاً مستوياً، وكان في غسله عضواً من أعضائه بنية ما أبيح له من تعجله، مؤدياً لفرض غسل ذلك العضو، ولكل عضو حكمه فمن فرق غسله أو وضوءه ما لم يقم إلى الصلاة فلم يترك مسارعة أمر بها حتى إذا أراد القيام إلى الصلاة، إما مع الأمام، وإما في آخر وقتها، ففرض عليه المسارعة إلى إتمام وضوئه وغسله.

وكذلك قلنا في قضاء رمضان: إنه إنما أمر تعالى بأيام أخر، ولم يشترط فيها المتابعة، فمن بادر إلى صيامها فقد أدى فرض الصوم وفرض البدار، ومن لم يبادر وصام فقد أدى فرض الصوم، وعصى في ترك فرض المسارعة.

وكذلك نقول فيمن لم يعجل تأدية زكاته في أول أوقات وجوبها، وفيمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان، أنه إن حج وزكى بعد ذلك فقد أدى فرض الزكاة والحج، وعليه إثم المعصية بترك المسارعة، لا يسقط ذلك الإثم عنه أداء ما أدى من ذلك إلا في الموازنة يوم القيامة، يوم وجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً.

قال علي : ومما يوجب أيضاً فرض المبادرة إلى الطاعة، قول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَـئِكَ الْمُقَرَّبُونَ } وقد قال  : «لا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرُهُمُ الله تَعَالَى» أو كلاماً هذا معناه، هذا وإن كان إنما أوجب أن يقول تأخر قوم عن الصف الأول لبعض الأمر المكروه، فهو محمول على ظاهره ومقتضى لفظه على ما قد أثبتنا وجوبه في الفصل الذي قبل هذا.

قال علي : وقد سأل أبو بكر محمد بن داود رحمة الله عليه من أجاز تأخير الحج فقال: متى صار المؤخر للحج إلى أن مات عاصياً، أفي حياته فهذا غير قولكم أو بعد موته ؟ فالموت لا يثبت على أحد معصية لم تكن لازمة في حياته.

قال علي : ونحن نزيد في هذا السؤال فنقول: وبعد الموت لا يأثم أحد إلا من سنَّ سنة سوء يقتدى به فيها.

فأجابه بعض المجيزين لذلك وهو أبو الحسن القطان الشافعي بأن قال: إنما كان له في التأخير بشرط أن يفعل قبل أن يموت، فلما مات قبل أن يفعل علمنا أنه لم يكن له مباحاً التأخير.

قال علي : ونحن نقول: إن أبا الحسن لم يحقق الجواب الشافي، وكان أدخل في الشغب لو قال: إنه إثم في آخر عام قدر فيه على الحج ولم يحج، كما قال الشافعي فيمن حلف بالطلاق، إن لم يطلق امرأته، إنها لا تطلق إلا آخر أوقات صحته التي كان فيها قادراً على الطلاق.

قال علي : ونحن نجيب في هذين الجوابين معاً ببيان لائح بحول الله وقوته فنقول: قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }

وإنما يلزم الله تعالى الإثم من ترك ما لم يعلم أنه ليس له تركه، أو قامت عليه بذلك حجة، أو عمل ما يعلم أنه ليس له أن يعمله، أو قامت عليه حجة بذلك، ولم يطلع الله أحداً على وقت منيته، ولا عرفه بآخر أوقات قدرته، ولا قامت عليه حجة في ذلك الوقت إلا ما قد قام في سائر الأحوال قبل ذلك، ولا حدث عليه من الأوامر إلا ما حدث قبل ذلك الوقت، فإن كان عاصياً في ذلك الوقت فهو عاص قبل ذلك الوقت، وإن لم يكن عاصياً قبل ذلك الوقت فليس عاصياً في ذلك الوقت، إلا بنصَ يخص ذلك الوقت، بوقوع المأثم فيه دون غيره، ومن فرق بين الأوقات بلا نص ولا إجماع، فقد قال بلا علم وذلك حرام. وأيضاً فإن الله تعالى لم يكلف أحداً أن يعلم هل يموت قبل أن يؤدي ما عليه فيأثم، أو يعلم أنه لا يموت حتى يؤدي فيسقط عنه المأثم، وقول القطان يوجب أن الناس مكلفون ذلك، ويوجب أيضاً أن يكون المستطيعون للحج المؤخرون له بلا عذر مختلفي الأحكام، فبعضهم آثم في تأخيره، وهذا مع ما فيه من التحكم بلا دليل، ومن تكليف المرء علم متى يموت، فمخالف لجملة مذاهب أصحابه في الفسخ في تأخير الحج جملة، وهو ممن لا يخالفها أصلاً، ولولا ذلك لشكرناه على خلافها ولم نلمه، وبالله تعالى التوفيق.

فبقي سؤال أبي بكر رحمة الله عليه بحسبه.

قال أبو محمد : ومما يبين أن الأوامر على الفور قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فأوجب تعالى قبول النذارة، وقال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فأمر تعالى بالتوقف في قبول خبر الفاسق واستثناه من قبول النذارة، وليس إلا توقف أو بدار، ولا سبيل إلى قسم ثالث إلا الترك جملة، والتوقف هو أيضاً ترك، فلما خص خبر الفاسق بالتوقف فيه، وأبانه بذلك عن خبر غير الفاسق، وجب البدار ضرورة إلى خبر العدل، فوجب الفور بالبرهان الضروري، وبطل الوقف إلا في خبر الفاسق.

قال علي : ويكفي من ذلك ما حدثناه عبد الله بن يوسف الرجل الصالح، قال: ثنا أحمد بن فتح، ثنا عبد الوهاب بن عيسى البغدادي، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا عبد الله بن معاذ العنبري وقال: ثنا أبي، ثنا شعبة، عن الحكم، سمع علي بن الحسين عن ذكوان مولى عائشة أنها قالت: قدم رسول الله لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس، فدخل عليَّ رسول الله وهو غضبان، فقلت: من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار ؟ قال: «أوَما شَعَرْتِ أَنّي أَمَرْتُ النَّاسَ بِأَمْرٍ فَإِذَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ، وَلَوْ أَنِّي اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ مَعِي حَتَّى أَشْتَرِيَهُ، ثُمَّ أَحِلَّ كَمَا حَلُّوا» .

قال علي : فرفع هذا الحديث الشك جملة، وبيَّن أن أمره كله على الفرض، وعلى الفور، وإن التردد حرام لا يحل، ونعوذ بالله العظيم من كل ما أغضب النبي .

فإن اعترضوا بمن بلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ، قلنا: هو بمنزلة من لم يبلغه الأمر في أنه لم يلزم حكماً فلا يلام على تركه حتى يبلغه، ولا يعذب على تركه حتى يعمله وبالله تعالى التوفيق بل حكمه الثبات على ما بلغه من المنسوخ، لأنه مأمور به جملة حتى يبلغه الناسخ، لقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } فصح أن الذي بلغه من أمر الله تعالى في القرآن أو على لسان رسول الله هو اللازم، لقوله عز وجل: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ } حتى يبلغه الأمر الناسخ، فحينئذ يسقط عنه المنسوخ ويلزمه الناسخ.

وأما احتجاجهم بتأخيره الحج، فقد حج قبل الهجرة، ورآه جبير بن مطعم واقفاً بعرفة، فأنكر جبير ذلك، لأنه كان من الخمسة الذين لا يقفون بعرفة، ويكفي من هذا كله أنَّا على يقين من أن الله تعالى أمره بتأخير الحج، حتى يعهد إلى المشركين ألا يقربوا المسجد الحرام، وإنما قطعنا على ذلك لقول الله تعالى آمراً أن يقول: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }

فصح يقيناً أنه لا يفعل إلا ما يوحي إليه ربه عز وجل، فلما أخرّ الحج علمنا أنه فعل ذلك بوحي، وكان قد أعلمه ربه تعالى أنه لا يقبضه حتى يتم التعليم، ويكمل التبليغ، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً، وهذا يقتضي أنه لا يموت حتى يعلِّم الناس مناسكهم، وليس غيره كذلك.

وأيضاً فلا ندري متى نزل فرض الحج عليه لعله إنما نزل عليه إذ حج حجة الوداع، وهذا هو الأظهر؛ لأنه لو نزل قبل ذلك لما آخر تعليم المناسك إلى حجة الوداع التي قال فيها: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هذَا» أو كما قال ، ويبين ذلك الحديث الطويل عن جابر؛ ففي أوله: ثم أذن رسول الله في العاشرة أن رسول الله حاج، فلو فرض الحج قبل ذلك لما أخّر الأذان في الناس بوجوبه عليهم.

والحديث المأثور من طريق ابن عباس وأبي هريرة إذ خطب الناس فقال : «إِنَّ الله فَرَضَ عَلَيْكُمُ الحَجَّ» فقال له قائل: وقيل إنه الأقرع بن حابس أفي كل عام يا رسول الله ؟ وهذا والله أعلم إنما كان في حجة الوداع.

وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها بما يدل على ذلك من خروجهم إلى الحج في ذلك العام، ينتظرون أمره والوحي ينزل عليه، والأحكام التي نزلت في تلك الحجة من نسخ الحج لمن لم يسق الهدي، وأن يحل بمتعة، ومن إيجاب القران على من ساق الهدي، وسائر ما نزل في تلك الحجة من بيان شرائع الحج مما لم يكن نزل قبل ذلك، وبالله تعالى التوفيق، وصلَّى الله على محمد نبي الرحمة، وهادي الأمة وسلَّم.

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثالث

في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | تتمة الأوامر والنواهي الواردة في القرآن وكلام النبي والأخذ بظاهرها وحملها على الوجوب والفور | فصل في كيفية ورود الأمر | فصل في حمل الأوامر والأخبار على ظواهرها | فصل في الأوامر، أعلى الفور هي أم على التراخي | فصل في الأمر المؤقت بوقت محدود الطرفين | فصل في موافقة معنى الأمر لمعنى النهي | فصل في الأمر | فصل في التخيير | فصل في الأمر بعد الحظر ومراتب الشريعة | فصل في ورود الأمر بلفظ خطاب الذكور | فصل في الخطاب الوارد هل يخص به الأحرار دون العبيد أم يدخل فيه العبيد معهم ؟ | فصل في أمره عليه السلام واحداً هل يكون أمراً للجميع ؟ | فصل في أوامر ورد فيها ذكر حكمه عليه السلام ولم يأت فيها من لفظه السبب المحكوم فيه | فصل في ورود حكمين بنقل يدل لفظه على أنهما في أمر واحد لا أمرين | فصل في عطف الأوامر بعضها على بعض | فصل في تناقض القائلين بالوقف | حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | تتمة حمل الأمر وسائر الألفاظ كلها على العموم | فصل في بيان العموم والخصوص | فصل في الوجوه التي تنقل فيها الأسماء عن مسمياتها | فصل في النص يخص بعضه هل الباقي على عمومه أم لا يحل على عمومه | فصل في مسائل من العموم والخصوص | فصل من الكلام في العموم